د. حسن السوداني: بالرغم من تخصصه في العروض البصرية والصور المتحركة من اكاديمية الفنون في روما الا ان الفنان كاظم الداخل اهتم كثيرا بالمنتج البصري الثابت بعد ان اسرته اللوحة وحلق طويلا بفضاءات لونية ميزته كثيرا عن اقرانه انتج خلالها معارض فنية تجاوزت العشرين في مختلف دول العالم منذ خروجه من الوطن الى منفاه الطويل الذي ظهر جليا في الكثير من اعماله التشكيلية وخاصة في معرضه الاخير الذي حمل عنوان quot; ذاكرة وطنquot;، الا انه هذه المرة ترك اللوحة الثابتة وعاد الى حنينه الاول quot; اللوحة المتحركةquot; ليخوض تجربة مشاكسة جديدة اطلق عليها quot; من.. فاهquot; ودلالات الاسم وان بدت متعددة الا انها تصب في معنى واحد الا وهو المنفى لياخذه هذه المرة الى عوالم الكشف الحي لمجموعة من الاشخاص الذين يعيشون في نفي دائم منذ اكثر من ثلاثين عاما يحاولون فيه استعادة ذكرياتهم المرة وهم يغادرون الوطن مجبرين مفارقين اجمل مفرداتهم الحياتية وحاملين معهم اخاديد من سياط الجلادين وعيون مغرقة بدموع تلمئ المشهد ارتباكا واضحا. واذا كان الخطاب الجمالي لدى الفنان كاظم الداخل يتميز بابتعاده عن الفكرة المحنطة وعن مفهوم التابعية التفسيرية اوالتمريرية للواقع بل هو عامل من عوامل بناء واكتشاف لكثير مما يعتري مجرياته، فاللوحة الثابتة لديه تقترح المغايرة من خلال استبدال منطق المطابقة والتبني بمنطق الإزاحة والتناظر، فهو يسعى إلى خلق عالم مواز للواقع مترفع عن النمذجة والاستنساخ والفوتوغرافية، والمغايرة لدى الداخل هي تلك التي تمتلك اشتراطاتها المعرفية والجمالية القائمة على التجربة الحقيقية لا الميل الافتعالي واستعادة التقليعات والتعلق بالتغريب لذاته. ومن هنا ترك المجال امام الشخصيات الخمسة بالاسهاب التذكري مقتنصا تلك اللحظات المخبوءة بين ثنايا الكلمات كاشفا عن حقيقة مرة في ذاكرة المنفين تتجسد في توقف الصورة في تاريخ المغادرة النهائية رغم ادعاء المنفيين انهم على قيد الذاكرة ومن هنا يتبين البون الواسع بين الذاكراة المتشظية في المنافي وبين الواقع الذي تلا عملية النفي ذاتها مما يحدث نوعا من عدم الاتفاق بين انطباعاتهم المترتبة على النفي وبين ما يعيشه الوطن او ما عاشه بعد خروجهم القسري وربما هذه الحقيقة تؤكدها اغلب الدراسات التي تختص بالتذكر الصوري وحجم المفقودات التي يمكن رؤيتها بوضوح قي حديث الشخصيات الخمسة. ورغم أن مشاريع الداخل البصرية لا تتلمس فيها حضورا مباشرا لثنائية محددة تجدها مجسدة كوحدات نصية داخل اللوحة الثابتة او المتحركة إلا إننا يمكن أن نتلمس ثنائية الحضور والغياب وهي من أكثر الثنائيات المفتوحة على أكثر من مستوى من مستويات الإيحاء والتأويل، فأغلب الحالات التي يتناولها في مشروعاته الفنية تعكس حالة من الاغتراب والوحدة والعزلة كتلك التي تناولها في مشروعه الشهيرquot; شعراء عراقيونquot; متناولا مجموعة من الشعراء كالسياب مثلا وهو الذي مات غريبا عن وطنه وعانى ما عانى من مرض وحرمان وتهميش وملاحقة، والنواب الذي ما زال يصارع المنافي بقصائده اللاهبة، والجواهري الذي عانى من النفي القصدي عن وطنه ومات غريبا وهو الشاعر العربي الأهم بعد جيل شعراء العرب الكبار. وربما يكمن السبب وراء اختيار الداخل لهذه المشروعات بالذات والمتعلقة بذاكرة وطنه العراق رغم محطاته الحياتية والفنية الكثيرة واشتغاله على أكثر من منطقة خلال السنوات الأخيرة هو حجم ما يعتمل داخله من نوستالجيا للوطن بقبابه وأنهاره وشعرائه وذلك النخيل الكثيف في مدينة البصرة حيث عرض أول لوحاته في غاليري 75 أيام دراسته الجامعية الأولى.
