عبدالله كرمون من باريس: تطرح quot;حورية الماءquot; للكاتب البروسي فريديريش دو لاموت فوكّيه (1777_1843)، التي صدرت بالألمانية سنة 1811 إشكالية في طريقة تناولها وفي شأن فهمها.
يعتبر فوكيّه، كاتبها، ضابطا بروسيا منحدرا من أصل فرنسي، استطاع أن يزاوج بين حملِه القلم والسلاح معا. ترجم الكتاب إلى الفرنسية وتأثر به فنانون كثيرون. كما أن الرسام الشهير أرثور راكهام قد أنجز سنة 1909 اللوحات التي تزين النسخة التي نشرتها دار ريفاج اليوم.
وإذا تشعبت الزوايا التي عالجها النقاد من خلالها، فلأنها تمنح بالفعل مجالا فسيحا لتعدد القراءات، سواء اعتبروها قصة أو حكاية شعبية فإنهم لم يفلتوا من مراعاة عالمها الغريب، ومن تم سعوا، كل من جانبه، إلى فك التمفصلات التي تتشكل منها.
بالرغم من أهمية زمن كتابة النص في تقييمه، فإن طابعه الأسطوري يكفل إجراء قراءة خاصة له. إذا كان من ضمن التعريفات المتعارف عليها بصدد التفريق بين الحكاية والأسطورة في تعريفيهما، أن الأولى تنتهي بنهاية سعيدة في الغالب أما الثانية فتنفرد بنهاية تراجيدية، فإن نص فوكّيه الذي عرف نهاية مأساوية قد يصنّف ضمن الثانية.كما لم يتخذ فيه الزواج، مثلما في الحكايات، شكل هدف يتم السعي إلى تحقيقه، بل أعطي منذ البدء كنقطة انطلاق إشكالية للأحداث.
تضطلع الأسطورة أيضا بالتطرق إلى الموضوعات الميتافيزيقية والفلسفية الكبرى، بينما تنفرد الحكاية الشعبية عادة بتناول الأسئلة الاجتماعية والنفسية. غير أن فوكّيه قد راوح بين هذين القطبين في quot;حورية الماءquot;.
يُعد الخوف من العوالم المائية بنية ثابتة في كل الثقافات، سواء لأنها ما تزال مجهولا غامضا: كانت ظلمات محيط أو أديما غامقا لبركة ساكنة. إن سر الماء الملغز هو السبب. ولطالما نسجت قصص كثيرة حول حيوات الأعماق المائية وتحولاتها العجيبة.
وضع فوكّيه على المحك عدة تقابلات في نصه: المدينة/القرية، الثراء/الفقر، عالم الحوريات/عالم البشر، ثم ربط عالم الحوريات بعالم لا روح فيه، والروح هنا ثقل ثقيل أكثر منه منة خالصة. الروح سبب في الفناء وفي تحمل مسؤولية الوجود.
إذا كان الوصف الجميل _ الذي لم يضن به فوكّيه_ للطبيعة غزيرا في نصه، فلأنه يميل إليها ميلا خاصا، أما رده مجاري المياه، وديانا، بحيرات، وحتى الآبار الساكنة، عوالم مسكونة بكائنات لا تشبه البشر في كثير من خصائصها، فإن ذلك أيضا إعلاء خاص من قدرها.
إن عنصر الماء مثقل بأجنة الحياة، والموت صيغة ملازمة في معادلات هذه الحياة نفسها. لذلك نرى أن الماء في النص سبب وصل وفصل، بين العوالم المتضاربة، فقد يكون الهدير المرغي والمزبد حاملا لحركة إيجابية أو سلبية.
مما تروم إليه الحكاية هو أن تخلص إلى مغزى محدد، وما شغل فوكّيه هنا هو شأن الوفاء، لذلك بنى نصه كاملا حول زواج غريبٍ بين شاب نبيل وغادة حسناء، لم يعرف حينئذ بأنها حورية ماء، لما التقى بها أول الأمر عندما ضل في شبه جزيرة كثيفة أدغالها. أتى إليها في رحلة اختبار أرسلته إليها شابة خلبت لبه تدعى برتالدا.
سوف ينسى هولدبرون فتاته الأولى كي يتزوج بالحورية. لكن الغرابة التي تحكم المتن الحكائي ستعمل على الوصل بين الفتى وبين الفتاتين من جديد، الشيء الذي سيدفع بالنبيل إلى الوقوع في المحظور.
لاحظنا أن الفتاتين قد بليتا برخاءِ وشقاءِ أمرين يليهما ضداهما تباعا، الحورية ستغادر، طوعا قصر الكريستال الذي يقطنه أهلها في الأعماق، كي تمضي للعيش مع الصياد العجوز وزوجته، بحثا عن روح.
أما برتالدا فهي بنت هذين الصيادين قد فقداها وتبنتها عائلة ثرية، وراحت ترفل في بحبوجة العيش في قصر.
لقد حققت الحورية هدفها، بحصولها على الروح، غير أنها ربما لم تكن عالمة بما يحيط بكسبها من شجون، فاعترضت سبيلها شؤون الوفاء والقيم المرتبطة بالحب، وكل العوائق الكامنة في استحالة التأقلم مع عالم ليس لنا.
نخلص إلى أن الحكاية تشير إلى التضاد القائم بين عوالم متباينة، كما بينت النتائج المترتبة على التهور الذي يزج بالمرء في ارتكاب التوغل في عالم مجهول وغريب.
عندما غابت الحورية حينا على بعلها، وهو اختبار أيضا، سعى الرجل إلى البناء ببرتالدا رغم كل التحذيرات التي وُجهت إليه من طرف المحيطين به في ذلك الشأن، ما جر عليه غضب الحورية، وإحساسها بالغبن وبالغدر، ما أفضى بالتالي إلى وقوع ما ليس منه بد.
في الأخير، أودت قبلة من الحورية بالفارس النبيل، تلك رغبته، بعدما اطلع على حتمية ذلك الأمر، الذي لا مرد له، أما الماء الذي أضحى يحيط بقبره، فهو الحبيبة التي تبادل حبيبها المفقود القبلات!

[email protected]