حين ينظر المؤرخون إلى الاضطرابات المالية والاقتصادية التي حدثت خلال الحقبة الحديثة حول العالم، فإنهم لن يبدأوا بالأزمة المصرفية التي وقعت في العام 2007، بل سيبدأون بانفجار الفقاعة التكنولوجية في مطلع القرن، أو ربما يعودون إلى ما قبل ذلك في وقت ذروة الأزمة المالية التي عانتها القارة الآسيوية عام 1998.


بن لادن لم يكن يتصور أن هجماته في 11 سبتمبر ستترك تداعيات اقتصادية بعيدة المدى في أميركا

أشرف أبوجلالة من القاهرة: أدت السياسات التي وُضِعت لمواجهة هاتين الأزمتين (الأزمة المالية في آسيا وانفجار الفقاعة التكنولوجية) بشكل مباشر إلى حدوث الانهيار المصرفي الحاصل اليوم، وكذلك سلسلة أزمات الديون التي رافقته.

مع هذا، ذكرت صحيفة التلغراف البريطانية في معرض حديث مطوّل لها ضمن هذا السياق أن هذه الأحداث ليست سوى البداية.

وتابعت بتأكيدها على أن الواقعة التي ألقت بظلالها الواسعة بالفعل على المستقبل هي هجمات الحادي عشر من أيلول/ سبتمبر، التي تمرّ ذكراها السنوية العاشرة هذا اليوم. وأوضحت أن أسامة بن لادن، زعيم تنظيم القاعدة الراحل، لم يكن يخطر في مخيلته أن هجماته الإرهابية الصادمة ستلحق أضراراً طويلة المدى بالاقتصاديات الغربية.

قبل وقوع الهجمات الصادمة، كان الصحافي البارز روبرت فيسك واحداً من الصحافيين الغربيين القلائل، الذين تمكن من إجراء مقابلة مع بن لادن، وحصل منه على إدعاء مثير للغاية، حين قال إنه سيُحَوِّل أميركا إلى ظل لنفسها، بالطريقة نفسها التي ساعد من خلالها التمرد الذي دعمه في أفغانستان على تدمير الاتحاد السوفيتي.

رغم الطابع السخيف الذي بدا عليه هذا الإدعاء حينها، كان هناك شعور بأن بن لادن قادر بالفعل على الإيفاء بوعوده. وهنا، أشارت الصحيفة إلى أن الضرر الممتد على المدى الطويل لم يحدث نتيجة الواقعة نفسها، بل نتيجة الطريقة التي تم التعامل من خلالها مع الواقعة.

حيث ردت أميركا على أحداث أيلول باندفاعها نحو خوض حربين، لا يمكن تحملهما في الأساس. الأكثر من ذلك، أن الولايات المتحدة قامت من أجل الحفاظ على سير عجلة الاقتصاد أثناء اضطرابات هذه السنوات، مع نظرائها الأوروبيين، بإطلاق ما كانت ستصبح ربما أكبر فقاعة ائتمانية على الإطلاق.

هذا ولم يُسمَح لدورة الأعمال بأن تأخذ مجراها في أعقاب موجتي التراجع اللتين جاءتا بعد نهاية ازدهار الدوت كوم. وللحفاظ على انخفاض قيمة عملة اليوان لضمان الحفاظ على قدرة بضائعها على خوض غمار المنافسة، قالت الصحيفة البريطانية إن الصين ارتكزت على فترة من تراكم الاحتياطي لنسب لم يسبق لها مثيل. وجاءت موجة الائتمان الرخيص، التي حدثت في أعقاب ذلك في الولايات المتحدة وغيرها من الدول، لتدعم الوهم الخاص بتنامي الرخاء لمدة نصف عقد أو أكثر.

وتابعت الصحيفة بقولها إنه في الوقت الذي كان يتحول فيه توازن الميزة الانتاجية في عالم الاقتصاد بصورة حاسمة من الغرب إلى الشرق، أتاح الائتمان غير المحدود الفرصة لمستويات المعيشة الغربية كي تواصل الارتفاع حتى مع تآكل القدرة التنافسية بصورة مطردة. وكان من الوارد حدوث هذا النموذج نفسه الخاص بالتنمية الاقتصادية على أي حال، بغضّ النظر عن هجمات الحادي عشر من أيلول/ سبتمبر.

