قصّةُ حيدر الكعبي / صور عائمة / المنشورة في الحوار المُتمدن 19/7/2010، سردٌ وصفيّ يتماوجُ في تفاصيل ضامرة وكابية عن المكان والزمان والكينونة والمشاعر وهدر القيم، يكادُ الحدثُ يحتضر فيه، ليجيء منقطعاً مثلَ خيوط ماء شحيحة تندلق من صنابير بيوت البصرة في ايام قيظوية. وكأني ب/حيدر/ عالم تشريح ينظر برؤية مجهرية الى الشيء / الجسد / لحماً وعظماً وجلداً ويستقدمه بحرفية الصانع الأمهر من شعر الرأس حتى قلامة الظفر واصابع القدمين. حين انتهيتُ من قراءتها كنتُ كمَنْ خرج من حلم كابوسي ثقيل. فكلُّ شيء فيها غيرعادي، بدءاً من وشاية الأخ حتى النهاية الفاجعة على حاشية النهر. ولأن / حيدر / مُبدعٌ مُوغلٌ في حداثيته وواقعيته، فينتقي مفردته بخلوص تمعّن مثلَ الرحيق تنتقيه النحلة من سرة الزهرة. انه ما فتيء يجعلنا نلهثُ وراءه. فما أن نفتح لغزاً لغويّاً أو بلاغيّاً حتى يصعقنا بآخر. لذلك اقول لمن قرأها أو سيقرؤها أنت في حلبة سباق من أجل فك طلاسم لم تعتدها في قراءاتٍ اُخرَ.. ففي قصته هو شاعرٌ نخبوي يتخطى الى ما وراء المُعطى الحداثي كما في قصائده. لم أقرأ لقاص عربي قصة تنطوي على خزين من الصوريتكيء بعضها على بعض، بل تلتصق وتلتحم من دون الغاء هويتها.. فيترك كلّ شيء يُعلنُ عن نفسه. كمَنْ يضع عناوين ومسمّيات لما يتمرأى لباصرته مثل الوجه وملحقاته والرأس وما يجاوره.اسمعوه وهو يتكلم على الاُذن / اشبه بعلامة استفهام / والعين والمنخرين والشارب والشفنتين. وعلى الرغم من كون الحركة في / صور عائمة / بطيئة ومُملّة أيضاً، بيدَ أنها مُمتلئة ومعبّرة وحادّة وجادة وجارحة لها ايقاعاتها الدينامية والجدلية عن زمن لا اخلاقي تذبدبت فيه نفوس الأنام. فتأريخُنا / تأريخ العراقي والعراق / من المبتدأ حتى ذي الساعة مُلطخٌ بالدم / دماء الاُخوة الأعداء / يُهدرُ بعشوائية. دم من ازمنة بعيدة مرّة يجرى مع جريان الزمن. كان العراقي وحدَه مَنْ لم تلمسه نسمة وئام. نحن واجيال قبلنا وبعدنا بُلينا بالقمع والتصفيات والإلغاء، فما أن يُقبرَ قامعٌ حتى يؤتى بمَنْ أشد قمعاٌ. اكثرُنا مرّ بما مرّ به / ناجي / الذي احتفى به النهر ولم يحتف به أهلوه. القسوة المُرافقة ُ للزمن تأتي بطوفانات الإرهاب فكراً وسياسة وقامعين ذاهبين وآيبين كما لو أن هناك معاملَ تُفرّخهم وتضعهم في ثقوب العيش والحياة والزمن العربي. تابعوا ناجي في قصة حيدر مذ زار أخاه في البيت حتى ساعة احتضاره، كلُّ ما تمرأى لنا فيها مُدان ومشارك في الجريمة، بدءاً من سماعة التلفون وسلكه واذن شقيقه والسرير والراديو المركون في قاع الذاكرة والتلفاز المُغبَر وصورة الزعيم المغدورالآفلة، والقائد الضرورة والإمام على وسيفه ذي النصلين وانفتاح الباب وولوج رجلي الأمن غرفة الجلوس والعرق الذي احتساه ناجي والسوق واناسيه وسيارة الجيب والقطعة السوداء التي كتمت نظرعينيه واللكمات التي نالها في السيارة والضرب الوحشي الذي طاله في دائرة الأمن والشرطي الذي يلثغ...و... و.......