من أمستردام- صالح حسن فارس: إستضاف مهرجان هولندا العالمي للفنون (Holland Festival) والذي يقام سنوياً بأمستردام،أعمالا ًفنية ومسرحية متنوعة مِنها مسرحية (مكبث) التي تعتبر من أقصر مآسي شكسبير المسرحية إلا إنها الأكثف والأعمق لما تمتلكه من دلالات وأيقاع سريع وحبكة معقدة. كثيرون هم الذين قدموا ( مكبث) على خشبة المسرح وفي مختلف اللغات وبطرق مختلفة فقد قدمها البعض كما هي حرفياً ملتزماً بالنص الشكسبيري الأصلي في حين لم يلتزم البعض الآخر بالحرفية وصرامة النص بل راح يسعى إلى تقديم وجهة نظر مغايره من خلال قراءته الخاصة وإبداعه لنص آخر لُيجسده بعرض ضمن رؤية جديدة مثلما نجده في عمل المخرج الألماني المعروف (يورغن غوشJurgen Gosh ).
يورغن غوش المولود عام 1943 بإلمانيا الغربية غني عن التعريف فأعماله تثير جدلا ونقاشات كبيرة في ألمانيا وخارجها حيث يمتاز أسلوبه بإعتماد القسوة المثيرة للمشاهد.
عندما أشتغل المخرج الألماني على نص مكبث الشكسبيري خلق منه نصاً متدفقاً وحيا ومغايراً ففي مكبث غوش نجد شخصية البطل تتغير من تابع أمين إلى قاتل وسفاح دموي حيث يحضر الدم حرفيا على خشبة المسرح. عندما عُرضت في مدينة (دوسل دورف) الألمانية أحدثت ضجة واسعة ومثيرة للنقاشات الحادة لمشاهدها الصادمة التي تخللت العرض المسرحي رغم الإطراءات الكبيرة التي نُشرت في الصحف.
وفي المهرجان الهولندي تم عرضها على قاعة ( غاز فبريك ) واثارت إعجابا كبيرا لدى المشاهدين والنقاد ونشرت عدة تعليقات حولها في الصحافة الهولندية، وقد كتب الصحافي البارز ماركو وايرس في جريدة التلغراف، العدد 12 ndash; 06 ndash; 2006 العمل بأن كل شئ فيه ( هو تمثيل، تظاهر بالفعل ، يستخدم الممثلون فيه أجسادهم العارية كما لو إنها آلة أو- كنفاس - أبيض يمكن الرسم عليه بيسر. ولا تنتهي المسرحية بالتخلص من مكبث بل تكون خاتمتها الفوضى، الإرباك والإنهيار، إذ أن العمل يريد أن يقول - كما يبدو للمشاهد ndash; إن الفوضى هي النتيجة الطبيعية للحرب ومشاعر الأنتقام ). ولم تكن هذه هي المرة الأولى التي يحضر بها غوش إلى مهرجان هولندي بل سبقته مشاركات عديدة كان آخرها عام 1998 في مهرجان هولندا العالمي للفنون.
في مكبث غوش تم الأعتماد على ديكور متواضع وبسيط فغوش أعتمد على مقومات ( مسرح الفقير) الذي نادى به المخرج الكبير غروتو فسكي الذي يُجرد المسرح من اي شئ ضخم ويعتمد بالدرجة الاساس على طاقة الممثل ولا يتعكز على التكنولوجيا الحديثة بل يهتم بالبساطة المعبرة عن بدائية الاشياء ونقاوتها أو العودة للطبيعة كما في المشهد ما قبل الأخير من المسرحية حيث جعل المخرج خشبة المسرح عبارة عن غابة طبيعية وذلك بجلب أشجار حقيقة ونصبها الممثلون على أرجل الموائد المقلوبة، وحّول المسرح برمته إلى مكان طبيعي، لايحتاج الى زخرفة الاضاءة والديكور، كل شئ هنا طبيعي وبسيط ، إن إعتماد غوش على ( مسرح الفقير ) دفعه إلى التركيز على صوت الممثلين بالغناء ولم يُعر أي إهتمام بالمكياج أو مبالغات الديكور فحتى الاضاءة كانت على طول العرض فيضية كأنها جزء مساهم في كشف أسرار الجريمة وركز بشكل تام على الكلمات وجسد الممثل ليصبحا كل شئ!
تحتل مقدمة المسرح طاولة مستطيلة عريضة مكونة من سبع طاولات مربعة الشكل ومختلفة الألوان وتقترب من الجمهور سبعة كراس برتقالية اللون و تاج ملكي يتكون من الورق المقوى وثلاث علب دم وعلبتين من الماء في قاعة فقيرة عارية رمادية اللون حيث ثمة جدار ورقي أبيض اللون مربع الشكل معلق بخيط شفاف في وسط المسرح.
