مثقفو الثورة الفلسطينية في غالبهم، شموليون نرجسيون، لا يحتملون نقداً، ولا يستسيغون غير الهدهدة والطبطبة ! إذا نقدتهم واجهوك، كالعادة، بالنقض لا النقد. ومع أنهم " مثقفون " كما يقال، فهم أبعد الناس عن تقاليد السجال الفكري وصراع الأفكار والرؤى، وتحوّلات المثقف داخلياً. إنهم استاتيكيون، تقليديون، محافظون، لا يفهمون ولا يستوعبون أن العالم من حولهم يتغيّر ويتبدل، وأنهم، لكي يتكيفوا معه، لا بد أن يتركوا قديمهم، ويأخذوا هذه المتغيرات بالحسبان.
فليس من المعقول ولا من المقبول، أن يُحاسب مثقف على رأيه، فقط لأنه يعمل موظفاً في وزارة الثقافة مثلاً. فإذا لم ترق للسيد الوزير آراء هذا المثقف، سعى إلى محاسبته والتحقيق معه، ثم خصمَ عليه تسعة أيام من الراتب، مع كتاب لفت نظر، كتوطئة
لفصله! فهذا كان يحدث في أيام حكم قراقوش، وأيام العثملّي، وأيام الاحتلال، ولا يجوز أن يحدث في أواخر العام 2005، وفي أيام السلطة الوطنية السعيدة. تلك بديهية، وأمر مفروغ منه، عند من يتمتع بالحد الأدنى من المنطق، وبالحد الأدنى من العقل.
لكنه، هذا الأمر، ويا للفكاهة السوداء، حدث مع كاتب هذه السطور شخصياً، على إثر مقالاتي ( المقال الأول / المقال الثاني )عن درويش، وانتقاماً من وجودي في إيلاف. فقد اتصل بي مدير تحرير الكرمل، الصديق حسن خضر، مرتين، وطلب مني في نهاية مكالمة طويلة، أن أكتب مقالاً إعتذارياً عن درويش، فلما رفضتُ، طلب مني أن أوقف "الحملة"، وإلا فسيطالني بطش وزير الثقافة، وسأدخل في متاعب كثيرة، ليس مستبعداً أن يكون الفصل من العمل، آخرها ! قلت لصديقي حسن، الذي أحترمه وتربطني به علاقات ثقافية وإنسانية، إنني لست ممن يُلوى ذراعي، ثم ما شأن وزير الثقافة، بما كتبته عن درويش؟ فأنا كتبت ما كتبت كمثقف لا كموظف، ولا أسمح لرئيس السلطة أن يتدخل في عملي كمثقف. ثم إن ما كتبته هو قناعات في المحل الأول والأخير، لذا فلن أغيّره. وإذا كنا نعيش في مجتمع متحضر، فبإمكان درويش أن يرفع عليّ دعوة قضائية في المحكمة، وإذا لا، فبمقدوره أن يوعز لحوارييه بالرد والنقد والنقض [وقد فعلها أحدهم] وأكثر من هذين الإمكانين،لا يستطيع. قال صديقي إن ثمة فكرة بإجراء تحقيق وزاري معك، وأنا أنصحك، بأن توقف هذه الحملة، لكي لا يحدث لك ولأولادك متاعب.
عجبتُ من هذا المنطق العثملّي، واندهشتُ من حال أدبائنا ومثقفينا ووزرائنا، لكنني ختمت المكالمة معه بأن ما تلقيه السماء تتلقاه الأرض، وحينها لكل حادث حديث! بعد يومين، تراجع الوزير عن فكرة إجراء التحقيق، بخصوص كتاباتي في إيلاف، بعد أن حسبها جيداً، فرأى أنه هو الذي سيخسر. لكن بقيت أجواء الوزارة مسمومة ومتوترة.
