تراود الدارس والباحث المسلم مجموعة خواطر وهو يريد الحديث عن المسجد الإسلامي، فقد تتبادر إلى ذهنه تلك الصور النمطية عن المسجد، بحيث يتصل بشكل مباشر وفاعل بمفهوم وحوليات العبادة، فهو مكان عبادة، عبادة كما يفهمها البعض كشعائر طقسية تهدف تعزيز العلاقة بين الله والإنسان، وبالتالي، هي مكان لتكريس الفردية بشكل من الأشكال، فكل مصل من المصلين قد توجه بكيانه الكلي نحو الله، يرجو الخلاص الفردي. أو يطلب عزا فرديا، يتمحور حول غاية باطنية ملحة، تلك هي الذات في الوجود على صيغة الأنا، وقد يتبادر إلى الذهن أنه مكان روحي، يغذي الذات بنعمة الصفاء المعنوي ولو لدقائق معدودات، ربما تزوده بالقوة التي من شأنها مقاومة الجنوح الغريزي غير المنضبط بهدي الشرع وبديهيات الأخلاق، أو مقاومة طموح لا يجد في قاموس الله صدى جميلا ، وربما يتبادر إلى الذهن أنه مكان تجمع شفاف، يتناسى فيه المجتمعون مشاغل الدنيا لحين... وتكثر التصورات في هذا المجال، تبعا لاختلاف الثقافات، وانفعالا بالتجربة الروحية لكل مؤمن، وربما ينتقش في الذهن كمكان علمي، مكان مطارحة عقدي وفقهي وما إلى ذلك من علوم تخص الإسلام وتدور حول مفاهيمه وأحكامه.
هذه التصورات لم تعد هي المهيمنة على نماذج الرؤية حول المسجد الإسلامي، فقد طرحت تصورات أكثر فاعلية وعمقا وتأثيرا، فالمسجد قد يكون مؤسسة اجتماعية تتولى معالجة الكثير من الحاجات التي تهم المجتمع، بما في ذلك المستويات المعيشية والصحية والتربوية للناس ، وتحول المسجد في كثير من الأحيان إلى نشاط مادي / روحي،، وبين هذا وذاك كان المسجد قد اتخذ صفة تعبوية، في مواجهة الغزو، ومحاربة الاستعمار، والمطالبة بالاستقلال،حتى قالوا أن المسجد في الدرجة الأولى نشاط تعبوي قبل أي شي أخر،خاصة في مثل هذه المجالات.
من الطبيعي صعب أن لم يكن مستحيلا العثور على نموذج واحد على نحو الصفاء الكلي، فكل تصور بمثابة نظام من التصورات الداخلية، وعبارة عن تاريخ من التحولات التي من الصعب أيضا المسك ببداية زمنية لها، ومن هنا يبدو لي من غير السليم إمضاء تلك التصورات على سنة الصفاء النهائي، فقد تتداخل التصورات عن وظيفة المسجد، وتتلاقى بفعل عوامل وأسباب ودوافع من العسير حصرها في عناوين خاصة.
في خضم هذا السجال الوظيفي ينبثق تصور يرى أن المسجد مؤسسة من مؤسسات المجتمع المدني، مدفوعا لذلك بما للمسجد من قيمة اجتماعية وروحية وعملية، ولما يمكن أن يقوم به من عمليات تعبوية ناشطة على أكثر من مجال، ومدفوعا ربما من ناحية أخرى، بما يحمله اليوم مفهوم المجتمع المدني من قوة وحيوية، فقد أصبح المجتمع المدني القوة الأساسية وراء التغيير السياسي في دول شرق أوربا، ودول الجنوب عامة، لقد نجحت مؤسسات المجتمع المدني فيما أخفقت عن إنجازه كبرى الدول الرأسمالية في حركتها الرامية للإطاحة بأنظمة شمولية، فهل ينكر أحد دور نقابات العمال في بولوندا في إسقاط الحكم الشيوعي مثلا؟
ولم يعد سرا أن قوى أو بالأحرى مؤسسات المجتمع المدني كان لها دور في الانتقال نحو الديموقراطية، فالأحزاب والنقابات والجمعيات الخيرية بما تقوم به من ممارسة ديقمراطية في داخلها، وبما تدعو إليه من قيم سياسية تتجسد بالشراكة وتبادل السلطة، ساهمت بقسط كبير في عملية التحول الديمقراطي.
ولكن السؤال...
