في هذا الزمن العصيب على الطغاة والحافل بكل معاني الأمل والإنفراج ورياح الإنعتاق على الشعوب المنهكة والمبتلية بحكم الطغاة والمتخلفين وبقايا الجندرمة العثمانية المندرسة وأتباع المدرسة الطائفية والعشائرية المتخلفة، نرى صورا ومشاهدا تاريخية متحولة كانت تمثل صورة أحلام وردية كان يحلم بها المواطن العربي ويرتعب من روايتها حينما يفيق من نومه !!، فإذا برياح التغيير وعواصف الحتمية التاريخية تحيل الحلم لحقيقة، وتجعل من مصارع الطغاة ونهاياتهم مشاهد تلفزيونية يتسلى بها العالم بكرة وأصيلا!، وأضحت مناظر الطغاة وهم يتراجعون عن مواقفهم وتصريحاتهم ويجرجرون أقدامهم المنهكة، ويرفعون وصايتهم وظلالهم الثقيلة على الشعوب الضعيفة من الأمور المألوفة في هذا العالم العجيب بمتغيراته الهائلة.
وورطة ومأزق الفاشية العربية البعثية المنهارة في العراق كانت الدليل الواضح والناصع على تهاوي وإندثار وتلاشي مرحلة هي من أعقد المراحل وأشدها دموية وإرهاب في تاريخ العرب الحديث، وحيث كانت المقدمة الموضوعية القوية لأعداد المشهد السياسي الإقليمي والعربي لمشاهد ومتغيرات جديدة وغير مألوفة تخرج عن كل السياقات التقليدية التي تعود عليها عالمنا العربي النائم في أحضان خرافات التاريخ ورواياته الغيبية المشبعة بعوالم الخرافة، لقد إنهارت وإلى الأبد أسطورة ( الحاكم/ الإله) الملهم العبقري، وتهاوت بتهاوي أنظمة القمع والغوغائية والتهريج الشامل كل أساطير القوة والمنعة والحصانة التي كان يشيعها الطغاة ليضمنوا خنوع الشعوب وصبرها على أقدارها، وبرغم الصورة المهتزة والقلقة في العراق والتي ستزداد رسوخا وثباتا مع قوادم الأيام وتضحيات الناس والأحرار، فإن ما حدث هناك خلال العامين المنصرمين قد شكل تحولا تاريخيا إنبلج من خلاله عصر وعقد جديد كان لا بد من أن يفرض قيمه ومتغيراته مهما تفانى الكارهون والمجرمون والخوارج وأهل الفكر التكفيري في إعتراضه وتحديه ومحاولة منعه.. إنه التاريخ يتشكل من جديد في بلاد الرافدين ليجعل نهاية الطغاة هناك بمثابة الشرارة التي ستنير كل دروب الشرق القديم ، فما تهاوى وإندرس في العراق ليس مجرد نظام سياسي عادي بل كان منظومة أمنية وعقائدية رهيبة ومتخلفة مستحضرة مفرداتها من عصور الفتنة الكبرى ولكن بأدوات ووسائل عصرية ، ولعل المحاكمات التي حدثت في العراق مؤخرا رغم محدوديتها وقلقها وتوترها إلا أنها تمثل معاني كبيرة في الدلالة والمغزى وفتحت المجال واسعا لتكرار المشهد وبصيغة أكثر شمولا وحرفنة ، لقد كان منظر البائد ( صدام) قائد الجمع الفاشي ( المؤمن ) وهو يجرجر لقفصه الأبيض بمثابة نقطة تحول تاريخية مصورة قذفت الرعب في قلوب الطغاة وبقاياهم على وجه التحديد، وهو منظر غير مألوف في تاريخ العروبة الحديث خارج سياقات الإنقلابات العسكرية التي يكون وقودها الناس والحجارة والضباط المتخاصمين كما حصل مرارا وتكرارا في العراق و سوريه وموريتانيا والسودان واليمن، كما كان خضوع قادة الأجهزة الأمنية والإستخبارية للمحاكمات التلفزيونية بمثابة جرس أنذار قاتل لعصابات القمع السلطوية التي أذلت الشعوب وسحقت إرادتها.