و... حتى بلغ السيلُ الزُبى وخروجه، ثمّ وُجِدَ ميّتاً أمام باب المحافظة على حاشية نهر العشار , الوصفُ فاجعي يتقصّى عن كلّ ما يجرح الإحساس. قصة ُحيدر / ان جاز قولي / تُمكنُ قراتُها من النهاية نزولاً الى بدايتها، والحدثُ نزولاً وصعوداً هو نفسه بطيء الخطى كابي النبرة.الكلماتُ جارحة لكنها كالمسكنات تُريحُ ولا تقتل. لقد وضع الإمام علي أمامنا / خللَ صورته المعلقة على الجدار / بكل عنفوان صفائه الانساني والبطولي. لكن لم زجّ الكعبي هذه الصورة وسط هذا الجو اللااخلاقي. وبجواره صورة الجلاد الذي كتم انفاس العراقيين من اقاصي كردستان حتى حواشي الخليج وحلّت محل صورة الزعيم عبد الكريم قاسم قبل أن يُصفى هو وحكمُه. ربّما أراد ان يقول لنا: إن الشرّ مهما بلغت سطوتُه يجاوره خيرٌ يُحاوره بل يُقصيه أحياناً لأنّ كفته أرجح واقوى. اذاً كلاهما يجري الى جوار البعض مثل سكتي القطار. وكأني ب/حيدر / فنّان تشكيليٌ رسم تأريخ الفوضى العراقية منذ تأسيسها حتي يوم يُبعثون. وكل صفحة من صفحات أيامنا الآفلات هي نفسها تتكرّرُ وتُعاد ولا من جديد. لا احدَ مثلَ حيدر اعطى لغرفة صغيرة كلّ هذه الحياة الواسعة نبضاً وذاكرة ًواستبطاناً ومُخيلة وانطواء على تأريخ مُعزّز بشهادة استقرائية متخمة حدّ التورّم. الغرفة ُ الصغيرة التي يتكلم عنها / او تتكلمُ عن خزينها / هي عالم ماضوي اندثر بكل مُعطياته واشيائه، لكنْ لاتزال طفولتُه وأيامُها العابرات مركونتين فيها. وحين يغيّر الزمنُ ثوبه تلحقه مستلزماتٌ اخرى. لكن ما يتبقى هو الذكريات.: اول ثوب ارتداه واول حذاء احتذاه واول صفعة تلقاها واول اغنية سمعها من الراديو. لكن أخاه لطخ كلّ تلك الحلقات الزاهية المتألقة، أطفأ عنفوانها وصدقيتها حين استدعى رجلي الأمن. كان القاتلُ / قاتل ناجي / اخاه والآخرين، تُرى كيف سينام بعد ان وضع حياة / ناجي / على طبق الموت.
لقد اغترف حيدر، في انجاز هذه القصة، من كلّ فن ومعرفة ومن قيعان الذاكرة ومتونها المتبقية فيها. كان / كما قلتُ / تشكيليّاً بارعاً اشتغل على بنية قصته لوناً وشكلاً وتعبيراً. وفي اللغة مبتكراً على تطويع المفردة، مُمسكاً بها من كلّ أطرافها وآفاقها. وفي مُكنة أيّ ناقد أن يأخذ هذه القصة ابتغاء دراستها وتحليلها من جوانب شتى: اللغة، اللون، الحركة، الوصف. السلوك، الزمان، والمكان، والتداعيات / استقدام ما مضى وما خفي بفعل تقادم الزمن /.... قارئُ: / صور عائمة / سيُصابُ بالصداع والدوخة واختلال ضغط الدم، وبالسخونة والقشعريرة، وقد تعروه الهلوسة أيضاً. وانصحُ كلّ قاريء أن يقرأ هذا السفر الغرائبي.. وحسبُ حيدر أنّه منحنا فرصة لإثراء مخزوننا اللغوي ووضعنا امام شظية من مآسي العراقيين التي تدورُ مثل رحى المطحنة لكنْ من دون توقف......

ملاحظة: كان بودّي لو اُلحقُ قصة / صور عائمة / بهذا الانطباع السريع، الا أني احجمتُ عن ذلك لئلا اُعاتب من دون استئذان مصدر نشرها. وفي مُكنة القارئ الرجوع الى الحوار المتمدن ليطلعَ عليها مباشرة