في البدء كانت عُمان:
"ليس لدينا مادة إحصائية دقيقة، لكن تغريبة القافر لزهران القاسمي هي من أكثر الروايات العربية التي كُتب عنها في تاريخ جائزة البوكر العربية".
هذه العبارة يوردها الكاتب والشاعر السويدي: "خلف علي الخلف" على صفحته بموقع فيسبوك بتاريخ 2 أغسطس 2023م، وهي مقولة لها أهميتها من ناحيتين، الأولى: أن المقولة تصدر عن كاتب وناشر هو أول من تناول الرواية بالقراءة بتاريخ 31 ديسمبر 2021م، أي قبل يوم واحد من تاريخ الصدور الرسمي للرواية، بمنشور على فيسبوك، طوره لاحقا إلى مقال بعنوان "تغريبة القافر لزهران القاسمي أو عندما تبدو الحياة كحكاية" ونشره على موقع الحوار المتمدن بتاريخ 4 أبريل 2022م، وظل متابعا لكافة القراءات والتعليقات والحوارات واللقاءات حول الرواية قبل حصولها على البوكر وبعدها.
وثيقة اجتماعية
واعتبرها في مقاله، الأول عن الرواية: "وثيقة اجتماعية عن حياة القرى والأفلاج العمانية ستعيش طويلاً". والناحية الثانية: أن الشاعر يقيم في مدينة مسقط، عاصمة سلطنة عمان، ما يعني أنه متابع للشأن العماني عن كثب، ولا سيما الثقافي منه.
ولعل المتابع للصحف والدوريات والمواقع العربية من المهتمين بالشأن الثقافي عموماً لاحظ الكم الكبير، غير المسبوق تقريباً، من تغطيات لفوز تغريبة القافر بجائزة البوكر العربية 2023م. وهي تغطيات امتدت إلى الصحافة والتلفزيون والإذاعة ووسائل التواصل الاجتماعي بدءا بتويتر وليس انتهاء بالفيسبوك وإنستغرام ومواقع ثقافية عربية، وغيرها من مواقع أجنبية تناولت الخبر وتداولته. فضلاً عن اللقاءات الصحفية والتلفزيونية والإذاعية التي أجراها الشاعر والروائي العماني زهران القاسمي حتى قبل حصول روايته على الجائزة.
شبه إجماع على الاحتفاء بالرواية قبل وبعد الجائزة، ولم يشذ عن هذا الإجماع سوى قراءتين، الأولى كانت لكاتب سعودي نشر مقاله في مجلة أسبوعية قبيل الجائزة بأربعة أيام ثم حذفته المجلة من موقعها قبل إعلان الجائزة بيوم واحد، والثانية قراءة نقدية لكاتبة سورية نشرها موقع عراقي، وهي القراءة التي سأشير إليها لاحقا.
ولعل الإجماع على أهمية وأحقية الرواية بالفوز يعود إلى عدة أسباب منها ما يتعلق بموضوع الرواية، الماء، الموضوع الإنساني العام والهام لكل كائن حي، ومنها ما يتعلق بالمؤلف فكاتب الرواية شاعر وروائي وقاص لم يأت من فراغ، بل يتكئ على منجز إبداعي شخصي تراكم منذ أول ديوان صدر له 2005م، وقد نالت منجزاته الشعرية والسردية التقدير، ولا تزال حتى اليوم. ومنها ما يتعلق بالبيئة التي ينطلق منها النص، والتي شكّلت وعي الكاتب، وأثْرت وأثّرت في غالبية كتاب سلطنة عُمان، وهي بيئة ثقافية ليست وليدة اللحظة، فالسلطنة لها حضورها السردي المدون منذ منتصف الستينيات الميلادية من القرن المنصرم حين صدرت رواية "ملائكة الجبل الأخضر" لعبدالله الطائي، ولها سلاطينها ومنهم السلطان تيمور بن فيصل الذي وجّه بطباعة ديوان للشاعر ابن الصوفي الشيخ سعيد بن مسلم العماني المسكتي وتمت طباعته في مدينة أوساكا اليابانية سنة 1356 هـ 1937م. ولها صحافتها التي تعد من أوائل الصحف العربية المطبوعة، فقد صدرت "جريدة النجاح" كأول صحيفة عمانية عام 1911م، وكانت توزع في زنجبار وعمان وبعض العواصم العربية، ثم تطورت الصحافة العمانية، لتراكم منجزها الإبداعي والنقدي من خلال ملاحقها الثقافية التي تزاحم الملاحق الثقافية في الوطن العربي، ولعمان مجلاتها كمجلة "نزوى" التي عرّفت بالأدب العماني على مستوى العالم العربي منذ منتصف التسعينيات الميلادية من القرن الماضي، كما عرّفت العمانيين بآداب العالم، ولا تزال، ولها شعراؤها مثل: عبدالله الريامي، ومحمد الحارثي، وسيف الرحبي، وصالح العامري، وزاهر الغافري، وسماء عيسى، وفاطمة الشيدي، وزاهر السالمي، وإسحاق الهلالي، ومبارك العامري، وعلي المخمري، وفتحية الصقري، وخالد المعمري، واحمد الهاشمي، وإبراهيم سعيد، وغيرهم الكثير، ولها رواتها وقصاصها مثل: بدرية الشحي، وبشرى خلفان ومحمود الرحبي وحسين العبري وأزهار الحارثي وهدى حمد، وبسام علي، وسليمان المعمري، وليلى عبدالله، ومحمد اليحيائي، وعبدالعزيز الفارسي، ومحمد العجمي، وأحمد الرحبي، وغيرهم الكثير. ومن تلك الأسباب أن عُمان هي حضارة مَجَان، وقلاع بُهلا وجبرين ونزوى والجلالي والميراني والصيرة وغيرها الكثير، وهي بلد الآثار الضاربة في عمق التاريخ منذ ما يزيد عن خمسة آلاف عام كما تشهد بذلك آثار بلدة "بات" بولاية "عبري"، وهو الوجود الآثاري الذي يوازيه الوجود الثقافي للإنسان العماني منذ قرون، فكانت لهم كتبهم التراثية التي أنتجوها في الفلك والطب والتصوف والتاريخ والأدب، وبعمان يتصل الخليل بن أحمد الفراهيدي بسبب، ومن ظفار ينحدر أحمد بن ماجد ليجوب بحار العالم كما تشير بعض المصادر، وفي القرن التاسع الميلادي ارتمى في أحضانها ابن دريد شاعر العلماء وعالم الشعراء فراراً من هجوم الزنج. ولعمان أساطيرها التي تعيد وجود أفلاجها، الحاضرة بقوة في تغريبة القافر، إلى عهد النبي سليمان عليه السلام حين مرّ بعمان فأراد أن يشرب الماء، لتقوم الجن من أجله بحفر 1000 فلج في ليلة واحدة.
