في العام 1968 انعقد أول مؤتمر يضم ممثلين عن هذه الأديان الإحدى عشرالمعروفة في العالم، في كلكتا في الهند، وكان موضوع المؤتمر: quot;مغزى الدين في العالم الحديثquot;. دارت أبحاثه كلها على أن أي دين لا يملك الحقيقة المطلقة، وإنما يملك شكلاً من أشكالها ولهذا ليس من مبرر لتعالي دين على آخر ونفي هذا المبرر ينطوي على إثبات مبرر آخر هو ضرورة تلافي الأشكال المتباينة باعتبارها وجهات نظر لحقيقة مطلقة. وبالتالي فليس من حق أي دين تحديد هذه الحقيقة المطلقة، لأن تحديد دين ما لهذه الحقيقة ينطوي على حذف الأديان الأخرى.
ومع تصاعد العنف والإرهاب في الربع الأخير من القرن العشرين، والتنامي المفرط للأصوليات الدينية في العالم أجمع، وبسبب خطورة هذه الأصوليات على تحقيق السلام العالمي أو الكوكبي، تبنت الأكاديمية الأمريكية للآداب والعلوم دراسة هذه الأصوليات تحت عنوان quot;المشروع الأصوليquot; ولمدة خمس سنوات ابتداء من عام (1988 ndash; 1993) وصدرت عن هذا المشروع خمسة مجلدات تناولت الأصولية الإسلامية في الشرق الأوسط، والأصولية البوذية في سري لانكا وبورما وتايلند، والأصوليتين الهندوسية والسيخية في شبه القارة الهندية.
وانتهت إلى أن بزوغ هذه الأصوليات لم يكن مجرد رد فعل ضد الرؤى الكونية الجديدة التي تهدد تراثها، بل كان بزوغها بهدف تأسيس أنظمة سياسية تستند إلى مطلق أصولي، وتتخذ من الإرهاب وسيلة لتحقيق هذا التأسيس.
وحيث أن المطلق الأصولي بحكم طبيعته واحد لا يقبل التعدد فإن تعدد المطلقات الأصولية بتعدد الأصوليات الدينية يدخلها بالضرورة في صراع، يطلق عليه أستاذنا مراد وهبه : quot;صراع المطلقاتquot;، فالصراع العربي الإسرائيلي هو صراع مطلقات في نهاية المطاف، فثمة وحدة وصراع بين الأضداد في منطقة الشرق الأوسط، quot;الوحدةquot; في أن كلاً من الأصولية الإسلامية والأصولية اليهودية تريد تجسيد مطلق معين في الواقع وثمة صراع في نفس الوقت بين هذين المطلقين... ولكن يبدو أن هناك مطلقا ثالثا أصبح علي الخط، وفي لجة هذا الصراع.
ظهرت بوادر هذا الصراع مع إعتلاء الكاردينال راتزينجر السدة البابوية قبل أكثر من عام، حيث تم استدعاء ممثل حاضرة الفاتيكان في إسرائيل أكثر من مرة، وتقديم شكوي رسمية من صيغ بيانات الإدانة التي أصدرها البابا الجديد، للتفجيرات الارهابية في كل من لندن وتركيا ومصر والعراق... بدعوي ان البيان تجاهل ذكرحوادث التفجيرات الارهابية داخل إسرائيل. وذهب المتحدث باسم وزارة الخارجية الاسرائيلية الى حد اتهام البابا بنديكت السادس عشر laquo;بالإغفال المتعمدraquo; لهذه الحوادث الارهابية، والى اعتبار laquo;صمته المدويraquo; حيالها بمثابة laquo;ترخيص لأعمال العنف ضد اليهودraquo;.
