تشير معطيات إلى تقلص مقلق لعدد الذين ينتمون إلى الطبقة المتوسطة في ألمانيا، خصوصاً أن هذه الطبقة هي التي تحافظ على الاستقرار الاجتماعي والاقتصادي، وتعتبر بمثابة المؤشر للاستقرار الأمني أيضاً.

برلين: في سبيعينات وحتى ثمانينات القرن الماضي كانت الطبقة المتوسطة هي الشريحة الاجتماعية الأوسع في ألمانيا، وكانت تضم من المعلمين وحتى الحرفيين مروراً بالأطباء والمهندسين والمحامين وأساتذة الجامعة. حتى إن العمال في هذا الوقت كانوا يوصفون بالعمال أصحاب الياقة الزرقاء.

وكان العامل يتقاضى في ألمانيا شهرياً ما يعادل 1800 مارك ألماني، ما مكنه من توفير جزء من راتبه لشراء منزل أو قطعة أرض، إضافة إلى قيامه برحلة خارج بلاده سنوياً. وحال الطبيب والمحامي وأستاذ الجامعة أو معلم المدرسة كانت جيدة جداً، فمرتبه كان يمكنه من القيام بأكثر من رحلة، وامتلاك حساب توفير والمساهمة في شركات البناء لامتلاك بيت وحتى شراء أسهم في البورصة. إذ إن المارك الألماني يومها كانت له قوة شرائية كبيرة.

ما كان يساهم في ارتفاع المستوى المعيشي للفرد هو الوضع الاقتصادي الجيد، رغم إصابته بين الحين والآخر بتراجع، خاصة في نهاية عهد المستشار الاشتراكي هلموت شميدت وبداية عهد المستشار المسيحي الديمقراطي هلموت كول، الذي وحّد ألمانيا قبل غيابه عن السلطة.

وبعد إتمام الوحدة الألمانية، بدأ كل هذا الترف بالاختفاء والتراجع، ليس فقط بسبب تكاليف الوحدة ووجوب إعادة إعمار ألمانيا الشرقية المنهارة، بل أيضاً نتيجة الأعباء الدولية، التي كان على ألمانيا تحملها، مثل زيادة قدراتها العسكرية برفع مستوى جيشها ومشاركتها بمهمات عسكرية دولية، كمشاركتها الحالية في أفغانستان، وهذا يكلف المليارات سنوياً.

وقد أصبحت الميزانة العسكرية، التي كان لها شبه وجود قبل الوحدة، تقتطع جزءاً كبيراً من الميزانية العامة للدولة، فأمست مديونية الدولة مع كل حكومة تزداد، وهذا ينطبق على حكومة المستشار الاشتراكي غرهادر شرودر وحزب الخضر الذي دخل الحكم بناء على شعاره لا لعسكرة للمشاكل السياسية والصراعات السياسية، لكن ما قامت به كان العكس تماماً. وزاد الطين بلة في السنوات الأخيرة الأزمة الاقتصادية المالية الدولية وانعكاساتها على الاقتصاد الألماني كما غيره في بلدان أخرى، وتبعات سياسة المصارف والمؤسسات المالية، التي كان على الحكومة دعمها بالمليارات، وإلا لهدد الانهيار القطاع المالي.

هنا بالتحديد يتهم الخبير الاقتصادي فلتر مولر من مؤسسة مراقبة اقتصاديات الدول في فرانكفورت الحكومة الألمانية بأنها انشغلت كلياً بالمشاكل المالية والاقتصادية دون إعطاء أي اعتبار لانعكاساتها على حياة الفرد، ومع أنها أدركت ذلك الآن، لكنها لم تقدم الحلول الكفيلة بالمعالجة. فنسبة الغلاء المعيشي في ارتفاع متواصل، والتسول في الشوارع بشكل ملفت ظاهرة لم تعرفها ألمانيا قبل ذلك، خاصة وأن نسبة كبيرة من الشباب يشكلون هذا الظاهرة.