قراءات حول القافر:
كثيرة هي التغطيات الصحفية والإخبارية للرواية، وكذلك العروض النقدية الصحفية التي تروم التعريف بالرواية وليست بهدف تقديم نقد حقيقي مقصود يمكننا الاستفادة منه، وهي كثيرة حتى أنها تستعصي على الإحصاء. لكن القراءات النقدية، التي استطعتُ الوقوف عليها فقط، بلغت 30 قراءة نقدية، دون النظر إلى العروض النقدية الصحفية التي تعّرف بالرواية وقد تكتب بعض الملاحظات النقدية حولها.
تناولت عدة قراءات رواية "تغريبة القافر" منذ صدورها، وحتى نهاية شهر يوليو 2023، فكانت القراءة الأولى لخلف علي الخلف على موقع فيسبوك 31 ديسمبر 2021م، ونشرت لاحقا على موقع الحوار المتمدن 8 إبريل 2022، والأخيرة لمحمود عبدالشكور من مصر في صحيفة الشروق المصرية يوم 29 يوليو 2023م. وجاءت بحسب تواريخ نشرها على النحو التالي:
أولاً/ قراءة واحدة نشرت عن الرواية 2021م قبل صدورها بيوم واحد، وكانت على فيسبوك في 31 ديسمبر 2021م، وأعيد نشرها لاحقا على موقع الحوار المتمدن.
ثانياً / 6 قراءات نشرت عن الرواية في عام 2022، في أشهر: (يناير / فبراير/ يونيو/ سبتمبر/ أكتوبر 2022) أي قبل إعلان القائمة الطويلة للجائزة التي أعلنت في 24 يناير 2023م.
ثالثاً / قراءتان بعد إعلان القائمة الطويلة، والتي أعلنت في 26 يناير 2023م ونشرت في يومي: 25 و 11 مارس 2023م.
رابعاً / قراءة واحدة جاءت بعد إعلان القائمة القصيرة للجائزة في 31 مارس 2023، وكانت في مجلة اليمامة السعودية – نشرت يوم الخميس 18 مايو 2023م، ثم قامت المجلة بحذفها من موقعها قبل إعلان الجائزة بيوم واحد دون ذكر الأسباب.
خامساً / قراءة واحدة في يوم إعلان الجائزة 21 مايو 2023م، ونشرت في بوابة أخبار اليوم المصرية.
سادسا/ 19 قراءة نقدية نشرتها الصحف والمواقع العربية بعد إعلان فوز رواية تغريبة القافر بالجائزة، وجاءت موزعة على: 4 قراءات في مايو 2023م بعد إعلان الجائزة مباشرة، و9 قراءات في الشهر التالي لإعلان الجائزة أي شهر يونيو 2023م، وأخيراً 6 قراءات في شهر يوليو 2023م.
ومما سبق، يمكن قراءة أرقام عملية التلقي النقدي والنشر حول الرواية في ضوء ما يلي:
أولا/ النشر وعلاقته بتوقيت إعلان الجائزة:
1/ 3% من القراءات (قراءة واحدة) نشرت في عام 2021م.
2/ 20% من القراءات نشرت في عام 2022م.
3/ 13% من القراءات نشرت في 2023 قبل إعلان الجائزة.
4/ 3% من القراءات (قراءة واحدة) نشرت يوم إعلان الجائزة.
5/ 61% من القراءات نشرت بعد فوز الرواية بالجائزة.
ثانياً/ النشر بحسب الأشهر:
1/ جاء شهر يونيو 2023م كأكثر شهر نشرت فيه الصحف والمواقع العربية قراءات نقدية عن الرواية، بواقع 9 قراءات من مجمل ما كتب عنها 30%.
2/ ثم جاء شهر مايو، (سواء ما قبل أو ما بعد إعلان الجائزة) ، وكذلك يوليو 2023 بواقع 6 قراءات في كل شهر، وبنسبة إجمالية 40%.
ثالثا/ جنسيات الكتاب الذين تناولوا الرواية بالنقد:
1/ من جمهورية مصر العربية 10 كتّاب بما نسبته 33.5% كأعلى نسبة للنقاد الذين تناولوا الرواية من بلد واحد.
2/ ثم 3 كتّاب من كل من والعراق والسعودية وسوريا والجزائر بنسبة 10% من كل دولة بإجمالي 12 قراءة وتمثل نسبة 40%.
4/ قراءتان لكاتبين من سلطنة عمان، بنسبة 6.5%.
4/ ثم قراءة واحدة من كل دولة من الدول الخمس التالي: البحرين وتونس ولبنان والأردن والسويد بنسبة 3% من كل دولة وبإجمالي 16.5% فقط من هذه الدول.
5/ قراءة واحدة لكاتب لم أتمكن من تحديد جنسيته، علي قطب/ صحيفة مكة، 3.5%.
رابعاً/ الدول التي تصدر منها الدوريات الناشرة لتلك القراءات:
1/ تصدرت الدوريات السعودية بنسبة 23% مجمل الدوريات التي تناولت الرواية على صفحاتها بالنقد، أي ما يقارب ربع القراءات التي صدرت عن تغريبة القافر كانت عبر دوريات سعودية (7 قراءات).
(دوت الخليج، تحريرها من مصر، وعناوين المراسلة من السعودية).
2/ تلتها المواقع والدوريات المصرية (5 قراءات). وكذلك العراقية (5 قراءات). بنسبة إجمالية 33%.
3/ صحف ومواقع عمان بنسبة 13.5% (4 قراءات)
4/ صحف لندن رابعا بنسبة 10%، (3 قراءات).
5/ ثم قراءتان لصحف لبنان بنسبة 6.5%، منها مجلة تقيم رئيسة تحريرها في أميركا، وهي مالكتها في الوقت ذاته، ولكنها لا تحدد مكانا لصدور مجلتها.
6/ ثم صحف سوريا والأردن والجزائر بواقع قراءة واحدة في دورية واحدة من كل بلد، بواقع 3.3% لكل بلد من البلدان الثلاثة، وبمجمل ما نسبته 11%.
7/ أخيراً، (متصفح قراءات جوجل) قراءة واحدة لمحمد ندا من مصر بنسبة 3%، ولم أعثر على مصدرها من المواقع أو الصحف العربية.
8/ غابت دوريات دول ذات حضور ثقافي لافت كصحف الإمارات (الدولة الراعية للجائزة)، والكويت والبحرين وقطر والمغرب وفلسطين، وغيرها.
وفيما يلي أسماء وتواريخ ومواقع نشر القراءات الثلاثين، حيث جاءت على النحو التالي:
أولاً/ ما قبل إعلان الجائزة:
1/ خلف علي الخلف/ السويد - فيسبوك- الحوار المتمدن/ العراق – 31 ديسمبر 2021.
2/ نبيل سليمان / سوريا. - الاندبندنت عربية / بريطانيا - 26 يناير 2022.
3/ محمد سمير ندا/ مصر – قراءات جوجل – 13 فبراير 2022.
4/ إبراهيم سعيد / عُمان – محلق جريدة عمان/ عمان – 24 فبراير 2022.
5/ خالد المعمري/ عُمان - محلق جريدة عمان/ عمان – 25 يونيو 2022.