واذا كانت التجارب السابقة قد تناولت اسماء مشهورة في عوالم الفن والثقافة الا انه هذه المرة يذهب لشخصيات مغمورة في عالم النفيquot; تاجر، ضابط، اكاديمي، سياسية، موظفquot; وكأنه بذلك يريد ان يخلق نمطا من المعادل الموضوعي بين الشهرة وعدمها في هذا العالم الذي تهيمن عليه حالة الوحدة والبعاد والفصل الاجباري عن الاحبة وربما ايضا حالة الانهيار لحلم العودة الذي يمني المنفي فيه النفس لتلك الامكنة التي غادرها الا ان ذلك يقترب من الاستحالة في التحقق بسب البعد الزمني والجغرافي وما يحدثه الزمن من تغير انثروبولوجي على الامكنة والاشخاص، واذا كان الداخل قد ذهب للفليم الوثائقي الذي ياخذ الحديث عنه نواح متعددة بدءً من تحديد المصطلح مرورا بمدارس هذا النوع من الأفلام، فالفليم الوثائقي كمنتج فني لم يمتلك خاصية الثبات امام تطور الحياة وتطور تقنيات السينما لذا شهد تنوعاً في الانتاج على المستوى التعبيري. فقد شهدت الستينيات انتقالة مؤثرة في مسيرة الفليم الوثائقي بعد دخول الكاميرا المحمولة والشريط الحساس والصوت المتزامن حيز التطبيق كما أفرزت اتجاهات جديدة في السينما الامريكية والفرنسية. ومع التطورات التقنية التي نشهدها يوميا وتطور البث الفضائي قد أدى إلى دخول الفليم الوثائقي آفاقاً جديدة في نوع المعالجة وحرية أختيار الاسلوب لمتنه السردي. ولعل المعيار الأكثر احتكاما في هذا النوع من الأفلام هو درجة المصدقاية التي تحملها الصورة داخله ومدى أقترابها من الحقيقة. وهو ما حاول الداخل التشبث به رغم قلة الامكانيات المتوفرة لديه وبالتحديد الفنية منها، ولعل من بين اهم تلك المشكلات التي تواجه من يريد الولوج للفليم الوثائقي اعتبار الصورة الوثائقية اليوم صورة مباشرة أو أحادية لا شذوذ فيها ولا يمكنها أن تحدث بلبلة وهي تقترب من صور التحقيقات الصحفية التي يتوفر لها البعد العاطفي لكنها تفتقر لعنصر الوخز مما يبعدها عن الأهمية فيما بعد وهو ما يلخصه رولان بارت بالقول quot; أني أهتم بها ولكني لا أحبهاquot; فيما يذهب بعض نقاد الفن إلى أن أهمية الصورة تعتمد على ما تحمله من وثائقية بسبب ما يعانيه العالم اليوم من تطور سريع يتسهلك من بين ما يستهلكه تلك اللحظات الجميلة التي يحاول الفليم الوثائقي ان يحتقظ بها حية بالرغم من وفاتها المتعمد.
والداخل ولد في العراق عام 1950 وحصل على البكالوريوس في الاقتصاد السياسي من جامعة البصرة عام 1977. ثم حصل على البكالوريوس في الفنون البصرية من أكاديمية روما عام 1984. أقام أكثر من عشرين معرضا شخصيا من بينها: معرضين شخصين في مدينة البصرة( غاليري 75) في عامي و1975و1976.
الكويت في عام 1982. روما 1986. فلورنسا في أعوام 87، 88 و 89.السويد/ مالمو في عامي 91، 93. 97، 98، 99، 2000، 2001.لندن، كالري 4، في عام 1993. الدنمارك/ كوبنهاكن في عام1995. اشترك في العديد من المعارض التشكيلية في مختلف دول العالم. وهو يقيم حاليا في مدينة مالمو السويدية.