لا أعتقد من الصعب على الحاكم أن يكسب حب الناس واحترامهم. إذ كل ما عليه أن يبدي هو حبه واحترامه للناس ويتفانى في خدمتهم ويعلن زهده في السلطة، وبذلك يكسب السلطة وحب الناس معاً. أما إذا استمات الحاكم على السلطة وبأي ثمن، فمن شأنه أن يخسر الاثنين معاً.

الدكتور إبراهيم الأشيقر (الجعفري)، نكن له الاحترام وكنا وما زلنا، نتمنى له النجاح في تحقيق ما يطمح إليه الشعب في هذه الفترة العصيبة من أمن واستقرار وهو يحتل منصب رئيس الحكومة. أجل، يمر العراق في مرحلة صعبة، حيث بلغ الصراع الطائفي مبلغاً لا مثيل له في جميع مراحل التاريخ وراح يهدد وجوده كشعب وكدولة. وفي هذه الحالة كان على الحكام أن يكونوا قدوة في نبذ الطائفية والعنصرية. ولكن المشكلة أن قادة الأحزاب الإسلامية، السنية والشيعية، ساهمت بجهل مفرط وعن عمد، في تأجيج أوار الطائفية المقيتة. والدكتور إبراهيم الأشيقر، كشيعي، أصر على التخلي عن لقبه الأصلي (الأشيقر) مفضلاً عليه اللقب الطائفي (الجعفري) الذي تبناه خلال نضاله السياسي كمعارض لنظام البعث الساقط. وهذا يعني أنه متمسك بشيعيته، ولا عيب في ذلك ولا اعتراض عليه أبداً، فمن حق كل إنسان أن يعتز بانتماءاته المتعددة، القومية والدينية والمذهبية، ولكن دون أن يضحي بانتمائه الأكبر والأهم، ألا وهو الانتماء الوطني والولاء له، خاصة وإنه في منصب عال له علاقة بالمصلحة العامة تخص كل أبناء الشعب وليس لمصلحة أبناء طائفته فقط.

وتاريخ العراق حافل بأمثلة من قادة سياسيين تنكروا للطائفية من أجل الوحدة الوطنية. وعلى سبيل المثال لا الحصر، نذكر منهم الشهيد عبدالكريم قاسم، الذي عاش عمراً نحو خمسين عاماً وحكم العراق أقل من خمسة أعوام إلى أن استشهد، دون أن يعرف أحد عنه هل هو سني أم شيعي، ومن أية عشيرة، رغم أنه كان سنياً ومن أكبر عشيرة معروفة في العراق (الزبيد). وهو الذي أطلق قولته المشهورة أنه quot;فوق الميول والاتجاهاتquot; وأنه quot;ابن الشعبquot;، وبذل كل ما في وسعه أن يخلص العراق من ترسبات الماضي، في التمييز العرقي والديني والطائفي. لذلك بقي حياً خالداً في وجدان الشعب العراقي، إلا من كان في قلبه مرض الطائفية. لذا، حقد عليه الطائفيون من الذين أدمنوا على الموروث التركي العثماني في احتكار السلطة والثروة. فانقضوا عليه يوم 8 شباط 1963، ودافع عنه فقراء الشيعة رغم أنه كان من عائلة سنية، كما عرفنا فيما بعد.

ورئيسنا الأشيقر يصر في هذا الزمن الطائفي على لقبه الطائفي. كما ويصر على التمسك بالسلطة بأسنانه وأظافره مما راح الناس يشبهونه بصدام حسين في تهالكه على السلطة ولو على حساب مصلحة الشعب. أتمنى لو قرأ الدكتور الجعفري مقالة الدكتور رشيد الخيون، في (الشرق الأوسط) اللندنية يوم 5/4/2006 بعنوان: laquo;ماكو ولي إلا علي.. ونْريد قائد جعفريraquo;. وهذا العنوان مقتبس من شعار رفعته مجموعة في انتفاضة آذار 1991، وبتعليمات من القادة الإيرانيين، والذي لعب دوراً كبيراً في إجهاض الانتفاضة في وقتها، مما مدد من عذاب العراقيين إلى 12 عاماً عجافاً قضاها الشعب العراقي بين مطرقة الجلاد وسندان الحصار الاقتصادي. وقد ذكَّر الخيون الجعفري بمقولة الإمام علي الزاهد بالدنيا والسلطة: laquo;دنياكم هذي أزهد عندي من عفطة عنزٍraquo;. إن التصويت للجعفري من قبل كتلته (الإئتلاف الوطني العراقي) كان بفارق صوت واحد، ونتج هذا لأن منافسه الدكتور عادل عبدالمهدي قدم ورقته بيضاء دون أن يصوت لنفسه، لسبب لا يعلمه إلا الله، وإلا لخلص الجميع من هذه (الهيصة والخبصة) وضياع أربعة أشهر من وقت الشعب. أجل، كان بإمكان الجعفري أن ينزل عن بغلته ويقول لمعارضيه laquo;دنياكم هذي أزهد عندي من عفطة عنزٍraquo; وأنه يضحي بهذا المنصب في سبيل الوحدة الوطنية. والله لو فعل الجعفري ذلك لكسب قلوب وعقول أبناء الشعب من جميع الملل والنحل، وحتى معارضيه ولضرب للناس مثلاً على الزهد بالسلطة وإيثار المصلحة الوطنية على المصلحة الذاتية، وبذلك كان يكسب شعبية واسعة، وبرز زعيماً نزيهاً زاهداً تحتضنه الجماهير، وما أحوج هذا الشعب لولادة قائد زاهد عظيم وفي هذا الوقت العصيب. ولكن الدكتور إبراهيم الجعفري، ولسوء تقديره ولسوء حظ هذا الشعب، فوَّت على نفسه وعلى الشعب وأضاع هذه الفرصة الذهبية، وأغلب الظن أنه سيخسر السلطة وحب الجماهير معاً.

