يروي أن في عهد سحيق منذ أيام سومر، إنه كان هناك ملكا عادلا يحكم مدينة آرباخا التي سميت باسمه، وهي مدينة النار والنور كركوك، يسكن في قصر داخل قلعة حصينة، القصر ليس بعيدا عن مكان الكنيسة الحمراء الحالية، فشاءت الأقدار أن تهبه ولدا الذي سيورث العرش بعد موته، لكن ولي العرش هذا كان فاسدا، سيء الصيت والسيرة والأخلاق ويأتي بالفاحشة وسوء الأعمال التي تدني الجبين، طاغية يغدر، ويقتل، ويضطهد عامة الشعب.
ذات مرة حاور الملك حاشيته من الحكماء والعقلاء والمستشارين حول أمر ولي العهد، فلم ينل منهم الجواب الشافي أو الحل الأمثل، فبقى في حيرة من أمره، وهو الملك الذي أحبه شعبه، وكان قريبا منه يستمع إلى شكواهم ومطالبهم، وكان متواضعا يستقبل الفقير والغني في إيوان قصره الملكي، لا يفرق بين ضعيف أو قوي، حيث كانت شريعة المملكة العدالة، ومكافحة الظلم إن وجد. وهذا ما عزز الاستقرار والأمان في المملكة.
ذات ليلة عميقة طويلة مظلمة جاءه في منامه كابوس غريب، وحين لاحت تباشير الصباح نهض الملك من منامه مرتعبا، يتصبب جسده عرقا، فأسرع نازلا إلى باحة القصر، ثم هبط إلى نهرخاصه صوي، وتوقف يتنسم بأنسام الصباح، ويتطلع إلى جريان المياه العذبة في النهر وقرية قورية على الطرف الاخر للنهر، ثم تقدم صوب النهر، انحنى وغرف بكفيه المياه الباردة القادمة من اعالي الجبال، وصبها على وجهه كما لو إنه ليس فقط أراد أن يغسل وجهه بها بل كذلك أراد أن يتطهر بها ليتخلص من الكابوس الذي راح يطارده. فجأة وجد نفسه يقف وجها لوجه قبالة بستاني شاب، فانحنى له البستاني، متراجعا إلى الوراء، ليواصل عمله في قلع الحشائش الضارة من شاطي النهر، وينظف الأرض من الأحجار، تعجب الملك من هذا المشهد مما دعاه أن يستدعيه ليعرف حقيقة هذا السر.
دخل البستاني خائفا خشيا أن يكون قد تصرف تصرا غير لائق اتجاه الملك، انحنى وقبل الأرض بين قدمي الملك، تعجب الملك لهذا الخشوع، واعتبره خشوعا لعدالته في حكم مملكته. حدق الملك طويلا إلى البستاني، والملك يهز رأسه متفكرا، ثم سأله بصوت حازم :
ـ لماذا تقلع الأعشاب الضارة، وتترك البقية تنمو ؟!
فأجاب البستاني بصوت ضئيل وقور :
ـ يا جلالة الملك العادل، في شاطئ النهر المواجه لقصر ملكنا الجليل تنمو أعشاب نافعة وضارة، الضارة منها تنمو بسرعة وتنافس النافعة في المكان والشرب، وتطغي على المكان بسرعة نموها وتكارها، ولا تبقي للنافعة متسعا لنموها وتكاثرها، فإزالتها تخدم النافعة، ونحن بحاجة إلى النافعة لأنها تفيدنا في الرائحة الطيبة والدواء والأكل.
ابتسم الملك، وبانت على ملامح وجهه الفرح والرضا، فقال مبتهجا :
ـ أحست يا بني.
صار الملك يفكر بحكمة البستاني، وقد توارت إليه أخبار ومعلومات عن سلوك ولي العهد المشينة ضد عامة الشعب وضد شرائع المملكة، فقرر الملك التخلص منه للحفاظ على المملكة، وديمومة العدالة فيها، لأن البستاني كان يمثل حقيقة الحكمة التي مفادها قلع الأعشاب الضارة من جذورها، فأرسل في طلب رئيس الشرطة، وأمر أن يسوق ابنه غلى الجبال، ومن ثم تصفيته جسديا كي ينهي شره الذي أضر كثيرا في المملكة، وعرض الرعية إلى انتهاكات مروعة، فما كان من رئيس الشرطة إلا أن يأمر قواته بتصفية ولي العهد بناء على حكم الملك.