6/ بروين حبيب/ البحرين- القدس العربي / لندن - 30 أكتوبر 2022.
7/ محمد زروق / تونس - مجلة الفيصل / السعودية - 1 سبتمبر 2022.
8/ لنا عبدالرحمن / لبنان- موقع رابطة الكتاب السوريين/ سوريا - مارس 2023..
9/ شريف صالح / مصر - النهار العربي/ لبنان - 25 مارس 2023.
10/ عبدالله الهميلي / السعودية - مجلة اليمامة / السعودية – 18 مايو 2023.
"حذفته المجلة من موقعها بعد يومين من نشره دون إشارة لأسباب الحذف".
ثانيا/ يوم إعلان الجائزة:
11/ محمد سليم شوشة/ مصر- بوابة أخبار اليوم / مصر – 21 مايو 2023.
ثالثا/ بعد إعلان الجائزة:
12/ علي قطب/ (غير محدد) - صحيفة مكة / السعودية – 24 مايو 2023.
13/ واسيني الأعرج/ الجزائر- موقع أثير / عماني – 25 مايو 2023.
14/ سلمان كاصد / العراق- الصباح / العراق – 28 مايو 2023.
15/ منال رضوان/ مصر- المصري اليوم / مصر – 31 مايو 2023.
16/ سمير محمود/ مصر- القافلة / السعودية – 1 يونيو 2023
17/ محمود خير الله / مصر -مجلة الإذاعة والتلفزيون / مصر – 2 يونيو 2023
18/ إسلام خنيش / الجزائر- صوت الأحرار / الجزائر – 5 يونيو 2023
19/ المثنى الشيخ عطية / سوريا - القدس العربي / لندن – 6 يونيو 2023
20/ وداد سلوم / سوريا - الصباح / العراق – 8 يونيو 2023
21/ سامر المجالي / الأردن - الدستور / الأردن – 9 يونيو 2023
22/ ابتسام المقرن / السعودية - الرياض / السعودية – 10 يونيو 2023
23/ كرم الصباغ / سوريا - جريدة وزارة الثقافة / العراق – 13 يونيو 2023
24/ أماني فؤاد / مصر - المصري اليوم / مصر – 23 يونيو 2023
25/ ستار زكم / العراق - مجلة غرفة 19 / لبنان/ المهجر – 1 يوليو 2023.
26/ ناهد الرطروط/ السعودية – موقع الوثائق/ السعودية – 5 يوليو 2023.
27/ ضياء الثامري/ العراق - نخيل عراقي / العراق – 12 يوليو 2023
28/ أحمد الخميسي / مصر - دوت الخليج / السعودية – 23 يوليو 2023
29/ سهام ذهني / مصر - ملحق جريدة عمان / عمان – 26 يوليو 2023
30/ محمود عبدالشكور / مصر - الشروق / مصر – 29 يوليو 2023
المجال الإبداعي لمقدمي القراءات:
من المهم الإشارة إلى أنني اعتبرت الإنترنت، وما يوفره من سير ذاتية لكتاب القراءات موضوع البحث هنا، هو المرجع الرئيس. أيضاً اعتمدت الإشارة الأولى لتحديد مجال الكاتب مقدم الدراسة، وتم تصنيف (ناقد أدبي) وفق تخصص مقدم الورقة في تدريس النقد أو صدور كتاب نقدي مطبوع واحد على الأقل، ولم أتبين المجالات الإبداعية لاثنين من مقدمي القراءات لعدم توفر بيانات على الإنترنت حول سيرتيهما.
وجاءت النتائج مرتبة من الأكثر إلى الأقل، كما يلي:
13 كاتب/ كاتبة (كاتب مقالات/ صحفي/ روائي/ قاص) بنسبة 43%.
9 شعراء/ شواعر، بنسبة 30%.
5 ناقد/ ناقدة، بنسبة 16.5%.
1 ناقد سينمائي، بنسبة 3.5%.
2 غير محدّد، 7%.
ما يعدّ مؤشرا على أن المبدعين والكتاب يحاولون تعويض القصور النقدي، لأن أقل من 17% من القراءات كانت لنقاد متخصصين، أو ممن صدر لهم كتاب واحد على الأقل في النقد الأدبي.
هي وهو:
22 قراءة كتبها الرجل حول الرواية بنسبة (73%(، مقابل 8 قراءات لنساء بنسبة 27%. ما قد يعني أن النقد في العالم العربي لا يزال رجلا.
لماذا قَلَّت القراءات العمانية عن تغريبة القافر:
قراءتان عمانيتان بنسبة 6.5% فقط هذا كل ما وجدته في بحثي عن القراءات التي تناولت تغريبة القافر. ما يعني شبه غياب، أو خجل نقدي، كما يشير كاتب الرواية، ففي عدد مايو - يونيو 2023، بمجلة "القافلة" السعودية، يقدم سمير محمود من مصر، قراءة شاملة في المنجز الشعري والسردي لكاتب تغريبة القافر، ويختم قراءته بمقولة لزهران القاسمي تحاول تلمس بعض أسباب قلة التناول النقدي العماني للأعمال المحلية: "لا يعتقد القاسمي أن هناك أزمة قراءة ولا أزمة نقد في العالم العربي، ولا أزمة تتعلق بالأدب العماني. ولكن الحاصل هو خجل كبير يخص الحالة العمانية، “فنحن لا نسوّق لأنفسنا، وليس لدينا خطط تسويقية كما يجب في الكثير من الأماكن التي تسوق لأدبائها وشعرائها وإنتاجها الأدبي، وتحاول أن تضع هذا النتاج في الصورة ليقرأه الآخرون، خاصة في ظل الوفرة الكبيرة جدًا من الكتابات الأدبية في الفترة الأخيرة في الوطن العربي، الموجودة ورقيًا وفي المواقع الإلكترونية.
وهو وعي بأهمية إعادة النظر في المواكبة النقدية المطلوبة داخل عُمان في ضوء هذا الكم الإبداعي الذي تجاوز الوطن العربي ووصل إلى العالمية، وهو ذات الوعي الذي عبّر عنه مرّة د. سالم العريمي، إبريل 2016، على موقع أثير، حين أرجع القصور النقدي إلى عدة أسباب، منها أن المناهج النقدية الحديثة: "وفدت إلينا متأخرة، فكنا كمن يدور في فلك نقدي تجاوزه الآخرون بأمد طويل".
تأملات عامّة حول القراءات:
من الصعب اختصار ما كتب في 30 قراءة نقدية في هذه الورقة، لكن يمكن ملاحظة بعض العوامل المشتركة فيما بينها، أو الجوانب التي تفردت بها بعض القراءات، ويمكن إجمالها فيما يلي:
1/ أول من تناول الرواية بالنقد "خلف علي الخلف"، مشيرا إلى أنها رواية "ستعيش طويلاً"، وهو ما ذهب إليه "محمد سمير ندا" بعد ذلك بشهرين، والقراءتان نشرتا قبل أن تدخل الرواية مسابقة البوكر.
