باريس: لقد فتحت موسيقى ريتشارد فاغنر آفاقا عظيمة لعدد من الشعراء خصوصا لشاعرين فرنسيين كبيرين هما شارل بودلير وستيفان مالارميه. وهذا الشاعران هما الوحيدان اللذان خصصا أجمل مقالتين عن موسيقى فاغنر. مع أنهما لم يسمعا موسيقى فاغنر كاملة. فبودلير وهو الذي يهمنا في هذا التقديم لم يكن قد سمعَ عام 1860 سوى إلى قطع اوركسترالية مستلة من أوبرا تانهاوزر ولوهينغرين، وكان عمره 39 سنة. لكنه أراد أن يتعمق في قضية فاغنر فأخذ يقرأ كتباً بالانجليزية عنه، وفاغنر أنذالك لم تكن له من الأعمال المعروفة سوى الهولندي الطائر، تانهاوزر ولوهينغرين.&
في نهاية كانون الثاني من عام 1860، وفي صالة فينتادور بباريس، حضر كبار الأدباء والسياسيون الفرنسيون لسماع موسيقى مؤلف ألماني انشغلت بموسيقاه أوروبا كلها. لكن صحافة اليوم التالي كتبت مقالات تسخر منه ومن موسيقاه . وكان بودلير أحد الحاضرين، أحس بالبعد الروحي والشعري العميق لموسيقى فاغنر. لقد مّسته موسيقى فاغنر في العمق، فأخذ يتحمس لها، وبعد مرور شهرين على هذا الحفل كتبَ هذه الرسالة التاريخية أدناه إلى فاغنر نفسه يعلن فيها اعجابه بموسيقاه وتأثيرها العميق عليه. و"شبه المتعة الجسدية التي يحسّها عند سماعه للموسيقى بالمتعة التي يحسّها حين يخرج إلى الهواء الطلق أو يسترخي على شاطئ البحر". وبودلير لم يكن معروفا إلا بشكل سيء، بسبب ديوانه "أزهار الشر" الذي أثار ضجيجا في الوسط الأدبي الفرنسي.
بعد هذه الرسالة، بعام واحد كتب المقالة الوحيدة المخصصة لموسيقى فاغنر متناولا فيها "أوبرا تانهاوزر" التي قال فيها إنها "نضال مبدأين اختارا القلب البشري كساحة معركة أساسية، أي الجسد مع الروح، الجحيم مع السماء، والشيطان مع الله." والمقالة تبين "كيف باتت موسيقى فاغنر ضرورية في حياته كما الافيون للمدمنين. إذ تكمن قوة موسيقى فاغنر في انتزاعنا من عالمنا الأرضي وتحريك أحاسيسنا وتكرار جمل ميلودية بشكل يكشف عن وجود منهج تشكيلي مقصود. ويؤكد بودلير أن وظيفة الموسيقى هي التعبير عن العاطفة التي تعجز الكلمات عن التعبير عنها، مما يذكرنا بقول ديدرو <لا يمكن أن تكون الموسيقى الدرامية الحقة شيئا آخر غير زفرات الهوى الموج>"
&

رسالة من عبقري الشعر شارل بودلير إلى عبقري الموسيقى ريتشارد فاغنر

&الترجمة خاصة بإيلاف:&&لقد تصورت دائما أن فنانا عظيما مهما كان معتادا على الشهرة، لا يمكن أن يكون عديم الاكتراث لثناء صادق، وخاصة عندما يكون ذلك الثناء صرخة من الامتنان. وأخيرا يمكن لهذه الصرخة أن تكتسب قيمة من نوع خاص، عندما تكون قد جاءت من فرنسي، وهو ما يعني من رجل لم يعتد التحمس وُلِد في بلد بالكاد فهم ناسه الرسم والشعر أو الموسيقى. أولا وقبل كل شيء، أريد أن أقول لك أنني مدينٌ لك بأعظم متعة موسيقية أحسستُ بها. أنا في عمر حيث لم أعد أتسلى بكتابة رسائل إلى عدد من المشاهير. وكنت قد ترددت لفترة طويلة قبل الكتابة لأعرب فيها عن إعجابي بك، لو لم تقع عيني كلّ يوم على مقالات مخزية وسخيفة حيث بُذل كلُّ جهد فيها للقدح من عبقريتك. أنت لست أول رجل، يا سيدي، في الوقت المناسب الذي عانيت فيه وشعرت بالخجل من أهل بلدي. لقد دفعني هذا الاستنكار إلى أن أعرب لك عن امتناني. قلت في نفسي: "أريد أن أتميّزَ عن كل هؤلاء البُلهاء".

