ما الذي يحملني على الغرق في أخيلة طبيب أسنان أُقابله للمرة الأولى فقط؟ وكيف أتركه ينشغل بتنظيف أسناني بآلاته الحادة، بينما تدّوخنّي عوالم أخرى بعيدة جداً، تلدها سحب الغبار الكثيفة المنطلقة من فمي بانسياب تام يتعانق مع هواء الغرفة البيضاء، فيما تتعانق خيالاتنا كلٌّ في ذهنه، ولكن في نقطة التقاء شعورية واحدة، وهل هناك لحظة أصدق من التلاقي شعورياً وسط حضور الواقع الوقح الذي يصرّ على أن يكون حاجزاً عملاقاً؟؟.. وخرجت من عيادته أعلم بيني وبين ذاتي أني أخرج من عالمين، عالمه الداخلي وعالم ثان هو غرفته، وأنّي في طريقي لثالث ربما يلد عالماً آخراً يحمل توائم جديدة من مساحات التلاقي الإنسانية الشاسعة التي لا تحدّها الرقعة المكانية...
بصراحة لم أتألم.. وكيف يكون للألم مكان وسط الرفض الكامل للحظة والقبول المطلق بأخيلتها العذبة اللا منطقية؟ ولكن... ربما تألمت دواخلي حينما أطفأتُ تلك السحب بإغلاق فمي بابتسامة عريضة ختمت بها لقائنا الإنساني العابر..

وأنا لغبائي في ساعة متأخرة ليلاً، طلبت حرجةً أشد حرج من نفسي التي تمنت صداقته لأسباب لا شعورية كدت أجهلها وأدركها في آن واحد..، وبدوري شكرت الرسالة الجريئة أشد جرأة لأنها قبلت الركض إليه لإبلاغه برسالتي، وأيُّ مكابرةً هذه على الزمن المنتهي في قبوي الداخلي البعيد؟ ربما كانت الرسالة محاولةً من ذاتي العنيدة لإطالة أمد اللحظة الخافتة المسروقة من قسوة جفاف المكان، لكنها أبداً اندثرت وضاعت وانتهت كالغبار المنثور في الفضاء الواسع، و ظلّ الشعور يقبع وحيداً غائراً داخلنا نحن الإثنين، وما أجمله!

ويبقى أنّ لدىّ ما شعرت به، أمّا شعوره هو فبقي مخبوءاً في صدره، لا أدري حقيقته،فلعلّه يبوح به لصديق ما في وقت ما، هذا إن كان يستحق البوح..!! فهل كنت غبية وحمقاء وصغيرة في نظره حينما سمحت لنفسي بالاستسلام لتلك اللحظة؟!