وحدث أنني أخذت إجازة، بعد غارات الطائرات الحربية، لكي أجري ترميمات على البيت القديم المتداعي، بمناسبة قرب الشتاء. فاستغلّوا أنني لم أخبرهم في مقر الوزارة المركزي [ مع أني أخبرت مقر الفرع، حيث
أعمل] وخصموا عليّ تسعة أيام من الشهر، ولم يكتفوا بذلك، بل أرفقوا الخصم بلفت نظر ! ولو كنت في بلد قانون وشفافية، ما كنت تأثرت بالأمر، ولكنني أعيش في دولة مماليك جديدة، الغائب الأكبر فيها هو القانون!
إذ لدينا موظفون في الوزارة لا يعرفون أين تقع الوزارة، منذ عشر سنوات. ولدينا أشياء وأشياء تحدث ولا علاقة لها بأدنى قانون. فلماذا يحاسبونني على "النقرة" فيما يُترك غيري من الموظفين الذين لهم علاقة بالوزير يتغيبون عن الوزارة شهرين وأحياناً سنوات ولا يحدث لهم شيء؟
قال صديق آخر إن الموضوع برمته له علاقة بما كتبت عن درويش. فدرويش له نهي وأمر على الوزير، والوزير لا يردّ له طلباً.قلتُ حسناً..هم اختاروها معركةً وأنا جاهز بقلمي.
سأكتب عنهم، ولن أدع هذا الأمر الهين يمرّ، لكي لا يُقدموا على ما هو أكبر منه. فهم أناس ومثقفون بلا أخلاق، ولا يتورعون عن فعل أي شيء خصوصاً إذا أحسّوا أن الذي أمامهم ضعيف.
فإذا كانت هذه أخلاقيات وزير روائي، وأخلاق شاعر كبير، فماذا ننتظر ممن هم أصغر منهم؟ ننتظر بالطبع ما هو أسوأ ! لكن الحقيقة على الأرض غير ذلك، فالمثقف البعيد عن النجومية والمنصب، هو أفضل حالاً بما لا يُقاس من هذين. فهذان أفلسا ولم يعد أمام أولهم إلا أن يُحرّض أو يأمر ثانيهم بالانتقام من موظف يعمل " عنده " لا عند وزارة الثقافة، ويسعى جاهداً في تأديبه وترهيبه، إلى أن يصبح تحت السيطرة وعلى المقاس!
إن معضلة أدباء الثورة الفلسطينية، أنهم يشعرون بالحصانة الأخلاقية وبالتميز عن كل من حولهم من المثقفين العرب، لكونهم أدباء ثورة وناطقين بلسانها الفصيح. ففكرة المعارضة، بما هي فكرة حديثة، لم تصلهم بعد، ولا يتقبلونها ولا يفهمونها لو وصلت. وإذا قيل لهم إن الثورة وأيامها وأمجادها انتهت، وها نحن ذا مهزومون وضائعون، وندفع ثمن تلك الأمجاد الكاذبة، نظروا للقائل غير مصدقين، واتهموه بالتشويه : تشويه أنبل ظاهرة في التاريخ!
معهم حق ! فهذه الثورة / الظاهرة، جعلت البعض منهم، يجوب بلدان الدنيا جميعاً، مرتين، قبل أن يكمل الثلاثين من عمره المبارك ! وجعلت البعض الآخر نجماً وثرياً ولا نجومية وثراء نجوم السينما.
إنما، كان هذا ماضياً وانتهى. فمتى يغيّر هؤلاء المثقفون نظرتهم للحياة وللواقع من حولهم؟ ومتى يتقبلون فكرة المعارضة، وفكرة العيش في العصر الحديث، وهم الأدباء اليساريون السابقون ؟ وإذا كان مثقفونا على هذا النحو، فكيف لنا أن نأسف ونتألم من ديكتاتورية السياسيين؟ إن لدينا مثقفين يكتبون التقارير، ومثقفين يكتبون عما يجب أن يكون، فيما هم يسفّهون : الكائن. فما معنى كل هذا؟ ومتى نتحاور في الشمس ونختلف في الشمس، بعيداً عن الدسّ وعن الميراث العربي الأسود لمصير المعارضين والمختلفين ؟
إنني حزين حقاً : حزين أن نصل إلى هذا المستوى الرثّ من آليات التعامل، بيننا وبين بعضنا الآخر كمثقفين. فما تكشّفت عنه هذه التجربة، هي أننا، كمثقفين، وبصرف النظر عن خياراتنا الفكرية وانتماءاتنا الأيديولوجية، وسواء كنا ثوريين أو رجعيين، فكلنا تحكمنا ثقافة بطريركية واحدة. ثقافة ورثناها عن مجتمعاتنا، ولم نحاول أن نغير فيها شيئاً. حتى ليصح القول، بأن حشوتنا واحدة، مهما اختلفت أزياؤنا!