كان هناك واشيا قد أفشى السر إلى ولي العهد الذي علم بالأمر، وتمكن من إقناع مقتاديه
وإغرائهم بالمال حتى أخلوا سبيله في الجبال، ثم عادوا إلى البلاد مخبرين رئيس الشرطة بأنهم نفذوا المهمة على أحسن ما يرام.
وتمر الأعوام وأخبار الشر لم تنقطع، وتتوارد مؤلمة إلى الملك، وتأتي إليه وهو في حيرة من أمره. فقد قبر الشر بقبر ولي العهد، ماذا يجري في مملكته ؟! هذا ما تساءل به الملك في داخله بصمت محير لا أن الشكوك بدت تراوده، فاستدعى رئيس الشرطة طالبا منه الإيضاح لما حصل في المملكة، فجاء مهرولا متعبا يتلعثم بكلامه :
ـ مولاي الملك، استميحكم العذر في هفوتي بتنفيذ أمرا أوكلته لي، إذ لم أكن أهلا له، حيث أن الفاسدين في الشرطة والسلطة قد رشاهم ولي العهد، لذلك لم ينفذوا الأمر. لقد أخلوا سبيله يا مولاي مقابل بعض النقود، الآن أمرت يا صاحب الجلالة بمحاسبة الجنات ليكونوا عبرة لمن اعتبر، وها أنا بين يديك يا جلالة الملك افعل بي ما شئت، ونحن نعاني من بطش وقسوة ابنك يا مولاي.
تجهم وجه الملك، وصرخ غاضبا :
ـ دونوا ما أقول.
فارتعشت الأيدي، واهتزت لتسجل بريش كلمات محفورة على احجار واجهة القلعة، كلمات دخلت التاريخ منذ عهد موغل في القدم، منذ سومرـ تلك حضارة البشر الأولى التي أوجدت كلمات الكتابة والقراءة ـ كان الملك يتلو، ودموع الحزن تترقرق في عيون رئيس الشرطة وحاشية الملك، ثم طفرت على الخدود دافئة نبيلة نادمة إذ مثل هكذا جرح لا يلتئم، سيظل ينزف دماء. هذا كان منذ التاريخ الأول، بينما شفتا الملك ترتعشان أسفا وألما، والكلمات تندفع من أعماقه متدفقة مثل سيل عارم في وديان يجرف الشجر والحجر :
ـ اسمعوا وأدركوا يا أهل آرباخا من يومنا هذا إلى يوم آخر الدنيا، سيكون حالكم في خراب، في دمار، وانقسام وتشتت لأن رجالي عصوا أمري، فتفشى الفساد في البلاد. ستظلون تحت رحمة الغرباء منقسمين إلى يوم آخر الدنيا، لا يطمئن ولا يثق أحدكم بالآخر، وسينخر السوس جسدكم، ويأكل الغريب ثروتكم وينام في حجوركم.

أترى إلى متى يبقى الفساد، وذلك الشرير متسلطا على الرقاب في عالم اليوم ؟!
أتراه خالدا ما دام نار بابا كركر الأزلي يتوهج أبد الآبدين ؟!
هذا ما يتساءل به أهل مدينة كركوك كلما حل المساء ,ومروا من امام واجهة القلعة وشاهدوا تلك الكلمات المسطرة على احجارها، وكلما نهضوا في الصباح وهم يرون معالم الخراب والدمار في فساد المفسدين، والنار تتوهج أبد الآبدين، وروحهم الطاهرة تتعذب في كلمات الملك آرباخا العادل، هذه الروح النبيلة تتوق إلى العدالة التي فقدت في فوضى الفساد.
استدراك:
هذه الحكاية توارثتها أجيال، والآن تتردد على ألسنة أهل كركوك كما لو إنها نبشت من الماضي القديم لتجد معناها وفلسفتها في وجود اليوم حيث يتفشى الفساد، ويتفشى الخراب، إذ لم يتوار شبح ولي العهد الشرير، وكركوك أغنى مدن العالم في النفط تعيش في ظلام.