بيدان تكرار اسرائيل انتقاد الفاتيكان لاخفاقه في إدانة أعمال العنف التي تتعرض لها اسرائيل laquo;باللهجة نفسهاraquo; التي يدين فيها العنف في الدول الاخرى، أخرج الفاتيكان عن تحفظه الدبلوماسي ليعلن المتحدث باسم البابا أن الفاتيكان laquo;لا يقبل دروسا وتوجيهات من أي سلطة كانتraquo; وليوضح أن سبب التفريق بين أعمال العنف في اسرائيل وفي غيرها من الدول يعود الى ان الهجمات التي تتعرض لها اسرائيل غالبا ما تستتبعها عمليات قمع عسكرية laquo;تشكل خرقا للقوانين الدوليةraquo;.
ولا يخفى أن laquo;جرأةraquo; الفاتيكان في وضع النقاط على الحروف في لغة تعامله مع اسرائيل تأخذ بعدا خاصا الآن، وفي هذا السياق تبدو مقاربة الفاتيكان للخلاف مع اسرائيل أكثر بعدا سياسيا من الخلاف نفسه إذا اعتبر مؤشرا على إنقضاء مرحلة الدبلوماسية الهادئة بينهما مع انقضاء عهد البابا البولندي الأصل، يوحنا بولس الثاني، وتسلم البابا الألماني الاصل، بنديكت السادس عشر، دفة الأمور في الفاتيكان.
ان موقف الفاتيكان من اسرائيل لا يعود فقط الى تباين في تقويم laquo;أخلاقياتraquo; العنف بل الى خلافات مزمنة بين سدة الكثلكة الدولية ومعسكر اليهودية العالمية عمّقها تجاهل الزعامة البروتستانتية للعالم تسويتها على أسس ترضي الفاتيكان (وأبرز هذه الخلافات مطالبة الفاتيكان بوضع القدس المحتلة ـ عاصمة إسرائيل laquo;الابديةraquo; ـ تحت وصاية دولية ومنح الاكليروس الكاثوليكي وضعا خاصا بصفته حارس الأماكن المقدسة المسيحية فيها.)
لكن يبدو ان الأمر أختلف كثيرا عن ذي قبل، وهو مايثير مخاوف حقيقية لدي إسرائيل، فهناك أوجه تشابه بين رؤي الرئيس الامريكي جورج بوش في أن بعث الأخلاق في المجتمع الأميركي هو أنموذج يناسب العالم بأسره. و مايؤمن به البابا الجديد للفاتيكان الذي كلفه البابا الراحل وضع حد للمنشقين عن الكنيسة، واستبعاد الأفكار المنحرفة والتحذير من حداثة تخلط بين التسامح الديني ونسبية الاديان، وبين الحرية والإباحة.
لقد ظهر بوش البروتستانتي على أنه أفضل مدافع عن الفاتيكان بنضاله ضد الإجهاض، والموت الرحيم، وإجراء الأبحاث على خلايا الأجنة، وباستعادته عبارة quot;ثقافة الحياةquot; العزيزة على قلب البابا يوحنا الثاني في مناظرة تلفزيونية. وشكل التحالف بين الكاثوليك المحافظين والبروتستانتيين الأصوليين دعامة من دعائم فوز جورج بوش بولاية ثانية.
فضلا عن ان رفض الكاردينال راتزينجر ( البابا بنديكت السادس عشر حاليا ) انتهاج استراتيجية التسوية مع الحداثة العلمانية هو سبب فوزه بالكرسي البابوي. كذلك رفضه التسويات العقائدية والأخلاقية، وهو ما يجعله يسير علي خطي quot; جورج فيجيل quot;، أكبر مؤرخ أميركي لسيرة البابا يوحنا بولس الثاني والمثقف الكاثوليكي الاكثر تأثيراً في الولايات المتحدة، صاحب المقولة الشهيرة : إن quot;الكنائس التي تترك تعاليمها مشرّعة على التغيير لن تصمد طويلاً، بل تنهار وتختفي quot;.
ان نبذ كل مصالحة مع فلسفة التنوير، ورفض التفسيرات المشككة في النصوص المقدسة والعلوم الإنسانية التي تفسد الإيمان المسيحي. هو أهم ما يجمع بينهما، بل ان جورج فيجيل ذهب الى أن quot;المشروع التقدميquot; في الكنيسة مات مع انتخاب بنديكت السادس عشرquot;.