في الثقافة البطريركية الشائعة شيوع الذباب، لا يصحّ للمرء العاقل أن يبصق في الصحن الذي يأكل منه. والمعنى أنه لا يجوز لك مثلا أن تنتقد أولياء نعمتك. حتى لو لم يكونوا أولياء، بل هم موظفون مثلك لدى جهاز الدولة. ففي هذه الثقافة ثمة تقديس للتراتب الوظيفي. وثمة رهاب من وضع مسؤولك الرفيع على محك النقد. إنها ثقافة انحطاط لا غرو : ثقافة ورثناها من عصور الإقطاع الغابرة. ومن أولى بالمثقف المشتغل في حقل الأفكار، أن يرفضها ويُسخّفها، لا أن يتماهى معها ويستفيد منها تلك الفائدة البائسة ؟؟ إن أحد الفروق الجوهرية بين المثقف وغير المثقف، أن الأول فرد خارج القطيع، فيما الثاني رقم في القطيع. الأول له كينونته المختلفة وفردانيته، فيما الثاني، ترس في آلة لا أكثر. فإذا تشابها، فهذا يعني أن ثمة خللاً بنيوياً وقيمياً يطال المشهد. وهو الحاصل في بلادنا للأسف، ففي هذه البلاد المعذبة، لا فرق مثلاً، بين الموظف والمثقف، ولا بين السياسي والمثقف. ولا فرق مثلاً بين الأخير، وتاجر المفرّق والجملة ! فنحن لدينا مثقفون على الورق فقط، أما في الحياة والسلوك اليومي، فلا يختلف سعيد عن سعيدة!
ومع ذلك، فلا أوهام لدينا حول حقيقة بعض مثقفينا المتنفذين، الذين يستقوون على أبناء الناس بمناصبهم. إنما لدينا عليهم ملاحظات وعلامات استفهام، وما شابه. فإذا لم يتقبلوها فهذا شأنهم لا شأننا. أما لجوءهم إلى تفاهات الطريقة العربية في التعامل: إما أن تُضبضب الموضوع وإما أن أعاقبك وأهددك وأثأر منك، بحكم منصبي ووضعي، فهو مردود عليهم، وسوف يشكل نقطة سوداء في تاريخهم، الذي لا يشكو، على أية حال، من ندرة هذا اللون، في كل صفحة من صفحات فصوله البعيدة والقريبة.
إنني إذ أدين بشدة هذا السلوك المعيب من قبل الوزير، والذي هو سابقة خطيرة، تحدث في بلادنا لأول مرة، أدعو المثقفين من خارج السلطة، إلى استنكاره وشجبه، فالقضية ليست قضية شخصية : لفت نظر وخصم يُتخذ بحق موظف، لكنها قضية رأي وحرية رأي، في المقام الأول والأخير. قضية عامة، تؤشر على ما وصلنا إليه من انحطاط أخلاقي وثقافي. أما عني شخصياً، فأنا أكتب في الشمس وأنشر في الشمس، لذا فلن يخيفني هذا المسلك، حتى لو دسّ عليّ الوزير الروائي، واتخذ ديوانُ الموظفين بحقي خطوات أبعد. فلو كنت جباناً وأخاف، لما كنتُ فتحتُ هذا الملف من الأصل.