في المرة الأولى التي ذهبت فيها إلى المسرح الإيطالي من أجل سماع أعمالك، كنت مضطرب المِزاج، بل، علي أن أعترف، كنت ممتلئا بالأحكام المسبقة السيئة. لكن أنا معذور؛ كنت غالبا مخدوعا. لقد سمعت الكثير من موسيقى المشعوذين ذوي الادعاءات الكبيرة. أما أنت فقد غزوتني فورا. ذلك أن ما شعرت به هو يفوق الوصف، وأرجو أن لا تضحك إذا تكرّمت، فإني سأحاول تفسير ذلك: في البداية ظهر لي أنّي أعرف هذه الموسيقى الجديدة، وفيما بعد، ومن شدة التفكير فيها، فهمت من أين جاء هذا السراب؛ ظهر لي أنّ هذه الموسيقى كانت موسيقاي، وتعرّفت عليها كما يتعرّف أي رجل على الأشياء التي قُدّرَ عليه ان يحبّها. وهذا التصريح، بالنسبة إلى أي شخص، إلا الشخص الذكي، سيكون سخيفا جدا، خصوصا أنه جاء على لسان شخص، مثلي، لا يفقه الموسيقى، وكلّ&يعرفه يتمثل في أنه قد سمع (بالتأكيد بكل متعة) بعض القطع الجميلة التي كتبها ويبر وبيتهوفن.

بعد ذلك، إن الشيء الذي أدهشني أكثر هو سمة العظمة. إنها تصوّر ما هو عظيم وتحث على العظمة. في جميع أعمالك، وجدت مرة أخرى جلال الأصوات الكبرى للطبيعة في أروع جوانبها، وجلال عواطف الإنسان الكبرى. يشعر المرء على الفور أنه محمول بعيدا ومُسَيطَراً عليه. وواحدة من القطع الأكثر غرابة، التي منحتني إحساسا موسيقيا جديدا، لهي تلك التي خُصصت لتصوير النشوة الدينية. فما هول التأثير الذي انتجه مدخل الزوار وحفل الزواج! شعرت فيه بعَظَمة حياةٍ أكبر من حياتنا. شيء آخر: في كثير من الأحيان أحسست بشعور ذات طبيعة غريبة، كان افتخارَ الفَهم ومتعته، متعة السّماح لنفسي أن تُخترَق، أن تُغزى - شبق شهواني حقا يشبه الارتفاع في الهواء أو التدحّرج على البحر. والموسيقى في الوقت ذاته تنمُّ بين الحين والآخر عن إباء الحياة. عموما كانت تبدو لي هذه التناغمات العميقة أشبه بالمنشّطات التي تسرّع نبض المخيلة. وأخيرا، واتوسلك أنْ لا تضحك، شعرت أيضا بالأحاسيس التي ربما تنبع من دوران روحي وهمومي المتواترة. في كل مكان ثمة شيء مؤدّى وآسر، شيء يطمح إلى الارتفاع عالياً، شيء مفرط وفائق. على سبيل المثال، إذا جاز لي أن أستخدم مقارنات مأخوذة من الرسم، أفترض أمامي مساحة شاسعة من الأحمر الداكن. إذا كان هذا الأحمر يمثل العاطفة، فإني أراه يصل تدريجيا من خلال جميع التحولات الحمراء والوردية إلى وهج الفرن. ويبدو من الصعب، بل من المستحيل أن تصل إلى شيء أكثر توهجا. ومع هذا فان انطلاقا أخيرا يأتي متتبعا خطا أكثر بياضا على بياض الخلفية. وهذا يعني، اذا صح التعبير، الصرخة العليا لروحٍ بلغت أعلى ذروتها.

لقد بدأت أكتب بعض التأملات حول بعض القطع من اوبرا تانهاوزر ولوهينغرين التي سمعناها، لكن أعترف باستحالة قول كلّ شيء.
وبالمثل، يمكن هذه الرسالة أن تستمر بلا انقطاع. إذا تمكنتَ من قراءتها كلَّها، فإني سأكون شاكرا لك. لم يبق لي سوى أن أضيف بضع كلمات. من اليوم الأول الذي سمعت فيه موسيقاك، ظللتُ أردّد في نفسي، خصوصا في الأوقات العصيبة: "لو أستطيع فقط أنْ أسمع هذه الليلة شيئا من فاغنر!". هناك بلا شك أناس مثلي. قصارى القول، لابد أن تكون قد سعدتَ بالجمهور، الذي كانت غريزتُه أفضلَ بكثير من علم الصحفيين الزائف. لماذا لا تقيم بعض الحفلات الموسيقية، مع إضافة قطع جديدة. – أنت الذي عرّفنا على تذوّق مبدئي لملذات جديدة، هل لك الحق في أنْ تحرمنا من البقية؟ مرة أخرى، اشكرك يا سيدي، لقد أعدتني، في بعض الأوقات العصيبة، إلى نفسي وإلى ما هو عظيم.

شارل بودلير.
لن أضع عنواني، لربما تعتقد أني أريد شيئا منك.

باريس 17 شباط 1860
&

&