2/ ما يقرب من 37% من القراءات الموجهة للرواية كانت قبل إعلان فوزها بالبوكر.
3/ إذا استبعدنا العروض النقدية التي تناولت الرواية، ولتي لم تتضمنها قائمة الثلاثين قراءة التي اعتمدتها هنا لقراءة أشكال تلقي الرواية، نجد أن تناول 19 قراءة من القراءات للرواية تراوح بين تقديم ملخّص عام للرواية، ثم تدوين بعض الانطباعات الشخصية، مع بعض الاقتباسات، كما تضمنت لمحات نقدية تدور في معظمها حول ثيمة الماء والأفلاج، كما تشير غالبية القراءات إلى ثنائيتي الموت والحياة وأثرها في بناء السرد ونموه. وهو أمر متوقع في ظل ملاحظة أن ما نسبته 84% ممن كتبوا عن الرواية هم من الكتاب والشعراء، وعلى الرغم من ذلك شكلت كل ورقة إضافة أو لمحة نقدية حول العمل الذي تناولته.
4/ يشير العماني إبراهيم سعيد "محلق جريدة عمان– 24 فبراير 2022" إلى معلومة موثقة في الموسوعة العمانية ص258 حول هجرة بني صفوان من عمان إلى الأندلس في القرن الثالث الهجري ونقلهم لتقنية الأفلاج إلى أيبيريا وتاسيسهم مدينة مرسية وقلعة (صحار) الأندلسية، ويربط بذلك بين أفلاج عمان الواردة في تغريبة القافر وأفلاج الأندلس.
5/ فقط 6 قراءات امتلكت عمقا تأويليا، وتحدثت عن البعد الأسطوري للرواية، وهي من حيث الأهمية تأتي على التوالي، قراءات: د. سلمان كاصد/ العراق، محمد رزوق/ تونس، كرم الصباغ/ سوريا، محمود عبدالشكور/ مصر، ستار زكم/ العراق، ضياء الثامري/ العراق، نبيل سليمان/ سوريا. أي 3 قراءات من العراق، و2 من سوريا، و1 من كل من مصر وتونس.
6/ قراءة إسلام خنيش من الجزائر هي القراءة الوحيدة التي عدت "الماء" شخصية أساسية في الرواية، وهي الإضاءة الوحيدة في تلك القراءة.
7/ قراءة د. سلمان كاصد، من العراق، تعتبر الأهم والأعمق في تناول الرواية، وهي القراءة الوحيدة التي كتبت عن مشهد قطرات ماء المطر في الأذن اليسرى للقافر يوم ولادته من خلال ربطها بالولادة الأسطورية له وبنهايته الأسطورية أيضا، كما أشار إلى خمس ثنائيات وأضداد ذات بعد تأويلي، كما ربط القافر وأمه بأسباب سماوية فوق طبيعية من خلال مشهدي الولادة والدفن، كما تحدث عن البعد البيئي/ الفلاحي لمجتمع الرواية، ووجود المرأة وتوظيفها داخل السرد، كما ناقش مفهوم الاستبدال الموجود في الرواية على المستويين الفردي/ صبيحة وابنها الوعري، والاجتماعي/ الأساطير التي تحدثت عن استبدال الجن للقافر في بطن أمه، كما أشار للطبيعة الرسولية للقافر في ظروف ولادته ونشأته والأحداث التي تلت. إلا أنه يجزم بموت القافر جزما تأويليا قياسا لأحداث الرواية باعتبارها رواية موت، ولا يناقش نهايتها المفتوحة.
8/ ست قراءات ذكرت استلهام القاسمي لأسطورة بينلوبي من "الأوديسا" الإغريقية، وهو استلهام لواحدة من الأساطير التي أصبحت شائعة وإنسانية لقدمها، ولوجود ما يرفدها في كافة المجتمعات الإنسانية وآدابها حول قصص الحب وانتظار الأزواج، كما أن مادة الأسطورة أمر متاح في البيئة العمانية: الصوف والغزل، وقد ربطها الروائي بالأفلاج، فهي مختلفة عن الأخذ بحرفية من الأوديسا، إذ لا تنقض زوجة القافر غزلها، وإذ نجدها تسمي كل خيط بأسماء الأفلاج. وكانت القراءات التي ذكرت ذلك هي قراءات: نبيل سليمان، محمد ندا، شريف صالح، وداد سالم، كرم الصباغ، أحمد الخميسي.
9/ جاء تناول نهاية رواية القاسمي متباينا، فالنهاية المفتوحة للرواية، جعلتها قابلة للتأويل، وكانت ورقة الدكتور سلمان كاصد الوحيدة التي ألمحت إلى أن نهاية القافر كانت الموت لتوافقها مع سياق المصارع الذي حفلت به الرواية، لكنه لا يفصّل في ذلك، في حين نجد أن بقية القراءات تناولت نهاية الرواية بالشكل التالي:
-لا تذكر 14 ورقة نهاية القافر ولا تشير إليها.
-7 قراءات تذكر أن نهاية الرواية نهاية مفتوحة.
-5 قراءات تجزم بموت القافر.
-1 قراءة واحدة (لمحمد ندا) لا زالت تؤمن بوجود القافر في الفلج: "أؤمن أن "سالم ود الغريقة"، ما زال حتى هذه اللحظة موجود حيث تركه القاسمي، يسبح في قنوات المياه الجوفيّة، يعيش تيهه الأوديسيّ الخاص، ويحاول الخروج في رفقة الماء، لا لينال حريّته؛ إنما ليروي عطش الظمآنين".
-1 قراءة واحدة تذكر أن القافر لم يمت، وأنه عاد إلى زوجته، وتعيد ذلك إلى حدسها الأنثوي فيما يمكن أن يكون إيذانا بولادة النقد الأمومي (قراءة سهام ذهني من مصر).
10/ كما أشرتُ سلفا، النقد المتخصص، أو من يتكئ كاتبه على منجز نقدي ولو كان كتابا واحدا مطبوعا، يشكّل أقل من 17% تقريبا من مجمل ما كتب، بينما يتقاسم الكتاب الروائيون والقصّاص والشعراء وكتاب المقالات مساحة 83% من العمل المكتوب حول الرواية لسد فجوة القصور النقدي العربي. ما يعني أن القراءات النقدية التي تنشرها الدوريات العربية ليست أكثر من مقاربات وتدوين انطباعات، وتعميم نماذج قرأها هذا أو ذاك في سبيل حشر مقاله بمعلومات عامة، ولا يمكن عدها مقاربات منطقية، حتى إن إحدى القراءات النقدية المبكرة للرواية قدمتها شاعرة وكاتبة وممثلة ومقدمة برامج تلفزيونية في آن واحد!.
11/ القراءتان الأكثر شوفينية واستعلاء ضد ثقافة عمان خاصة والخليج العربي عامة نشرتا في المواقع العمانية: الملحق الثقافي لجريدة عمان، وموقع أثير العماني.
