كامل الشيرازي: تُطرح علامات استفهام عديدة في الجزائر بسبب استمرار امتناع سلطات الأخيرة عن التصديق على اتفاقية اليونسكو الصادرة سنة 2005، والخاصة بحماية وتعزيز تنوع أشكال التعبير الثقافي.
وفي ندوة نظمتها quot;إيلافquot; في الجزائر، وغاب عنها ممثلو وزارة الثقافة، أجمعت كوكبة من الناشطين والخبراء على انتفاء سببية هذا (الرفض)، ونادوا بالتدارك، لما لذلك من انعكاسات على تنمية الفعل الثقافي في دولة مغاربية رائدة على صعيد التنوع الثقافي.
الجزائر: تهتم الاتفاقية إياها بقضايا حقوق المؤلفين، واللغات المهدّدة، والمفاوضات التجاريّة في الميدان الثقافي، إلى جانب الصناعات الثقافيّة، كالسينما، والكتاب، والمسرح، والفنون البصريّة، والمؤلفات الصوتيّة وغيرها، إضافة إلى إيمانها بضرورة تبني سياسات ثقافيّة واضحة ومناسبة لخصوصيّة كل بلد.
لكنّ هذا المضمون لم يقنع في ما يبدو مسؤولي الثقافة في الجزائر بالانضمام إلى الاتفاقية، ورغم محاولاتنا المستميتة لاستيضاح المعنيين بشأن القضية، إلاّ أنّكل مساعينا باءت بالفشل، في المقابل، لم يتردد أكثر من ناشط ثقافيفي القصف بالثقيل إزاء ما اعتبروه quot;تعاطيًا سلبيًاquot; مع اتفاقية موسومة بالحيوية.
في هذا الصدد، تستهجن الأديبة حبيبة العلوي كيف لبلد أنجب quot;مالك بن نبيquot;، الذينادى قبل أكثر من نصف قرن، بضرورة تعايش الثقافات المتجاورة المتصاهرة وسعيها إلى التحاور والتلاحم في قلب وطن واحد، لذا تركّز العلوي على إسناد الثقافة الوطنية بهذا المعطى البنوي الأساس، الذي يمنحها القوّة والصلابة والثقة الكافية لمحاورة ومعايشة ثقافات مجاورة ونائية.
من جهته، نوّه د. حبيب بوخليفة بالاتفاقية، واعتبرها شيئًا مهمًا في الحفاظ على التراث اللامادي، الذي كان ثمرة جهود منظمة اليونسكو أيام إشراف وزير الخارجية الجزائري السابق quot;محمد بجاويquot;،حيث أسهمت جهود هذا المثقف في تتويج المشروع الذي باركته أكثر من خمسين دولة، تصدرتها الهند والصين والبرازيل، بينما بقي الموقف السلبي مهيمنًا على الجزائر.
يعتقد د. بوخليفة أنّ هذا السلوك غير مفيد، لأنّ التفاعل الثقافي هو الحامي للتراث بمختلف أطيافه وألوانه، والمساعد على تدمير الرقابة المطلقة على الإبداع الفني والثقافي، ويتصور أستاذ علم الاجتماع الثقافي في جامعة الجزائر أنّ السلطة تتخوف من المجتمع المدني وحرية التعبير، فإنها من دون شك تغرق في الفساد، ولا تهمها الحركية الثقافية، بقدر ما يهمّها الحفاظ على مصالحها، خصوصًا وأنّ الاتفاقية لا تتعارض مع مصالح الشعب الجزائري، بقدر ما تتعارض مع مصالح الأقلية المستبدة، عبر المركزية المطلقة في تسيير أمور البلاد والعباد.
بدوره، تساءل quot;عمار كسابquot; الخبير الجزائري في السياسات الثقافية عمّا إذا كانت دواعي امتناع الجزائر عن التصديق على الاتفاقية المذكورة، ناجمة عن إرادة وتفكير أم هي راجعة إلى إهمال.
ويلفت كسّاب إلى أنّ اتفاقية اليونسكو 2005 هي أداة مهمة جدًا،تحرك القوى الضاغطة بين بلدان الشمال ونظيراتها في الجنوب، وعليه فإنّ الاتفاقية تمنح الكثير من الأفضليات لدول الجنوب، وتسمح في تأمين أملاكهم الثقافية ضدّ أطماع الدول الغنية، ولعلّ هذا ما يفسّر رفض الولايات المتحدة الأميركية للاتفاقية ومعارضتها لها منذ البداية، بحكم عدم رغبتها فيتضييع امتيازاتها في توزيع الأملاك الثقافية على مستوى بلدان الجنوب.
يشير كسّاب إلى الحالة المغربية، فبعد طول نضال للمجتمع المدني، سيصدّق المغرب على الاتفاقية، بعدما ظل ممتنعًا طوال السنوات السبعالمنقضية تبعًا لارتباطه باتفاق خاص مع الجانب الأميركي، وتهديد اتفاقية اليونسكو للمصالح الأميركية هناك.
كما يقحم الخبير الثقافي الجزائري رفض إسرائيل الانضمام إلى اتفاقية اليونسكو، على خلفية معارضة الدولة العبرية للسماح بتوزيع المنتجات الثقافية الفلسطينية، في حين التحقت quot;إندونيسياquot; الدولة الإسلامية الأكبر عالميًا بالاتفاقية أخيرًا، ضاربة المثل بالدولة الإسلامية التي تجيد التعامل مع مجتمع دولي صاخب بالتغيرات.
