عمله الروائي الاول (الدكتاتور فنانا) الصادر في عام 2007 عن دار الساقي، اعلن دفعة واحدة عن وقوف روائي عميق وصبور وحذر وراء ذلك النص البديع على صعيدي المحمولات والتقنيات، كما كشف عن قدرة مستقرة في توظيف ضربات جمالية وفكرية اضافية شتى في الرواية العراقية الجديدة، وقد يكون بعضها مطروحاً بشكل او آخر قبلا، او مستلهماً لديه من معرفة مثابرة بالادب العالمي المعاصر.

في روايته الجديدة (التيس الذي انتظر طويلاً)، الصادرة عن دار ldquo;الحصادrdquo; في دمشق مؤخّراً في 446 صفحة من الحجم المتوسط، تتأكد قوة وخصوصية رياض رمزي في منهجه الروائي ذاك، ويتوارى حذره، كما تتأكد جرأته الواثقة والمثابرة على انتشال اللحظات المباشرة واليومية من رتابتها التسجيلية، مستغلا تقادم الاحداث، مانحا اياها عوالم اخرى تغادر فيها االلقطة الواقعية قيودها المعروفة نحو جماليات اضافية اكثر حرية، غالبا، وبالتالي اكبر خصبا وترفاً وتشعباً.
ثمة طريقة في السرد جديدة وخاصة ومتميزة لدى رياض رمزي في الروايتين. طريقة توغل في الكشف عن ملامح اخرى، ملامح اضافية هائلة انما خفية او ضامرة التفاصيل في الاصل، لدى الابطال، والشخصيات، والاشياء، والامكنة، والازمنة ذاتها، الى حد ان كل الحياة، حياتها، تأخذ قيمة اخرى عندئذ. بل تتكشف عن مكنونات تكاد تكون هي الحياة، او هي الجوهري فيها، حتى لو كان مجرد حياة مشهد ازهار: quot;كانت هناك شجرة ورد قصرت شمس تموز من قامتها، وقللت من احجام بتلاتها، شاهد غير بعيد عن اشجار الورد سيقانا نحيلة لورود آذان الفيل ضمرت لغياب الماء وباتت بحجم آذان العصافير.. رابطت مكانها ولم تعط ظهورها للجدار. كانت اوراق ورد الجوري المذعورة من الشمس قد احست بدنو اجلها فتناثرت على الارض كدم جاف، عند هبوب ريح خفيفة، وظلت على تلك الحال كل فترة الصيف ترابط في مكانها على الرغم مما هي عليه من اجهاد. وصفّ من النمل يتجه نحو بيته الصغير تحت الارض. ووراءه نملة تجر صرصورا متخشبا يفوقها قامة بعشر مرات..quot;
بيد ان هذا السرد التشريحي، المستفيد من التحليل النفسي بحدود وليس بافراط، والعفوي المظاهر، يخفي غابة واسعة من الرمزية العالية واكاد اقول الدائمة للشخوص والاحداث والتواريخ والامكنة وحتى لمصير الرواية ذاتها: كل شيء يجد مكانه مقادا في مساره القدري المرسوم سلفا في التشكيل الوجودي الكوني الذي يحاصرنا.
هل هذه الرواية، كما كتب احد النقاد، هي رحلة تشريحية نفسية عميقة في سيكولوجية الطغاة، والكيفيات والأواليات النفسية التي تتخلق بها سلوكيات الطغيان، والتربة الإحباطية العميقة التي تمتد فيها بدءا من تربة تجارب وحرمانات الطفولة المريرة وصدماتها المربكة، والعلاقة الأمومية التعويضية المرضية، وما توفّره السلطة والقوة من أستار مخادعة ومنافذ إشباعية مدمرة، يروح ضحيتها الأبرياء الذين تُغيّب بصيرتهم فلا يمسكون بجذور السلوك الدكتاتوري بقوة ودقة؟
بلا ريب، في رأينا. الا انها رحلة روائية وquot;فنيةquot; باصرار في الكشف عن الوجه المجهول او الآخر او المغيّب لكن الجوهري والحقيقي الوحيد لبيوغرافيا الدكتاتور الشمولي في العالم الثالث الحديث، اي خلال القرن الاخير، وليس كحاكم فقد انما كـ quot;انسان عاديquot;، اذا جاز القول. ومن هنا هم الكشف وليس الفضح او تصفية الحساب، الذي يحكم الرواية وروحها من السطر الاول الى الاخير ما اضاف جماليا الى توليفها المأخوذ بهاجس التموضع على مسافة واحدة بين الواقعي واللاوقعي، وهو هاجس تعمق وتشعب لدى الكاتب في روايته الثانية هذه التي هي، ايضا، في سياقها العام وبعض التفاصيل، بيوغرافيا ذاتية للكاتب نفسه ولجيل لا زال حاضرا بعد في حياتنا. حتى الشخصيات الاستثنائية او التي اريد لها ان تكون استثنائية في سياقها الخاص (قدري الارضروملي، عبد الامير الحصيري، حسين مردان، مدرس التاريخ، صاحب معمل الثلج، مدير مؤسسة مساعدة المعدمين..)، ليست هنا الا لحظات جمالية في تلك البيوغرافيا رغم واقعيتها وكونها شخصيات نعرفها شخصيا احيانا كعوالم لوحدها وكتاريخ بذاتها. وكذلك مكان الرواية او الروايات. انها بغداد بتناقضاتها التي لا تحصى ولا تنتهي، وتناقضات شخوصها وشوارعها وحاناتها ومعالمها.