ولادة عقدة محفوظ:
فاز نجيب محفوظ بجائزة نوبل، لكن لا يمكن أن يجعله ذلك نموذجا تقاس إليه الروايات العربية، لسببين: الأول أن منجز نجيب محفوظ نظرا إلى زمنه المتقدم يتحول شيئا فشيئا إلى الكلاسيكيات الأدبية، والثاني أن الجنس الروائي لديه خصائصه العامة التي لا يعني وجودها في كتابة محفوظ أنها أصبحت حكرا عليه. إذن لا يمكن القياس على منجز محفوظ ولاسيما عندما يكون ذلك القياس فاسداً، أما لو أثبت ناقد أو ناقدة ما وجود تناص في أي رواية مع رواية أخرى فيمكن الوقوف عنده، سواء كان الكاتب السابق إلى الفكرة فائزا بجائزة، أم لا. فالجوائز الأدبية ليست هي المعيار الوحيد لجودة الأدب، ولا البوابة الوحيدة لنمذجة جنس أدبي كتبه روائي معروف فأصبح ما يصدر بعده من جنسه عرضة للتقوّل، والاتهامات.
ففي قراءة الصحفية المصرية "سهام ذهني"، نجد أن العتبة الدلالية الكبرى لمقالها جاءت بما لم تفسره لاحقا في ثنايا مقالها المحشو بالسواليفية النقدية والذكريات، حيث كان عنوان المقال: "زهران القاسمي ونكهة نجيب محفوظ"، النكهة التي لم تفسرها أو تستدل عليها الكاتبة إلا من خلال تلمّس بعض الجوانب واعتسافها علها تساهم في "صناعة الأستاذ" و"تأليه النموذج المحفوظي"، من مثل قولها: "هذه البداية للرواية تذكرني بما فعله نجيب محفوظ مع بطل رواية «الحرافيش» «عاشور» الذي يرمز إلى القوة العادلة، والذي أخذنا الكاتب الكبير لنرافقه بعد ولادته، حيث افتتح الرواية به لقيطا أنقذ حياته شيخ عجوز كان في طريقه إلى المسجد للصلاة فسمع بكاءه فحمله إلى بيته ليكبر في ظل رعايته ورعاية زوجته.
بما يوحي به هذا الافتتاح للرواية برمزية العدل اللقيط الذي تخلى عنه أهله، وتولى آخرون رعايته". ومع ما توحي به مفردة وصف الكاتب نجيب محفوظ بـ" الكبير" من ضرورة سياقية في أن يكون زهران القاسمي هو الكاتب "الصغير" كمقابل، إلا أننا لا نجد وجهاً للمقارنة، فالقافر لم يكن لقيطاً، ولا علاقة له بالقوة العادلة/ أو العدل اللقيط، ولا الفتوة، بل إن القافر على النقيض تماماً. ثم أين هو وجه الشبه بين لقيط تبدأ به رواية نجيب محفوظ وما سيتلو ذلك من أحداث وبين مولود لأم وأب يتم إخراجه من رحم غريقة، وهي الولادة الأسطورية التي لا تتناسب وعادية إيجاد طفل متروك على طريق الذاهبين إلى الجامع؟
ثم نصل للفقرة التالية، حيث تشترك تغريبة القافر مع روايات نجيب محفوظ في "المحلية الذاخرة"، وكذلك النهايات المفتوحة!، إذ تقول مقدمة القراءة: "وإذا كانت رواية «تغريبة القافر» تشترك مع روايات «نجيب محفوظ» في المحلية الذاخرة بكل ما هو إنساني، فإنها تشترك أيضا مع روايات نجيب محفوظ وكذلك مع روايات أخرى كبرى في أن انتهاءنا من القراءة لا يترتب عليه انتهاء علاقتنا بالرواية"، فهل كان نجيب محفوظ هو أستاذ عبدالرحمن منيف في "النهايات" مثلاً، أو أستاذ أوتشيبي في "الأشياء تتداعى"؟، وهل كان هو أول من انتهت بعض أعماله بنهايات مفتوحة؟
هذه العقدة المحفوظية إذا لم يتنبه لها القائمون على الصحف والمجلات والملاحق الأدبية ستتضخم حتى تصبح شركاً لا فكاك منه، خاصة على أيدي نقاد صحفيين أو كتاب مقالات، من مثل كاتبة هذا المقال، والتي سنجد لديها خللا في الأصل من خلال تعريفها للبعد المحلي للسرد: "أدب الروائي والشاعر العماني «زهران القاسمي» يتمتع بالمحلية الخاصة به حيث يدور في قرى «عُمان»، وهي المحلية التي قادت روايته «تغريبة القافر» إلى جائزة البوكر"، فاختصرت المحلية كلها في البعد المكاني، ثم جاءت بالنموذج المحفوظي لتعرض رواية القاسمي عليه، وهو أمر ليس بغريب إذا عرفنا أن كاتبة المقال لها كتاب صدر عام 2002م بعنوان: "ثرثرة مع نجيب محفوظ"، وهي الثرثرة التي لا تزال مستمرة حتى بعد مرور 22 عاما على صدور ثرثرتها الأولى.
شوفينية التلقي:
سأقسّم التلقي الشوفيني للرواية إلى قسمين، منها ما يتعلق بالشوفينية غير الواعية التي تم تمريرها في بعض المقالات، ومنها الشوفينية الاستعلائية الواضحة التي سنجدها في مقالين نقديين على الأقل، وذلك على النحو التالي:
أولاً/ الشوفينية غير الواعية:
ويمكن ملاحظتها من خلال خطابين:
1/ ما يتوجه نحو الروائي زهران القاسمي، ويمارس من خلاله مقدم الورقة استعلاء المعلم، كدال على شوفينية قارة في اللاوعي، حول ثقافة عمان، وأبرز أنموذج عليها مقال السعودي "عبدالله الهميلي" في صحيفة اليمامة السعودية، حيث جاء عنوانها كما يلي: "عندما يفسد الكاتب عمله الواعد"، فالقاسمي "كاتب" لم يصل لمرحلة استحقاق أن يكون روائيا، والرواية مجرد "عمل واعد" لا أكثر، الأمر الذي قد يحيلنا ابتداء إلى نرجسية كاتب المقال، لكن الأمر أبعد من ذلك بكثير، حيث يرد في ثنايا المقال ثناء على الرواية في بعض جوانبها: "اللهجة العمانية، و"نتف" من إنسان ذلك المكان"، بكل ما تدل عليه مفردة "نتف" والتي يعرفها جبران مسعود في معجمه بـ: "نتفة، من يأخذ من العلم الشيء القليل ولا يبلغ الغاية من البحث عنه" معجم الرائد، ط1، 2003م. وخصوصاً حين ترتبط مفردة "نتف" بـ "إنسان ذلك المكان"، لتأتي (ذلك) كإشارة إلى البعد والهامش، وقد ذكر كاتب المقال شيئاً من انطباعاته عن عمان التي تؤكد شوفينية تلقيه لثقافتها: "... رواية تتكلم عن بيئة القرية العمانية، ففي تصوري هذا أحد أهم مصادر قوة للأعمال العمانية، التي فتحت أعيننا مبكرا على طبيعة هذا البلد الجميل والغريب"، فمفردة "الغريب" لا تعود على طبيعة البلد بل على البلد نفسه، الذي يعيش فيه "ذلك" الإنسان.