في هذا العرض المسرحي الممتع يبدأ الديكور بالتمزق تدريجيا وبهدوء كما الجريمة التي كانت تسري أثناء العرض وتبدأ أولى مشاهد المسرحية بمشهد غاية في الروعة والجمال، سبعة رجال يقفزون على المائدة حيث يتحول قسم منهم إلى جياد والبقية إلى فرسان يشرعون في قيادة جيادهم وكأنهم يطيرون في السماء وحين يهبطون يرتقي الملك المائدة من جديد ويتعرى من ملابسه ثم يضع التاج على رأسه ويبدأ بالغناء وحينها يعلو أحد الجنود المائدة حاملا قنينة دم وأسرار ومآس ويبدأ بالتعري ثم يدلقُ القنينة على جسده العاري ليسرد حكايات الحرب وأخبارها للملك أما البقية فيرقصون بشكل جنوني ليقودهم هذا الجنون إلى تحطيم الجدار الورقي الأبيض الذي يتوسط المسرح.

يالها من بداية مروّعة؟!
في نص شكسبير الأصلي يكون المشهد الأول ( خال من البشر، في ما عدا الساحرات الثلاث في مكان قفر مهجور، رامزاً بذلك إلى تحرّك المسرحية وشيكاً باتجاه اللاإنسانية والوحشة المريعة) على حد عبارة جانيت ديلون في كتابها شكسبير والإنسان المعاصر الذي قدمه للعربية جبرا إبراهيم جبرا. أما في مكبث غوش فيتحول ثلاث رجال إلى نساء بعد أن يخفوا أعضائهم التناسلية ويتحولون إلى ساحرات وهذه المعالجة مقتبسة من أجواء زمن شكسبير- كان الرجال يمثلون ادوار النساء -.
quot; متى نلتقي ثانية نحن الثلاث
في رعود وبروق وأمطار كاللهاث؟
حين يكف الهرج والمرج رعبا
ويمسي القتال خسرانا وكسبا quot;

يصوغ المخرج بعناية ودراية وخبرة فائقة حواراً مميزاً ضمن أجواءً خاصة إذ تحول مكان الساحرات إلى مكان بمنتهى القذارة، براز،بول ودم، وهنا تتحول المائدة إلى مكان الجريمة والبراز والقتل والأعتراف و يتحول الممثلون الى كائنات بدائية يفترسون بعضهم البعض فوق المائدة التي تنفصل إلى سبع موائد صغيرة ويسقط البعض إلى الأسفل.
وقد جعل المخرج المقاعد الأولى من الكراسي في القاعة هو مكان إستراحة الممثلين وتغيير أزيائهم كأحتياطي لاعبي كرة القدم وكأننا أمام شاشة تلفاز كبيرة تجري فيها مباراة بين فريقين محترفين وهكذا يمضي بنا غوش في ملحمة دموية هائلة تفوح منها رائحة الموت، مشاهد الدم المريعة، الجريمة، الدمع، البكاء،القيء، الخمرة، البصاق، الضراط، والقسوة مما جعلنا نخشى الحياة بعد أن نغادر المسرح إلى البيت. والدم في مكبث غوش ليس مجرد مجاز، إنه دم حقيقي يسيل من جثث القتلى.
تقول الليدي مكبث :
( قليل من الماء يزيل عنا تبعة هذا العمل:
ما أهونه اذن!
ولكن هذا الدم لايمكن غسله عن الأيدي والوجوه والخناجر. مكبث تبدأ وتنتهي بمذبحة. الدم يزيد أكثر فأكثر، والكل يخوض فيه. انه يفيض على المسرح. وأي إخراج ( لمكبث) لايوحي بالعالم غارقاً في طوفان من الدم هو اخراج كاذب حتماً) كا يقول يان كوت في شكسبير معاصرنا.
أو ما قاله غوش نفسه عن عمله هذا: ( القتل هو القتل فلابد من أن يكون هناك دم وبول وعنف).
قسم المخرج العمل إلى قسمين على مدى ثلاث ساعات وبدون إستراحة. القسم الأول كان ساخراً لاذعاً ومضحكاً بعض الشئ. أما الثاني والأخير فكان ثقيلاً وأكثر قسوة، حيث تحولت أرض المسرح الى ساحة حرب حقيقة ملطخة بالدم وكل افرازت الجسد البشري القذرة.
وأخيرا فإننا حقا أمام لوحة فنية وحشية ومثيرة لفنان كبير، أغرانا بالمشاهدة الممتعة والحقيقية لهذا العمل الذي جعلنا نرى بقلوبنا ومشاعرنا مايدور ومايحدث أمام أعيننا ولكننا لا نراه بابصارنا وكسر التقليدي في المسرح، إنه عمل مثير حقاً يستحق المشاهدة.