ومن خلال متابعتي للمحاكمات إستحضرت على الفور أقرب صورة شبيهة للوضع العراقي ولربما فاقتها تجذرا وتمددا وهيمنة! وهي صورة المخابرات السورية بقادتها الراحلين أو الباقين!! وبسجلاتها ( العطرة ) و بسمعتها ( الطيبة )!! وبتأثيرها الهائل على مسيرة الحياة والناس في جمهورية الرعب البعثية السورية والتي إرتكب قادتها من المجازر والإنتهاكات والتعديات ما يجعل إرهاب البعث العراقي بكل بشاعته مجرد فاصلة على السطر!!، فالسيرة والممارسات والأساليب واحدة!، والتاريخ الإرهابي والقمعي مشترك بالأشكال والتفاصيل والأساليب، وحملات القمع الشامل المؤرشف واحدة !! ففي مقابل جريمة الدجيل أو البصرة أو النجف أو مدن الفرات الأوسط في العراق هنالك مجازر حماة وجسر الشاغور وحلب وغيرها!!، وفي مقابل حملة تنظيف السجون البعثية العراقية هنالك مجزرة سجن تدمر الرهيبة والتي ما زال أبطالها أحياء!! وبعضهم يرفع راية المعارضة السورية اليوم!! في مشهد مضحك ينبثق من عمق المأساة؟، وإذا كان النظام العراقي قد قاد دولة القمع من خلال جهاز إرهابي مركزي وهو جهاز ( المخابرات العامة )!، فإن النظام السوري يقود الأمور من خلال جهاز المخابرات العامة الذي ينقسم ويستمد نشاطاته القمعية من خلال الفروع الأمنية المشفرة والمرقمة والتي تحصي على السوريين أنفاسهم و تتدخل حتى في تفاصيل حفلات الزفاف والختان ولربما في تفاصيل ( ليلة الدخلة )!!.
المسألة المهمة في الموضوع برمته هو تفاصيل القمع المؤرشف أي قمع الدولة المبرمج وبأدق التفاصيل التي تؤرخ لأشد المراحل سوادا في تاريخ شعوب المنطقة، وإذا كانت نهاية ( كنز المعلومات الإستخباري السوري ) الوزير السابق غازي كنعان قد رسمت خطوطا واضحة لنهايات قادة القمع الرسمي، فإن هنالك عناصرا عديدة من الضباط السابقين والسائدين تحاول ترتيب أمورها ولا بد أنها قد شعرت بالرعب والصدمة والهلع لمنظر ( برزان الرهيب ) وقد تحول اليوم لشخص بائس ومحبط يتوسل ويستعطف الرحمة التي لم تكن تصدر منه تجاه من رمتهم أقدارهم في طريقه!، سجون المخابرات السورية العامرة والطافحة بكل صور المآسي والمعاناة البشرية ستفتح ملفاتها القادمة صفحات سوداء في سفر تاريخ القمع العربي المعاصر، ومصير أهل القمع في بلاد الشام سوف لن يختلف بالمرة عن مصير زملائهم السابقين في العراق، فهل سيغتنم أهل القمع الفرصة ويتعظوا من التجربة العراقية المرة التي رسمت النهايات التاريخية للظلم البعثي الشامل... وهل ستتكرر صورة برزان المهانة في أقفاص الشام القادمة ؟؟... إنها حتمية مصارع الطغاة.. فلا عاصم اليوم من طوفان الحرية القادم !، لقد كانت صورة ( برزان ورهطه) جرس الأنذار الأخير للقتلة والظالمين الذين نسوا الله فأنساهم أنفسهم.

[email protected]