2/ الشوفينية غير الواعية التي تسربت مباشرة نحو ثقافة سلطنة عمان خاصة، والخليج العربي عامة، فلم تتوسل ممارسة دور المعلم على الروائي لتنال بدون وعي من ثقافته الوطنية. لكنها تبقى مفردات لا واعية قد تشير إلى موقف كتابها من الثقافة التي أنتجت رواية تغريبة القافر. كالجملة التي ترد في ثنايا مقال الشاعر والصحفي المصري محمود خيرالله: "وفي الثقافة العربية المعاصرة يشار إلى الخلل الثقافي الذي يعاني منه بلدان الخليج العربي بسبب التناقض بين أموال النفط الغزيرة والنقص الفادح في المياه"، وهي عبارة وحيدة تدل على لا وعي كاتبها، إذ إن "أموال" النفط، وليست وفرة النفط، هي ما يقابل شح الماء. في إشارة لا واعية إلى مصطلح البترودولار الذي يبدو أنه لا يزال فاعلاً في نظرة وتقويم وتناول كتاب عرب لما تنتجه دول الخليج من إبداع، بل إن الأمر لديهم وصل لمرحلة الخلل الثقافي الذي تعاني منه بلدان الخليج العربي، وليست بعضها، ما يعني أنها كانت ولا تزال وستستمر ثقافة مشوهة/ ذات خلل ثقافي معاصر.
ومنها قراءة الشاعرة السورية وداد سلوم، وهي واحدة من قراءتين هاجمتا تغريبة القاسمي، والوحيدة التي لا تزال متاحة على المواقع العربية بعد حذف مجلة اليمامة السعودية لمقالة الهميلي. ونجد في قراءة سلوم: " فمن الغريب أن تتقدم ذائقة القارئ على تظاهرة أدبيّة عامة ومرموقة عليها أن تواكب مستجدات الابداع وتحتفي بالمتميز منه والذي يشكل قيمة مضافة في الثقافة العربية والإنجاز الروائي والأدبي" لنكتشف أن الرواية بحسب وداد، لا تشكّل قيمة مضافة لأن: "الرواية التي تبدو قريبة للحس الإنساني، ولكنها في الحقيقة متواضعة بالنسبة لما وصلته الرواية العربية"، وهنا يبرز سرّ ترديد مصطلح "الرواية العربية" وما وصلت إليه، وهو لا وعي بوصاية "المراكز" التي لم تعد موجودة إلا في أذهان البعض. ولا أدل على أن قراءة السيدة سلوم لم تكن سوى تعميمات شوفينية موجهة للثقافة التي أنتجت الرواية وليست للرواية تحديدا من وجود بعض المغالطات الفجة، كقولها: "كما حدث مع زوج آسيا الذي غادر بحثاً عن النداء الحلم، ولكنه بقي عاملاً في إحدى القرى ناسياً أسرته وزوجته عشرات السنين"، فسبع سنوات تحولت إلى عشرات السنين، ما يدل على أن ما كان يُقرأ على يد السيدة سلوم هو الثقافة التي أنتجت الرواية والتي لا تمتلك الحق في أن تتطاول على منجز وفوقية الرواية العربية/ المركز.
وأخيراً، يمكن الإشارة سريعا إلى قراءة المصري شريف صالح، حيث ورد فيها: "صنعت عُمان حضارتها الزراعية المغايرة لحضارات مصر والعرق والشام لغياب الأنهار الكبرى مثل النيل والفرات، وندرة الأراضي الطينية السهلة، بسبب طبيعتها الجبلية الخشنة ووعورة الأراضي" وهو أمر يبدو محايدا ومنطقيا، لولا ورود الجملة التالية بعد ذلك: "فإذا كان المصري القديم، أو العراقي مثلاً، شيد حضارة عظيمة، فإن التحديات التي واجهت الإنسان العماني القديم كانت أشد قسوة". لتتسرب ثقافة المركز مجددا، المركز الحضاري، منذ بداية التاريخ، وكأن "عبري" العمانية لا يوجد بها أثارا تمتد لخمسة آلاف عام، وكأن حضارة مجَان لم يكن لها وجود مقارنة بالقار في الذهنية العربية المعاصرة، حول الخلل الثقافي، والذي سيتلوه خلل في المكون الحضاري بكل تأكيد!.
ثانياً/ الشوفينية المقصودة:
1/ مقالة السيدة ذهني:
في مقال الصحفية المصرية سهام ذهني وردت "عقدة محفوظ" التي أشرتُ إليها سابقاً، وكان يمكن اعتبارها مجرد عقدة تتعلق بتأليه نجيب محفوظ مقابل الروايات العربية التي تصدر من خارج مصر، لكن الأمر يصبح مكشوفاً حين نرى العبارات الشوفينية تتوالى حتى خارج سياق نجيب محفوظ: "تأشيرة المرور عندي للتعجيل بقراءة روايته الفائزة فهو أنني قد رأيت لحظة حصوله على الجائزة، فلفتتني كلماته المتواضعة، وابتسامته الطيبة، وفرحته التي جعلته متلعثما. فكان التلعثم هو رونق البلاغة، تلك البلاغة التي وجدت أن روايته الفائزة عامرة بها"، لنناقش سريعاً مفردات: "تأشيرة" كدال على أن الهامش يطرق الأطراف وليس العكس، وهي الذهنية التي امتدت منذ طه حسين الذي حين أراد أن يتحدث عن رواية تونسية قال: "وردنا من تونس"، ثم مفردة "التعجيل" وهي منحة يقدمها المركز للهامش فلا يتركه ينتظر طويلا، ثم كلمات الروائي "المتواضعة" يوم الفوز بروايته، وابتسامته "الطيبة" كدال على الضعف أكثر من أي شيء آخر لأن السياق الذي ترد فيه المفردة سياق فوقية يمارس دور التقليل، وأخيراً تلعثمه الذي انسحب على لغة الرواية المتلعثمة، وهي دلالة أزمة وقوف النص متلعثماً/ النص الطفل أمام النموذج المركزي/ الأب الوصي المكتمل، الذي سيتولى واسيني الأعرج تحديد رقعته الجغرافية بدقة ونعته بالمركزيات".