وقالت التلغراف إن التراجع النسبي للاقتصاديات الغربية ربما تم التجهيز له بالفعل بحلول تلك المرحلة. وبدا من المرجّح أيضاً أنه حتى وإن لم يكن هناك وجود لابن لادن، لكان سيستمر صناع القرار الغربيون أيضاً في بذل كل ما بوسعهم لتجنب مواجهة حقيقة فقدان الهيمنة الاقتصادية.

وأوضحت الصحيفة أن أنشطة القاعدة ربما ساعدت على الأقل على تحريك الإفراط في تراكم المديونية الخارجية التي حدثت بعد ذلك. وعندما وقعت الأزمة المصرفية أخيراً، تشابه رد الفعل السياسي في بعض الجوانب مع ذاك الذي تم انتهاجه مع تداعيات هجمات الحادي عشر من أيلول/ سبتمبر، وكذلك غزو العراق.

حيث غُمِرت المنظومة بسيولة البنك المركزي، وتم تخفيض أسعار الفائدة لتقترب من المستوى صفر، وحين باءت تلك التدابير بالفشل، لم تفلح أيضاً الجهود الخاصة بعمليات طبع الأموال.

وفي الوقت عينه، بدأت تزيد الحكومات من إنفاقها، ما تسبب في إضافة المديونية الزائدة العامة على نحو مدمّر إلى عبء ديون القطاع الخاص الذي كان موجودًا في السابق. وأكدت الصحيفة كذلك أن الأزمة المصرفية المتأصلة تحولت بفعل السحر إلى أزمة ديون سيادية.

وأضحت المشكلات مستعصية للغاية، لدرجة إنه قد بات من المستحيل التنبؤ بأي مصداقية قد يتم التوصل إلى حلول بشأنها. وفي كل مرة يبدو فيها أن النمو يتعرض لحالة من التباطؤ، يتورط صناع السياسة الغربيون في موجة أخرى من التوسع النقدي.

وأشارت الصحيفة في الإطار نفسه كذلك إلى أن تكرار جولات التخفيف الكمي في الولايات المتحدة وبريطانيا تحظى تماماً بالتأثير عينه الخاص بإفساد العملة وكسب ميزة تجارية. وقد بدأت تظهر مطالبات تنادي بضرورة اتخاذ إجراءات دولية سريعة لإحداث توازن جديد، لكن التوصل إلى اتفاق ذي مغزى في هذا الشأن ما زال أمراً بعيد المنال.

في تقرير لها تحت عنوان quot;كيف دفعت هجمات أيلول الولايات المتحدة لتسريع وتيرة تراجعهاquot;، قالت مجلة التايم الأميركية إن الرئيس الأميركي السابق، جورج بوش، واجه خلال عامه الأول في البيت الأبيض التحدي الاستراتيجي الأبرز، الذي واجه الولايات المتحدة في القرن الجديد، في حادثة بدأت بتحويل طائرة أميركية من قِبل طائرات مقاتلة صينية أجبرت طائرة تجسس تابعة للبحرية الأميركية على الهبوط في جزيرة هاينان، بعد تصادم أسقط طائرة صينية، مما أدى إلى مقتل طيارها.

وهي الواقعة التي تلتها مواجهة متوترة استمرت على مدار 11 يوماً بين واشنطن وبكين، وهو ما كان بمثابة التحذير المبكر من أن سطوع نجم الصين، باعتبارها قوة اقتصادية عملاقة، سوف يُحَوِّل لا محالة التوازن الجيوسياسي للقوة آسيوياً وعالمياً.

ثم وقعت أحداث الحادي عشر من أيلول، وأقنعت إدارة بوش نفسها، وجزءًا كبيرًا من أميركا، بأن العالم قد تغير. وبعدها أعلن الرئيس الجديد الحرب على الإرهاب، التي أضحت الهاجس المهيمن والوحيد لسياسة أميركا الخارجية طوال الفترة المتبقية من ولايته الرئاسية، التي تركت البلاد أضعف من الناحية الاستراتيجية عند خروجه من البيت الأبيض، مقارنةً بما كانت عليه الأوضاع قبل توليه مقاليد الحكم.