إن فشل الساسة العراقيين في تشكيل الحكومة رغم مرور أربعة أشهر على الانتخابات البرلمانية، لهو دليل قاطع على عجزهم في حكم أنفسهم. أجل، لقد أثبت الجعفري أنه سياسي فاشل، ولحد الآن لا يعرف أن السياسة فن الممكن. لقد فشل الجعفري في كسب الساسة الآخرين من قادة التجمعات السياسية العراقية وتوحيدهم حوله. كما فشل في كسب دعم الإدارة الأمريكية والبريطانية له. النجاح الوحيد الذي حققه الجعفري هو كسب مقتدى الصدر إلى جانبه. وهذا الكسب لا يدعو للفخر بل إلى تعزية، لأن انحياز مقتدى له لا يجلب له الخير، وإنما سببه العداء المستحكم بين الصدر وعائلة الحكيم ضمن هذا الائتلاف الهش والذي من الممكن أن ينفرط في أية لحظة.

يعتقد الجعفري خطأً أنه يكسب الشارع العراقي بمعارضته لأمريكا وبريطانيا. هذه عنجهية بدوية لا يصفق لها سوى البدو وليس من يريد ممارسة فن الممكن ويقود السفينة العراقية إلى ساحل الأمان وهي تمخر عباب بحر هائج. التظاهر بإدانة التدخل الأمريكي في تشكيل الحكومة العراقية لا يدل على الحكمة والشجاعة ولا تحقق النصر للقائد السياسي المحنك. هذا ما أكده التاريخ المعاصر، وهذا هو مصير صدام حسين القابع وراء القضبان.

إن دور أمريكا وبريطانيا في تقديم المساعدة والنصيحة في هذه المرحلة العاصفة ليس تدخلاً بل واجباً ولمصلحة الشعب العراقي. فكما قال السيد جاك سترو، وزير الخارجية البريطانية، أنه في الوقت الذي لا يحق فيه لأعضاء الاتئلاف الأمريكي فرض حكومة على العراقيين، غير أن مقتل جنودهم وقواتهم هناك يعطيهم الحق في دعوة العراقيين لاختيار رئيس وزراء في أسرع وقت ممكن. واعتبرت كونداليزا رايس، وزيرة الخارجية الأمريكية أنه quot;على رئيس الوزراء المقبل أن يكون زعيما قويا يعمل على توحيد القوى وتحقيق الاستقرارquot;. وهذه إشارة صريحة منها أن الجعفري ليس زعيماً قوياً لأنه فشل في تحقيق هذا الهدف.

نعم فشل الدكتور إبراهيم الجعفري في توحيد القوى السياسية وتحقيق الاستقرار، كما فشل في كسب ود ودعم الإدارة الأمريكية والبريطانية اللتين ضحتا بمئات المليارات من أموال شعبيهما وأكثر من ألفي جندي من قواتهما، لتحرير العراق، في الوقت الذي نجح فيه غيره من القادة العراقيين، مثل الرئيس جلال طالباني وأياد علاوي وعادل عبدالمهدي، كسب ود هاتين الحكومتين ودعمهما. وبعد هذا الفشل كله الذي مني به، فهل يتمتع الدكتور الجعفري بالشجاعة ليقول لمعارضيه laquo;دنياكم هذي أزهد عندي من عفطة عنزٍraquo;، ويريح ويستريح؟