quot;الدكتاتورquot;، او quot;التيسquot;، او القائد الضرورة، او البطريك.. تسميات شتى لنفس الظاهرة البشعة التي تعبر عنها تلك الشخصية البائسة والعصابية المحكومة بذات الازدواجية المغلقة المطلقة: يقين يتأكد كل لحظة بالدونية والتفاهة يقابله وهم بالعظمة والمجد والجبروت مصطنع من اعلى شعرة في الرأس الى اسفل نقطة في القدمين. كائن خرافي ومركب من الاوهام والكذب والزيف والجبن والخديعة هذا الكائن الذي تغوص في الكشف عن سيرته هذه الرواية. انما يظل رهيبا التدمير وبشعا الفساد الذي يلحقه في العالم الملموس بما فيه نفسه هو نفسه. ورياض رمزي شاهد امين ومباشر بشكل مدهش على مثل ذلك الكائن بل قد يكون تقاطع معه في رواق او آخر .
بيد ان رياض رمزي الذي يبتعد تماما عن السرد التسجيلي او التاريخي، يتجنب ايضا وباصرار الوقوع في اغواء السرد الايديولوجي كما في ميكانيكية السرد السايكولوجي، مستفيدا من ثقافة عاالية ومتنوعة وعالمية المنابع والتوجهات ومن تجربة حياتية غنية بذاتها ومتداخلة بانسيابية وتكامل لديه مع ثقافة عراقية، بغدادية حصرا، غدت الآن شبه منقرضة في عاصمة البلاد ذاتها بعدما كانت زاخرة بالحيوية وجديدة ومجددة قبل كارثة امساك البعث برقبة العراق في النصف الثاني من القرن الاخير. كما يستفيد من قدرية ساخرة ومريرة بل سوداء احيانا يرفدها ميل فلسفي الى نوع من وجودية تمشي في الاتجاه المعاكس لكل الفلسفات والايديولوجيات وحتى هيغل وماركس معلنة بنشوة ما بعدها نشوة: quot;غير العقلاني موجود، اذن هو واقعيquot;.
لكن هذه الرواية، المرآة المتحركة، مدهشة في نزوعها الحميم الى الكشف عن كل الجدليات الداخلية الملموسة منها والكامنة في الاشياء والافكار. انها لا تسعى بتاتا الى ادانة نظام طغيان او دكتاتور او تشريحهما سايكولوجييا انما الى الكشف عن ظاهرة شاذة وعن اسبابها وعن اخطارها ايضا. ورياض رمزي لا يشهر سيفا على احد ولا يداهن ولا يهادن ولا يستريح من الانحياز الى الفن رديف الحرية وكابوس الطغاة بذاته، انما ينحاز اليهما واثقا من انتصارهما الجميل. فالتيوس قد تنتظر طويلا، الا انها لا تجثم الى الابد، بل تحمل عنصر فسادها في ذاتها ولا بد ان تذهب الى حفرة او مزبلة او مقبرة يوما مفضلة الاستسلام الى المحتل على الانتحار بكرامة. ووحدها الحياة تأتي دائما منتصرة في آخر المطاف لدى هذا الروائي والشاهد في آن، والكبير في اصراره على عدم تركنا في العراء المطلق دون تبشيرنا بذات البشارة الابدية التي حاول الطغاة اطفاءها دائماً:
quot;يا اخوان لم العجلة؟ الربيع سيأتي على اية حالquot;.

بغداد