ولم يتوقف الأمر بالسيدة ذهني عند الرغبة الواضحة في تكريس نموذج محفوظ، أو الاستعلاء اللغوي، بل تجاوزه إلى مرحلة "مصرنة النماذج"، وسنجد إشارات كثيرة لذلك، لعلي أختصرها إلى الاقتباسات التالية التي لن يخفى على كثيرين دلالاتها الشوفينية الواضحة: "أوليس نجاح الرواية يتحقق عبر إكمال القارئ لها، كل بحسب ما توحي له به الرواية. وهو الأمر الذي قام بتدوينه الروائي المصري الراحل «بهاء طاهر» الحائز من قبل مثل «زهران القاسمي» على جائزة البوكر خلال روايته الفائزة بالجائزة «واحة الغروب»، حيث نجده قد أشار عبر سطور الرواية إلى أن الحكاية لا تكتمل بروايتها، إنما يكملها من يسمعها" فبهاء طاهر المصري سبق رولان بارت وأمبرتو إيكو وآخرين في القول بأولوية القارئ في التلقي، لكن كيف لقراءة شوفينية أن تجد طريقة لتبين لقرائها أن الهامش فاز تاليا بجائزة البوكر وأن المركز قد سبقه إذا لم تحشر أحد رموزها ضمن مغالطة معرفية لتكريس أولويتها؟. ثم تأتي الإشارة للشاعر المصري أحمد شوقي، دون أن تغفل الكاتبة عن دعوة أم كلثوم، ولو رمزيا، للاحتفال النقدي الشوفيني: "أما زوجة القافر فهي الحب كله".
ثم تنتهي الحفلة النقدية بهذه العبارة: "مع تأويل أسباب أمور عديدة وربطها بالجن بدلا من الانشغال بخالق الجن والإنس، وهي أمور ترتبط عادة بعوالم الفقر والجهل، ليس فقط في قرى عمانية وإنما في كثير من القرى ببلاد أخرى" مع ما تحيل إليه "بلاد أخرى" من دلالة رمزية مفتوحة تكرّس فكرة تخلف ورجعية وجهل كل من وما هو خارج المركز. وهو ذات المركز الذي سيمارس استعلاء ثقافيا لتكريس مبررات وجوده ودعمها: "مشهد الختام شبيه بالخواتيم المدوية في سيمفونية «القدر» لـ«بيتهوفن» العظيمة، فنقرأ: «كان غائبا مع غضبه، متحدا مع مطرقته في هدم كل الجدران التي واجهته، وهو الوحيد، الغائب، السجين، الموجوع، الجائع، العطش".
أما ما سوى الشوفينية الواضحة في مقال السيدة "ذهني"، فإننا لن نجد إلا بذرة تأسيسها للنقد الأمومي بهذه العبارة: "فإنني كواحدة من القراء أختار ما حمله قلب زوجته وغزلها من أنه قد خرج حيا، فزوجته التي تحبه ويحبها ظلت على يقين بأنه ما زال حيا، يقين أرواح المحبين التي تتواصل سبحان الله بطريقة لا يعلم سبل التواصل بينها إلا من جرب الشعور بالقلق على حبيب بعيد ثم إذا به يعرف أن الحبيب بالفعل كان يواجه مشكلة صعبة".
2/ مقالة السيد الأعرج:
في ظل وجود الإنترنت، والمواقع الإلكترونية، والمدونات، وانتشار دور النشر على امتداد الوطن العربي، هل يمكن الجزم بوجود الثقافات المركزية؟، بالطبع هي لا تزال موجودة في ذهنيات البعض، إن بوعي أو بغير وعي منهم، لكن واسيني الأعرج يعي تماماً ما يتحدث عنه، ويعي مأزق المركزيات البائدة، فيجد من المناسب محاولة "استخدام" قراءة روايات الهامش لتكريس فكرة المركز، وهذا ما يتناسب مع عمره السبعيني، إذ من الواضح أنه لم يدخل الألفية الجديدة بعد: "ظلت عمان بلدا عربيا، ولمدة طويلة، على الهامش"، البداية التي تغري بأن يتم تطبيق منهج "تحليل المحتوى" لقراءة ما كتبه واسيني الأعرج حول تغريبة القافر، فمقاله يبدأ بمسلّمة لا تقبل النقاش، فعمان هامش: "أمام المركزيات الشامية أو المصرية أو المغاربية في السنوات الأخيرة"، ومصطلح السنوات الأخيرة لا يعني العقود الأخيرة، بل يعني الربع الأول من الألفية الثالثة، ولو تجاوزها موغلا في العمق الزماني نحو القرن الميلادي المنصرم لأصبحت عقودا وليست مجرد سنوات. ولأننا بصدد رواية من الهامش فازت بجائزة البوكر أمام المركزيات المسيطرة في (السنوات الأخيرة) فإن لغة الأرقام ربما تساهم في كشف الشوفينية التي يطفح بها مقال السيد الأعرج، فقائمة جائزة البوكر منذ تأسيسها كانت كما يلي، مع ملاحظة أن لجان التحكيم غالبا ما كانت من "مركزيات السيد الأعرج": الدورة الأولى 2008: رواية واحة الغروب للكاتب المصري بهاء طاهر. الدورة الثانية 2009: رواية عزازيل للكاتب المصري يوسف زيدان، الدورة الثالثة 2010: رواية ترمى بشرر للكاتب السعودي عبده خال. الدورة الرابعة 2011 روايتا "القوس والفراشة" للمغربي محمد الأشعري، و"طوق الحمام" للسعودية رجاء عالم، الدورة الخامسة 2012: رواية دروز بلجراد للكاتب اللبنانى ربيع جابر، الدورة السادسة 2013: ساق البامبو للكاتب الكويتي سعود السنعوسي، الدورة السابعة 2014: رواية فرانكشتاين في بغداد للكاتب العراقى أحمد سعداوي، الدورة الثامنة 2015: رواية الطلياني للكاتب التونسى شكري المبخوت، الدورة التاسعة 2016: رواية مصائر للكاتب الفلسطيني ربعي المدهون، الدورة العاشرة 2017: رواية موت صغير للكاتب السعودي محمد حسن علوان، الدورة الحادية عشر 2018: رواية حرب الكلب الثانية للكاتب الفلسطيني إبراهيم نصر الله، الدورة الثانية عشر 2019: رواية بريد الليل للكاتبة اللبنانية هدى بركات، الدورة الثالثة عشر 2020: رواية الديوان الإسبرطي للكاتب الجزائري عبد الوهاب عيساوي، الدورة الرابعة عشر 2021: رواية دفاتر الورّاق للكاتب الأردني جلال برجس، الدورة الخامسة عشر 2022: رواية خبز على طاولة الخال ميلاد للكاتب الليبي محمد النعّاس، الدورة السادسة عشر 2023: رواية تغريبة القافر للكاتب العماني زهران القاسمي.
وبهذا نجد أن البلدان التي فاز كتابها بالجائزة جاءت على الترتيب التالي: السعودية3، مصر2، فلسطين2، لبنان 2، ثم المغرب والكويت وليبيا وعمان والعراق والأردن وتونس والجزائر من مرة واحدة. أي أن جائزة البوكر في 16 دورة منحت لـ 17 رواية، أي: 13 للمشرق العربي ومصر 76.5% ، مقابل 4 للمغرب العربي23.5 %. كما أن للخليج العربي نصيب الأسد مقارنة بمركزية المغرب التي لا وجود لها إلا في ذهنية السيد الأعرج، إذ نجد 6 جوائز للخليج العربي مقابل 4 فقط للمغرب العربي. وبالعموم: يمكن مقارنة إنجاز الخليج العربي، في (السنوات الأخيرة بحسب الأعرج)، ببقية المركزيات الشامية والمصرية والمغربية، كما يلي: 6 للخليج 35%، 5 للشام 29%، 2 لمصر 12.5%، 4 للمغرب 23.5%.
