كلام خارج السياسة

احتضنت كردستان مؤخرا ممثلي الكتل السياسية العرب لبحث مستقبل العراق من خلال تشكيل الحكومة المرتقبة انطلاقا من الانتخابات الأخيرة التي أسفرت عن نجاح الناس وإخفاق ممثليهم!
أحد عشر مليون عراقي تقريبا تحدوا أنفسهم قبل أن يتحدوا الآخر الإرهابي والصدامي المسلح اللذين يريدان بنا العودة إلى عهد هجين يجمع طالبان التخلف مع كيمياويات صدام حسين.
لحظة عراقية يتفوق فيها المحكومون على حكامهم لأنهم خرجوا عزلا إلا من قلوبهم التي لم تتعطل فيها الأشواق لمستقبل يكون فيه الناخب أكثر نبلا من المرشح ويكون فيه المواطن أهم من الوطن.
القمة العراقية في كردستان ليست قمة ريكافيك ولا شرم الشيخ. إنها قمة عراقية- عراقية في أحضان دوكان السليمانية، ولأول مرة يجتمع هذا الحشد الملون، رغم عصبية البعض من الطرفين، بعد أن كان الكرد بعبعا يصيب العرب في العراق، وفي الوطن العربي، بنوع من الحساسية تحك الجلود السميكة وتصيب الأدمغة، المدرعة بالكراهية وإنكار الأخ، بالصرع، كلما سمعت بكلمات مثل كرد وكردستان.
عندما كان حكام العراق من العرب الأقحاح لا يذهبون إلى كردستان إلا بطائرات الميج والسوخوي والمدفعية الثقيلة وهي محملة بالنابالم، لم يفتح الجوار العربي فمه بكلمة استنكار وهو يرى ويسمع، أو لا يرى ولا يسمع، كل ذلك الصليل المغلي الذي كان يصبه مغاوير وصناديد عبد السلام عارف واحمد حسن البكر وربيبهم المتفوق عليهم صدام حسين.
من المعروف إن كلمةquot; كردquot; واشتقاقاتها كانت محرمة في اللغة الرسمية للحكومات المتعاقبة في بغداد، ويفضل، بدلا عنها، استخدام عبارةquot; الشمال الحبيبquot; في احتيال لغوي للتعبير عنquot; كردستان الكريهquot;.
اليوم، تذهب الحكومة العراقية صاعدة من قلب الوطن إلى قلبه لتلوذ بسفوح دوكان الكردية
ليس من أجل التمتع بتلك الأجواء الساحرة المكللة بالثلج وأغصان البلوط والجوز، بل للحوار والبحث في مستقبل الوطن، الوطن كله، هذه المرة، ورجال الدين الذين ذهبوا هناك لم يكونوا مفخخين كأولئك الذين أرسلهم صدام حسين، ذات يوم، ليفجروا الملا مصطفى البارزاني.
لست هنا في معرض تصوير الأكراد كملائكة يوحون كلاما إلهيا على الباقين الإيمان به نصا مقدسا، فالكرد مثل سائر عباد الله يتكونون من لحم ودم وعقل وحواس، ومثل أخوتهم الذين يحاذونهم في جنوب القلب، خرجوا من أفران الحقد الدموي والعنصرية المعتقة التي أقامها الحاكم العربي الفاشي طيلة حوالي نصف القرن.
لست، مرة ثانية، في معرض تزكية الضيوف أوأهل البيت( إذا اعتبر أحد ثمة ضيوف ومضيفين)، أنما هو كلام خارج السياسة في تأمل الصورة الجديدة التي تذهب فيها حكومة بغداد ومعارضيها الجنوبيين من العرب إلى أولئك الشماليين في quot;غزوquot; جديد مختلف كليا عما كان عليه الأمر قبل التاسع من نيسان 2003.
quot;غزوquot; عماده سياسيون عراقيون بالملابس المدنية وليس بملابس القوات الخاصة والبدلات الزيتونية، هدفه البحث عن منطقة وعي مشتركة جديرة وليس التفتيش عن القرى البعيدة التي يلجأ إليها quot;العصاةquot; لوضعها ضمن إحداثيات ضباط الرصد المدفعي.
quot;غزوquot; لا يقوده سيء الصيت طه الشكرجي، ذلك الضابط( قائد الفرقة الثانية المختصة بحرق كل كردي يتم العثور عليه) بل تقوده شخصيات منتخبة( أو شبه منتخبة!) حيث ثمة شعور بأن للشريك الكردي دوره الضروري في كل خطوة، مهما كانت متعثرة، نحو العراق الجديد فعلا لا شعارا عاطفيا مرفوعا على صارية ولاء أعمى من أي نوع.
تجول في كردستان زعماء عرب من العراق نصفهم أعضاء حكومة، سيرا على الأقدام أو بسيارات مدنية، من دون أن يهرب لمرآهم سكان المدن والأسواق والقرى الكردية ولم ترتجف بسبب وجودهم أمهات الكرد وأطفالهن شكا وريبة من أحزمة ناسفة يلفونها تحت ثيابهم.
للمرة الثالثة، لست في خانة أحد، من العرب( بشقيهم هذه الأيام) أو الكرد لأفرح لأن المتحاورين سيخرجون يعلوا رؤوسهم الدخان الأبيض المتصاعد من مداخن كردستان( لكنه ليس غاز الخردل بالتأكيد) فمثل الكثير من المواطنين العراقيين لدي اعتراضات تمس العظم والعصب نشرت بعضها وسأنشر غيرها، كلما أدركت ثمة حقيقة تزوغ عن المشهد أو أكذوبة تتصدر المشهد، بفعل فاعل، لكنه كلام خارج السياسة يتأمل الصورة/ المفارقة حيث تصعد الحكومة ومعارضوها من بغداد وينزل الكرد من كردستان بلا بنادق بغض النظر عن نوايا البعض السيئة( ولن نفتش الضمائر) بل حسب ما نحلم به من مآثر عربية أو كردية انتظرناها عقودا حسيناها قنبلة قنبلة وسجنا سجنا ومنفى منفى وأخيرا: حلما حلما.