في ضوء الإعلان عن إمارة الزرقاوي الافتراضية

في أثناء الأزمة التي عُرفت بأزمة الجعفري، كانت هناك أطراف عراقية تراهن على أن تجعل من تلك الأزمة ورقة ضغط لأن تغير الولايات المتحدة إستراتيجيتها في خلق عراق تعددي ديمقراطي تحكمه الأغلبية وتعود به إلى عهد الحكم الديكتاتوري من دون صدام. ولكن إنهاء البيت الائتلافي الشيعي من عملية إيجاد بديل مرشح لمنصب رئاسة الوزراء هو نوري المالكي في نيسان / أبريل الماضي، أدى إلى شعور تلك الأطراف بأن عراقاً أمريكياً تحكمهُ الأغلبية هو الذي سيسود في العراق لأربع سنوات قادمة في أقل تقدير.
إبان ذلك، ظهرت مرجعيات تلك الأطراف في الخارج تباعاً، وعبر وسائل الإعلام العربية للتعبير عن سخطها على واشنطن وعلى الأمة العربية والإسلامية التي بسطت يدها للشيعة لكي يحكموا العراق والتي أرادت، تلك المرجعيات، أن يحكمه السُّنة العرب بمعية السَّلفيين الجهاديين من بقايا نظام طالبان والأفغان العرب، وإبادة الشِّيعة الروافض والأكراد الخونة عنه، حسب بلاغة وتوصيفات تلك المرجعيات. ولكن، وبعد الإعلان عن ترشيح نوري المالكي لمنصب رئاسة الوزراء، توالت خطابات أسامة بن لادن والظواهري وأخيرا الزرقاوي. ولعل خطاب الزرقاوي كان الأهم بينها؛ فقد كشف ظهوره عن معطيات كثيرة تتعلَّق بتكريس إستراتيجية جديدة للجماعات المسلحة في العراق سواء في شكلها التكفيري السَّلفي أم في شكلها البعثي الصدّامي أم جماعات السلطان المتغلِّب.
تبدو الإستراتيجية الجديدة أنها تعيدُ النظر في أسلوبها ورؤاها معاً بعد أن أيقنت مرجعياتها الدينية والعسكرية بأن واشنطن غير متخليةٍ عن دعمها لعراق ديمقراطي تعددي تأخذ فيه الأغلبية الشيعية زمام قيادته في ضوء تشكيل حكومي وطني وشامل وغير إقصائي.
في وقت سابق من هذا العام، كانت الجماعات المسلحة العراقية قد اتخذت قراراً بإبعاد الزرقاوي و(تنظيم التوحيد والجهاد في بلاد الرافدين) عن عملها لأنه تسبَّب بخلط الأوراق عليها وتشويه سمعتها في الأوساط العراقية من جهة، وإنه صار يطغى على حضور الجماعات المسلَّحة العراقية، هذا وغيره مما كان قد أعلنه أحد أحفاد عبد الله عزام عبر إحدى القنوات التلفازية العربية من مقر إقامته بالأردن، في وقت كانت فيه أزمة الجعفري قائمة، إلاّ أن انفراج تلك الأزمة، ومشاركة الحزب الإسلامي العراقي في الدفة الرئاسية العليا بالعراق من خلال ترشيح طارق الهاشمي إلى منصب نائب رئيس الجمهورية، واقتناع أطراف سنية أخرى بالمشاركة في التشكيلة الوزارية الجديدة، أدّى ذلك إلى انقسام الجماعات السُّنية المناهضة للمشروع الأمريكي بالعراق إلى قسمين: قسم وجد في المشاركة والحوار السياسي أفضل طريق لخدمة العراق، وقسم آخر آثر الذهاب بدروب العُنف إلى نهاية أكثر شراسة ومقتاً لتدمير العراق على بكرة أبيه عندما أعاد التحالف من جديد مع الزرقاوي.
ولمّا كان الزرقاوي مقاتلاً ميدانياً يحفل بالصوت والصورة وغبار ساحات الوغى، فقد آثر الإعلان عن تحالف الجماعات العراقية المسلحة من جديد معه عبر القنوات التلفازية، من خلال الشريط المتلفز الذي بثته القنوات العربية عن حركة الزرقاوية الذي جاء إلى أحد مواقع (مجلس شورى المجاهدين) المتنقلة في وسط العراق، ملقياً عليهم عهده الجديد معهم، معبِّرا عن ولائه من جديد لهم، طالباً منهم العمل المشترك.