ثم في ذات الفقرة الأولى ينتهي الأعرج إلى: "شيء عظيم ما يحدث إبداعيا، وروائيا تحديدا، يستحق تأملا جادا لأسبابه"، فالتأمل الجاد يقتضي أن هناك وجودا لتأمل سابق غير جاد كان أدباء الهامش يعانون منه، فجاء مقترح السيد المركزي لضرورة بدء التأمل الجاد، وهو التأمل الجاد الذي لا ينصب على دراسة أدب الهامش، بل دراسة أسبابه، فهو "طفرة" أدهشت المركز، وفاجأته: " فجأة ظهرت كاتبة كبيرة"، يقول الأعرج، ثم يضيف: "ثم بشرى خلفان برواية دلشاد/ سيرة الجوع والشبع، (2021) التي أخطأت البوكر بإنش واحد، لكنها حصلت بعد أقل من سنة على جائزة كتارا. واليوم يفوز العماني زهران القاسمي بالجائزة العالمية للرواية العربية “بوكر”. ما يدل من سياق الخطاب أن كل هؤلاء هم ولادة الفجأة الواسينية، مع ضعف في المتابعة وخطأ في الأرقام، فالسيد المركزي ليس مهتماً كثيرا بتدقيق في أي عام خسرت بشرى خلفان البوكر العربية، التي لم تخطئها بإنش واحد كما يزعم الأعرج بل تعمدت تخطيها لأسباب ليست معروفة في الظاهر، ولكنها متداولة في الكواليس.
ثم يقدم السيد الأعرج رؤيته حول المشكلة المنطقية لكون أدب الهامش خفيّا غير مرئي بقوله: "لا يمكن أن يكون ذلك كله وليد الصدفة. لا صدفة في مثل هذه الظواهر. هناك أرضية سرية، أو غير مرئية، أخفتها الأسماء العربية اللامعة"، ودلالة اللمعان المضاف للأسماء العربية في المركز لا يقابلها إلا الانطفاء في الهوامش وهم فوق الانطفاء سيكونون مقابل/ ضد اللامعين الذين هم "أسماء عربية"، فلأي أمّة تنتمي عُمان؟ وبأي لغة تكتب؟. لقد جعل الأعرج كل ما أنجزه العمانيون طيلة قرن من الزمان مجرد رهانات، فالأسماء الجديدة: "تشتغل في الخفاء لتجعل من هذا الجيل الجديد والمليء بالرهانات العظيمة أنبل وريث لجهود الأجيال السابقة التي مهدت له الطريق إبداعيا"، ثم كيف تتفق مفردة "وريث" للأجيال العمانية السابقة مع ما سبقها من فكرة ولادة سرد فجائي؟
ثم ينتقل "الأستاذ"، بعد أن وجّه عدة ضربات شوفينية سريعة وخاطفة إلى ثقافة/ الهامش في مواجهة المركزيات، إلى مواجهة تلميذة من خلال خطاب استعلائي لا شعوري، يدعم وعيه بالمركزيات ويكرسها: "عندما التقيت بزهران القاسمي، قبل أسابيع قليلة في بغداد، لم أكن أعرفه إلا من خلال روايته الأخيرة التي تلقيتها كهدية ثمينة في معرض الشارقة. سألته هل هو صاحب رواية تغريبة القافر. قال نعم ببعض الخجل. قلت له “رواية ساحرة وجميلة، جعلت من أسطورة الإنجاب السحري من صلب الموت، والموت المربك، مادتها الأساسية. أنا بصدد الكتابة عنها بالكثير من الحب.”، فهذا المقطع مليء بلغة الاستعلاء: "سألته هل هو صاحب رواية تغريبة القافر"، فالوجه هوية صاحبه، والاسم ليس بالعادية التي توجب اللبس، لكن تقمص دور الأستاذ المركزي يوجب مثل هذا السؤال: "أأنت أنت"!، ومفردات "التقيتُ/ لم أكن أعرفه/ "تلقيتها كهدية" كلها تأتي ضمن سياق دال على ذهنية طَرق الهامش للمركز الذي لا يحصل على أدب الآخر الأقل بل تصله كهدايا، ثم مفردات وتعابير: "الخجل، "أنا بصدد، بالكثير من الحب" تكرس تضخم الأنا، وتقدم بشارة لمنحة سيقدمها الأستاذ لتلاميذ الهامش وثقافاتهم المفاجئة المستحقة أسباب وجودها للتأمل.
بقي أن نعلم أن السيد الأعرج، سيد المركزيات، كانت له تجربة مثيرة مع جائزة "البوكر"، إذ ترشح 4 مرات على قوائمها الطويلة بروايات: "البيت الأندلسي" 2011 وذهبت الجائزة لكاتب مغربي وكاتبة سعودية، و"أصابع لوليتا" 2013 وذهبت الجائزة لكاتب كويتي و"رماد الشرق: الذئب الذي نبت في البراري" 2014 وذهبت الجائزة لكاتب عراقي، وروايته "ليالي إيزيس كوبيا" 2019 وذهبت الجائزة لكاتبة لبنانية، فلم يفز بالجائزة في أي من تلك الدورات، ولم يصل قوائمها القصيرة حتى.
ختاما:
يتضح مما سبق الكثير حول أزمة النقد العربي، وأزمة التلقي، ومن خلال جعل تغريبة القافر أنموذجاً، يتكشف الكثير والكثير حول آليات النقد الصحفي والتسويقي، المهتم بالحضور لتكريس مركزياته التي انقرضت إلا لدى البعض ممن يقاومون التخلي عن أفكار الهيمنة التي لم تكن صحيحة حتى في القرن الماضي، إذ لم تكن مدن العالم العربي خلوا من التعليم والمطبوعات والروايات والشعر. ثم إن الملاحظة الأهم أن النقد المتخصص شبه غائب، النقد الذي لا يُكتب من أجل تسجيل الحضور فحسب، أو بهدف ممارسة الوصاية على ثقافة ما أو الانتقاص منها. ولعل الملاحظة الأبرز هي أن النقد العماني، حتى في صور قراءات نقدية بسيطة، كان حضوره ضعيفا في نقد والتعريف بالرواية الفائزة بالبوكر، وأن صحف عمان نشرت مقالات حول الرواية إما أن محرريها لم يطلعوا على محتواها، أو أن أحدا لا يهتم بالمحتوى ما دام يسوّد بياض صفحات دوريته ولو على حساب تاريخ ومنجز ثقافته الوطنية وكتابها ورموزها.
التعليقات