ويعلّق كسّاب أنّ موقف الجزائر من الاتفاقية لا يزال غير مفهوم بالمرة، ومغطى بالغموض، فهل السلبية التي تنتهجها الجهات الرسمية راجعة إلى ضغوط أميركية؟ أم إنّ الأمر مرّده صراع بين السلطات المختلفة؟ أو أنّ المسألة تنحصر في مجرد quot;إهمالquot;؟ أو عدم وعي وإدراك لعظيم أهمية الاتفاقية المُشار إليها؟؟؟.
في المقابل كشف كسّاب عن لقاء سينظم قريبًا من لدن فريق عمل متخصص في السياسة الثقافية في الجزائر، لا يستسيغ الروائي quot;كمال قرورquot; تردّد الجزائر في مباركة اتفاقية حماية التراث غير المادي، في وقت سبقتها دول عربية كثيرة، وانخرطت في المشروع لحماية تراثها من الاندثار، مثل مصر، وسوريا، والأردن، ولبنان، وعمان، والإمارات، والسودان، وفلسطين، وقطر، والكويت وكثير من الدول التي تسابقت على المصادقة.
كما يُسقط قرور كل مبررات الرفض، طالما أنّ الاتفاقية تنص على الحفاظ على سيادة كل دولة، فيعني هذا أن الاتفاقية لا تطرح أي خطورة أو تهديد للسيادة، فأين يكمن التخوف والتردد، خاصة وأنّ المشروع إنساني، يعيد الاعتبار إلى الشفويات والتراث اللامادي، الذي يواجه اليوم الإهمال والنسيان في ظل تطور وسائل الاتصال الحديثة؟؟.
ولا تجد quot;حبيبة العلويquot; سببًا منطقيًا واحدًا يفسّر إحجام الجزائر الرسميّة عن تزكية الاتفاقية، فالجزائر كإحدى أهم الدول العربيّة، التي يُحتفى فيها بالتنوّع الثقافي، بل ويعدّ فيها هذا التنوّع معلمًا من معالم الهويّة، يبدو غريبًا عليها جدّا أنّ تتخلّف عن الانضمام إلى اتفاقية تقوم أساسًا على مبدأ حماية وتعزيز تنوّع الأشكال التعبيرية الناتجة من هذا التنوّع الخلاّق.
تُلفت العلوي إلى أنّه من مصلحة الجزائر الاستفادة من البرامج والخطط الدوليّة، التي تسير في مصلحة وضع تدابير عمليّة لحماية الصناعات والإبداعات الممثّلة لمختلف الكيانات التي تشكّل خارطتها الثقافيّة، وسيما أنّ هذه الاتفاقية ترسّخ التنوّع في زمن يصرّ على غلبة الكيان الواحد القوي ماديًّا والقاهر لباقي الكيانات غير القادرة على مجاراته، ومقاومة أحكام زمن العولمة واقتصاد السوق الذي لطالما عدّ الثقافة سلعة تجاريّة غير عابئ بخصوصيّة هذه quot;السلعةquot; وحساسيّتها ومدى ارتباطها أساسًا بإنسانيّة الإنسان.
وردًا على ما قد يسوّقه البعض ويتخذه مطية للهروب، تشدد العلوي على عدم إخلال هذه الاتفاقيّة بالسيادة الوطنيّة، من حيث إنّ الجزائر يُمكنها بعد قراءة متأنية لبنودها أن تفرض شروطًا، تراها موضوعيّة ومناسبة لخصوصيّتها، وضامنة وصائنة لأصالتها ولمصالحها، على هذا النحو يمكنها الانخراط في حركيّة المجتمع الدولي quot;الجديدquot; بشروطها هي، لا بشروطه هو، وذلك وارد جدّا ـ الانخراط بشروط الآخر ـ في حال التأخر عن دراسة نوع كهذا من الاتفاقيّات، وترك أمر التعامل معها إلى مناسبات، قد تكون فيها فرصة التفكير والتأنّي في اتخاذ القرار قد فاتت.
ويأسف أكثر من ناشط ثقافي جزائري لبقاء اتفاقيّة اليونسكو مجهولة تمامًا حتى في الوسط الثقافي المحلي، الذي يفترض فيه الاهتمام بكل جديد يخص المواثيق الثقافيّة الدوليّة، فكيف باتفاقية مرّ على إقرارها سبع سنوات كاملة.
وتعتبر حبيبة العلوي عدم فتح نقاش جدّي بين الفاعلين الثقافيين في الجزائر حول تفاصيل هذه الاتفاقية ومدى خدمتها الثقافة الجزائرية من عدمه، تقصيرًا مخلاً جدّا ومجحفًا في حق دولة في قامة الجزائر كبلد/قارّة تزخر بأشكال تعبير ثقافي، تتناسخ فيها وتتلاحق حضارات عالميّة عريقة وشامخة.
وينادي مثقفون بضرورة عمل المجتمع المدني في الجزائر على فتح نقاش عام حول اتفاقية التنوع الثقافي، وسط توقعات بعدم تأخر الجزائر أكثر في توخي الإيجابية مع موضوع بوسعه دعم أكثر من قطاع استراتيجي، لاسيما مع انتصار الاتفاقية لفكرة إدماج الثقافة في مسار التنمية لتحويلها إلى فاعل اقتصادي منفتح.
التعليقات