وفي مقابلة أجراها هذا الأسبوع مع المجلة، قال نائب الرئيس بوش السابق، ديك تشيني: quot;كنا نتعامل مع الهجمات الإرهابية من قبل باعتبارها مشكلة متعلقة بإنفاذ القانون.. حيث كنا نتعقب ونعثر على الطرف المذنب، ونحضره للمحاكمة، ثم نودعه السجن. وبعد هجمات أيلول، لا يمكنك النظر بعد الآن إلى تلك الهجمات على أنها مجرد مشكلات متعلقة بإنفاذ القانون. بل من الواضح أنها عمل من أعمال الحرب. وهذا تحول كبير. حيث سيكون بمقدورك أن تستخدم كل الوسائل والسبل المتاحةquot;.

وبعدما نوهت المجلة إلى الأهداف التي سعت القاعدة إلى تحقيقها من وراء هجمات أيلول، فقالت إن جعل quot;الحرب على الارهابquot; محوراً لسياسة إدارة بوش الخارجية قد سمح لكتلة هامشية من المتطرفين، كان وجودها في الكابوس الأميركي أكبر من وجودها في الشارع العربي، لوضع الأجندة الخاصة بالدولة الأكثر قوة على سطح الكرة الأرضية.

وبعدما مضت المجلة تشير إلى الجهود التي بذلتها الولايات المتحدة أخيراً في سبيل التخلص من زعيم تنظيم القاعدة أسامة بن لادن، ثم الرجل الثاني أو الثالث في التنظيم، لفتت إلى ذلك التصريح الذي سبق أن أدلى به السيناتور جون كيري لصحيفة النيويورك تايمز في تشرين الأول/ أكتوبر عام 2004، وقال فيه quot;علينا أن نعود إلى المكان الذي كنا فيه، حيث لم يكن الإرهابيون محوراً لحياتنا، لكن كانوا مصدرًا للإزعاج فحسبquot;.

وباعتبار المسألة استراتيجية أمنًا وطنيًا، شرعت الولايات المتحدة في اثبات تفوقها العالمي لجميع المنافسين، وأن تعيد تشكيل الشرق الأوسط على طريقتها الخاصة، عبر تأثير الصدمة والرعب الخاص بنشر قوتها العسكرية الساحقة. ثم مضت المجلة تشير إلى أن حربي أفغانستان والعراق ربما أودتا بحياة أميركيين يزيد عددهم عن ضعف عدد الأميركيين الذين قُتِلوا في هجمات أيلول، فضلاً عن فقدان آلاف آخرين لأطراف أجسادهم (سواء من اليدين أو القدمين) وتأثر قواهم العقلية.

كما قدر الخبير الاقتصادي، جوزيف ستيغليتز، أن هذين الحربين سيكلفان أميركا ما يزيد عن 3 تريليون دولار، وهو مبلغ مماثل للمبلغ الذي استقطعته إدارة بوش من عائدات الضرائب الأميركية. وربما لم يكن مفاجئاً أن يكون الدين الوطني 5.73 مليار دولار حين تولى بوش الحكم، وأن يصبح 10.7 مليار عند مغادرته البيت الأبيض.

ولفتت التايم في الختام إلى أن السنوات العشر الماضية، منذ وقوع هجمات أيلول، شهدت تشويهاً لأولويات الولايات المتحدة الاستراتيجية. وبصورة تهكمية، قالت المجلة إن من الجدير ذكره أن أياً من نظريات المؤامرة الكثيرة التي تولدت نتيجة هجمات أيلول قد أشارت إلى أن بن لادن كان عميلاً صينياً، لأن بكين كانت المستفيد الأكبر من حرب أميركا على الارهاب، وذلك في إشارة إلى حالة النمو الواضحة التي شهدها الاقتصاد الصيني خلال السنوات العشر الماضية، التي ركزت فيها أميركا جهودها لمواجهة خطر الارهاب والإيقاع في نهاية المطاف بزعيم تنظيم القاعدة الراحل.