طالما تتهم المعارضة الحكومة بأنها حكومة تصدير أزمات، وكثيرا ما نقرأ في بعض التحليلات السياسية أن هذا النظام أو ذاك يعتمد سياسة أو لعبة تصدير الأزمات، وفي السجال الإعلامي بين الأنظمة المتخالفة نسمع ونقرا هذا التعبير كتهمة موجهة، فما الذي يقصده المشتغلون بالشأن السياسي من هذه التعبير؟
أن الفهم الأولي يفيد أن هناك أزمة ما يعاني منها نظام ما، هذه الأزمة قد تكون سياسية أو اقتصادية أو أمنية أو عسكرية أو برلمانية، وأن هذا النظام يعمل على تصدير هذه الأزمة أو الأزمات التي يعاني منها للغير، ومن قراءتي للعديد من الموضوعات والتحليلات السياسية التي تعرضت أو استشهدت بهذه العبارة، فهمت أن الغير هو في أغلب الأحيان دول جارة.
ولكن ما زال الموضوع يشوبه بعض الغموض، فهل يعني تصدير الأزمات نقل ذات الأزمة التي يعاني منها النظام المأزوم، كأن ينقل إلى النظام المجاور أزمته السياسية أو أزمته الاقتصادية، أو أي أزمة أخرى يعاني منها وذلك بمختلف الطرق الممكنة وبذلك يتخلص أو يتحرر من أزمته بالذات؟
لا أعتقد أن هذا هو المقصود، فليس المقصود بتصدير الأزمات نقلها إلى الآخر، ولا المقصود هو خلق أزمة مشابهة لدى الآخر، فإن متابعتي لهذا الاستعمال أفادتني أن النظام المأزوم إنما يختلق أزمة مفتعلة مع الآخر، لكي يشغل الشعب أو المعارضة عما يعاني من أزمات، كأن تكون مشاكل حدودية، أو أثارة خلافات قديمة أو اتهام مفتعل بتجسس مضاد وما شابه ذلك وهو كثير.
هذا هو المقصود من لعبة تصدير الأزمات، أو سياسة تصدير الأزمات، أن المعنى هو صرف نظر الشعب أو المعارضة أو كليهما عما يعصف في البلد من تدهور اقتصادي أو تدهور أمني أو تدهور اجتماعي، وذلك بخلق أزمة مفتعلة مع جار.
لعبة تصدير الأزمات كما يبدو تأتي بعد أن يفشل النظام بمعالجة الأزمة أ و الأزمات التي يعاني منها، سواء بالحوار أو بالقمع أو بالمعالجات الطارئة التي سرعان ما تفقد هيبتها وتعود الأزمة إلى طبيعتها وقوتها وربما بمعدل أكثر خطورة وتفاقما.
ويبدو أن دول أو أنظمة العالم الثالث هي من أكثر الدول والأنظمة توسلا بهذه اللعبة لمعالجة أزماتها الخانقة، وخاصة الدول والأنظمة التي تمارس سياسة ديكتاتورية طاغية ومرعبة مع أهلها وشعبها ومواطنيها.
وليس من شك أن لعبة تصدير الأزمات كما يظهر بوضوح إنما تتبع كأخر حل ممكن بالنسبة للنظام الذي يتوسل بها، وذلك في أغلب الأحيان، أي بعد أن يفشل القمع، و تفشل التبريرات الإعلامية، وتفشل المحاولات العقيمة الأخرى، يلجأ هذا النظام إلى افتعال أزمة مع نظام أو أكثر من الأنظمة المجاورة، ويحرك النظام المذكور دائرته الإعلامية لشد الانتباه إلى الأزمة الجديدة، مركزا على الخطر الذي يهدد الشعب، ويهدد مستقبل الوطن، سادلا الستار على ما يعاني الوضع الداخلي من تصاعد مخيف لنسبة البطالة، ومن اتساع لدائرة الجريمة المنظمة، ولما يعتري المجتمع من اختراقات أخلاقية وأدبية تنذر بخطر كبير من شأنه القضاء على هويته وأصالته.
لعبة تصدير الأزمات لعبة معروفة في عالمنا الثالث خاصة في الأنظمة الديكتاتورية كما قلت، وهي لعبة فنية تحتاج إلى جهاز إعلامي شيطاني قادر على ملأ المخيال الشعبي بجدية الخطر الجديد الذي يفوق كل المخاطر التي تهدد البلد والشعب من الداخل، فالمهم أن تتوجه أنظار الشعب، وأن يجند كل مواطن همته لمواجهة ما يدور على حدود البلد، أو لاسترجاع حق مضيع، بحيث السكوت عن ذلك يقود إلى نتائج خطيرة، تمضي بالبلد وأهله إلى الدمار والهلاك والبوار !!!
إن تصدير الأزمة في هذا الاستعمال يعني خلق أزمة، أزمة مع أنظمة أخرى، مجاورة في أغلب الأحيان، ومن الطبيعي أن يكون هناك اختيار دقيق لهذه الأزمة، كي تكون مبررة بشكل مقنع ، وكثيرا ما يكون الاختيار ينصب على أزمة من شأنها تثير لدى الشعب مشاعر الغضب والاشمئزاز والعداء تجاه الآخر، وهي قد تنجح إلى حد كبير في صرف النظر عما يدور في البلد، بما في ذلك ما كان بحد ذاته مشكلة بين الشعب والنظام، أو بين النظام والمعارضة.
ولكن هذه اللعبة لا تنطلي على المعارضة، أو على المتسلحين بالوعي السياسي والعارفين بقوانين اللعبة السياسية، ولذا سرعان ما يعمل هؤلاء على فضح اللعبة، وبيان خلفياتها الداخلية الحقيقية.
أن اللعبة هذه، أي لعبة تصدير الأزمات كثيرا ما تبرز تطبيقاتها المهمة عندما يتعرض نظام لخطر التقويض من الداخل، لأي سبب من الأسباب، حيث يعمد النظام إلى خلق أزمة خطيرة وكبيرة مع جار كي يوجه بكل الطاقات والممكنات الشعبية والمعارضة تجاه الأزمة الجديدة، فينقذ جلده ولو إلى حين، ومن هنا تتبدى قدرة هذا النظام على إقناع ا لوسط الشعبي العام بجدية الأزمة أو الخطر الجديد، كي يلتف على محاولات المعارضة التي تسعى لفضح كذبة الأزمة المفتعلة. ومن هنا نقول أن لعبة تصدير الأزمات لعبة فنية ذكية تحتاج إلى مهارات سياسية راقية، وإلى جهاز إعلامي متمكن ومحترف، وعكس ذلك قد لا تنطلي اللعبة، وبالتالي، تتحول إلى مشكلة جديدة تضاف إلى المشاكل التي يعاني منها النظام المصدِّر، أو النظام المأزوم.
وفي كثير من الأحيان يستغل النظام لعبة تصدير الأزمات ليشن حملات قتل مروعة وحملات تصفية قاسية، شاملة، مدمرة، تطال المعارضة وكل من يرفض الخضوع للنظام. وأعتقد أن نظام صدام حسين كان خير مثال على ممارسة هذه اللعبة الشيطانية الماكرة.