يضاف إلى ذلك تكاثر أعداد المنتظرين أمام ما يسمى بالمطاعم المتجولة، وهي مخصصة لمن ليس له مأوى أو بيت. إذ إن نسبة 30 % منهم كانوا سابقاً أصحاب حرف أو مستخدمين في شركات تم تسريحهم لأسباب اقتصادية، ولأنهم فوق سن الخمسين، فإن الفرص ضئيلة لعثورهم على وظيفة جديدة. وبسبب قوانين البطالة العمالية، التي أقرت قبل أكثر من عشر سنوات، ومنها تطبيق ما يسمى بقانون الهارتس 4 على العاطل عن العمل، فإنه يحصل على مبلغ بسيط يكاد يكفي لدفع أجرة البيت وشراء طعام، والمشكلة الكبرى أن هذا القانون قذف بعوائل كثيرة إلى مصير مجهول.

وحسب تقدير الخبير الاقتصادي، إذا ما نظر إلى البيانات التي أصدرها المركز الألماني للبحوث الاقتصادية الأسبوع الماضي، فإن الصورة لا تدعو إلى التفاؤل أبداً، بل تشير إلى التقلص المقلق لعدد الذين ينتمون إلى الطبقة المتوسطة، لذا على الحكومة الآن إدراك ما يعني ذلك على تطور الاقتصاد بالدرجة الأولى وعلى الأوضاع الاجتماعية. فهذه الطبقة هي التي تحافظ على الاستقرار الاجتماعي والاقتصادي، وتعتبر بمثابة المؤشر للاستقرار الأمني أيضاً.

في الحقيقة تحمل بيانات المركز الألماني للبحوث الاقتصادي ما يسبب القلق، إذ أشارت إلى أن الطبقة المتوسطة في ألمانيا هي أكثر الطبقات تأثّراً بالأزمة الاقتصادية والمالية العالمية، إذ ينتمى إليها منذ عام 2008 فقط 58.7 % من سكان ألمانيا (عدد السكان 89 مليون نسمة). وقبل عشر سنوات كان النسبة تتجاوز الـ64 %، واستند المركز في هذه الأرقام على أسئلة وجهها إلى أكثر من مائة ألف شخص.

ومن ينتمي إلى الطبقة المتوسطة هو عادة من يتقاضي ما بين الـ70 وحتى الـ150 % من متوسط الدخل الصافي، فقبل عام 2008 كان هذا الدخل لغير المتزوجين من 1070 يورو وحتى 2350 يورو شهرياً، ولدى المتزوجين ولديهم طفلين ما بين الـ2250 وحتى 4935 يورو. وكان بإمكانهم العيش مع فائض يسمح لهم بالتوفير وقضاء إجازة في الخارج. لكن بعد عام 2008 تراجعت نسبة هؤلاء من 22.5 % إلى 17 %، أي ما يقارب من خمس مليون شخص مقارنة مع عام 1998، وفي فترة زمنية قصيرة جداً.

نتج من ذلك تزايد عدد الفقراء، حيث يعيش حالياً، حسب بيانات المركز الألماني للبحوث، حوالي 12 مليون شخص في حالة عوز، أي ما يقارب من 14 % من كامل سكان ألمانيا مقارنة مع الوضع قبل عشر سنوات. ويعاني من الوضع الاقتصادي السيء العوائل التي لديها ثلاثة أولاد وما فوق، ومعيلها عاطل عن العمل، وتشكل نسبة 25 %، أيضاً العائلات التي تعتمد على الأم كمعيل وحيد للأولاد، وتصل النسبة إلى 40 %.

ومحصلة ذلك تزايد عدد الأولاد الفقراء، ويصل عددهم إلى 2.6 مليون، وهذا يعادل 18.5 % من كل من هو دون الـ18 من العمر. والملفت أن عدد الأثرياء في ألمانيا ازداد بشكل بسيط. ففي عام 1998 كانت نسبة الذين ينتمون إلى هذه المجموعة قرابة 18 %، وفي عام 2008 أصبحت 18.8 %، لكن هذه المجموعة شهدت الكثير من التغييرات. ويعتبر الغني هو من يتقاضي 200 % أكثر من الدخل الصافي لشخص في الطبقة المتوسطة.