بعد ذلك بأيام، أخذت تنشط العلميات الإرهابية على رؤوس العراقيين المدنيين في مدينة الصدر وفي أحياء أخرى من بغداد، وأخذت شخصيات سنية تتعرَّض إلى الاغتيالات مثل مُحافظ الأنبار، كذلك تفجير مركز تطوع عسكري في الفلوجة وغيرها من العمليات التي تمَّ تنفيذها بين الإعلان عن شريط الزرقاوي وبين ما أعلنتهُ القوات متعدِّدة الجنسيات عن عثورها على النص الأصلي للشريط والذي كشف فيه الزرقاوي عن إستراتيجيته الجديدة مما سكت عنه الشريط الذي سربه إلى الإعلام التلفازي.
إن تحالف الزرقاوي الجديد مع الجماعات العراقية المسلَّحة يمثل في حدِّ ذاته تحولاً جديداً في استراتيجيات جماعات العنف بالعراق، وكان الكشف عن المسكوت عنه في الشريط المتلفز من قبل الأمريكان قد أضفى وضوحاً أكثر، فجوهر الإستراتيجية الجديد يسعى لإنشاء ما أسماه الزرقاوي بـ (إمارة إسلامية)، ولم يتحدَّث عن ملامحها، لكن تراث الزرقاوي ومرجعياته يشي بأنها إمارة طالبانية، إمارة تعتمدُ، فقهياً، المذهب الحنبلي (نسبة إلى الإمام ابن حنبل) لتزيح المذهب الحنفي (نسبة إلى الإمام أبي حنيفة النعمان)، الغالب على الإسلام السُّني في العراق، جانباً، وهي إمارة تزيح أبناء الطائفة الجعفرية في العراق وترحّلهم خلال ثلاثة شهور إلى حدود جغرافية ضيقة في جنوب العراق من خلال نقل المعركة إلى عمق مناطقهم الحالية بالقتل والإبادة والتهجير، بينما تبسط إمارة الزرقاوي الطالبانية يدها على وسط العراق وشماله وصولاً إلى القضاء على الأكراد في مرحلة لاحقة ليتم فيها تنشيط وإعادة تأهيل جماعات (أنصار السُّنة) وغيرها من الجماعات المرتبطة بتنظيم (القاعدة)، وأعتقدُ أن الزرقاوي سيقوم، بعد ذلك، بالقضاء على البعثيين والقوميين والصدّاميين، فللزرقاوي استبداده الذي غالباً ما ينساه البعثيون والصداميون وجماعات الحاكم المتغلِّب من العراقيين.
واضح إذن أن إستراتيجية الزرقاوي بمعية الجماعات المسلحة العراقية، إنما تقوم على رؤية انفصالية تسعى إلى تقسيم العراق على أساس طائفي مذهبي (أقاليم سنة، أقاليم شيعة)، وهو بذلك لا يختلف عن رؤية لسيلي غيلب، السياسي الأمريكي الأكثر تطرفاً من بين المحافظين الجُدد في الولايات المتحدة، ويبعث الرغبة لدى كل عراقي يريد تكريس العمل الأقاليمي في العراق، وهي إستراتيجية تريد تمزيق وحدة المسلمين في العراق من خلال تكريس الفُرقة بينهم وهو ما تريده إسرائيل من العراق. وهي أيضاً رؤية انفصالية دموية تريد القضاء على الموارد البشرية في العراق، وعلى التقدُّم المجتمعي والمعرفي والبشري في هذا البلد الجريح كما يريد ذلك كل معادٍ لهذا العراق النازف. فهل حقاً تريد واشنطن تقسيم العراق؟، وهل حقاً يريد الشِّيعة تقسيم العراق؟، أم أن المقاومة الزرقاوية ومن معها من عراقيي الاستبداد والسلطان المتغلِّب هي التي تريد ذلك بالدم والدمار تمزيق البيت السُّني العراقي قبل غيره؟؟
[email protected]