هل يصدق مفهوم مؤسسات المجتمع المدني على المسجد؟
من الصعب البت في الجواب، ذلك يعتمد على نوع رواد المسجد، يعتمد على نوع الثقافة التي يتمتع بها عالم المسجد، يعتمد على المنطقة التي يوجد فيها المسجد، فقد تتوافر مجموعة عوامل ترفض تحويل المسجد إلى كيان اجتماعي فاعل، بل هو كيان طقسي بارد، يركز على الخلاص الفردي من خلال الصلة المركزة بالله، بهدف ا لخلاص، بهدف النجاة الفردية البحتة. وحتى أذا تحول المسجد إلى ورشة عمل، عمل اجتماعي روحي، يقوم بنشاطات اجتماعية تهدف إلى معالجة بعض الحاجات الاجتماعية والاقتصادية و الصحية... حتى إذا حصل ذلك، يبقى من الصعب درج المسجد في هذه الخانة، أي خانة مؤسسات المجتمع المدني، لسبب بسيط جدا، فالمسجد ليس حزبا سياسيا، ولا نقابة، ولا جمعية خيرية، وليس هناك انتساب رسمي، وبطاقة انتساب، ولا اشتراك شهري، ولا جامع مهني، ولا جامع هواياتي...
إذن هل ننفي كل علاقة بين المسجد وهذا المصطلح المهم؟
هذا المصطلح الذي صار عنوان بحوث اجتماعية راقية، هذا المصطلح الذي يترجم حالة تلح عليه حركة القرن الواحد والعشرين في سياق التحولات السياسية والاجتماعية والفكرية.
لا بطبيعة الحال...
إن المسجد في تصوري فضاء روحي، وقيمه تعلو على كل حصر، مادامت الروح في التصور الديني القرآني ــ كما أرى ــ تتواصل بعلائق ووشائج معقدة وعميقة بالمادة، وبالعطاء، وبالبذل، وبالإضافة الإيجابية للحياة، ومن هنا فالمسجد في تصوري غطاء واسع للكثير من مؤسسات المجتمع المدني!
المسجد فضاء روحي، يجتمع فيه الناس بلا إذن، بلا بطاقة، بلا بدل اشتراك... لكل الناس، الفقير والغني، الغريب والمعروف، العسكري و المدني، الصغير والكبير، الرجل والمرآة، الموظف وغير الموظف، الرياضي والرسام والشاعر والكاتب والممثل والفيزيائي والكيمائي ... السياسي، الديني التقليدي... الإسلامي السياسي...
ذلك هو المسجد...
قيم روحية تعلو على الحصر...
حضور بلا مشخصات مهنية أو مشخصات وظيفية أو مشخصات جسمية أو مشخصات نسبية، أو مشخصات سياسية... حضور يتعدى كل الحدود، والخطوط، إلا فيم ندر...
هل يمكن أن نلتقط علاقة خاصة بين المسجد والمجتمع المدني من هاتين الحقيقتين؟
نعم!
أن مؤسسات المجتمع المدني لا تصدق بدقة على المسجد، ولكن المسجد بهذه الروح، بهذه السعة البشرية، بهذه القيم الروحية العالية، يمكن أن يكون منطلقا لتأسيس المجتمع المدني!
هذا هو المسجد!
شرائح من الحضور يمكن أن تلتقي في المسجد وهي تلتقي على خصائص جامعة في أكثر من نقطة وفي أكثر من صفة، فما الذي يمنع أن يكون المسجد بالنسبة لها نقطة انطلاق باتجاه نظم مهني أو وظيفي أو سياسي يعمل في خضم الحركة الاجتماعية السياسية؟
لقد انطلقت حركة المذاهب الفكرية والسياسية في جسد التاريخ الإسلامي من المسجد، فلماذا لا تنطلق حركة مؤسسات المجتمع المدني من المسجد؟
من المسجد يمكن أن نؤسس حزبا، ومنه يمكن أن ننطلق لتأسيس فريق رياضي، ومنه يمكن أن ننطلق في تأسيس نادي فكري، ومنه يمكن أن نطرح قواعد نقابة عمالية...
ما هو المانع؟
وكل ذلك في نطاق تحرك روحي، يحترم قيم السماء، ويتواصل مع فكرة خدمة المواطن، وبهذه الروح يحول المسجد إلى ورشة عمل، تنتج المجتمع من جديد.
كم هو جميل أن يكون المسجد نقطة انطلاق للدخول في مشروع المجتمع المدني العراقي؟
كم هو جميل أن تتحول المساجد العراقية إلى ترسانة مشاريع إنسانية بعيدة عن التعصب الديني والدعوة السياسية الضيقة والترف الفكري والتمحور حول رجل دين يستثمر خطبة الجمعة لصالح البشر ولا يستغل هذه المكان الروحي الجميل لبث أفكاره الشخصية وأراءه السياسية ومواقفه من هذا الحزب وذاك؟
نريد مسجدا بعيدا عن ثقافة الدم، بعيدا عن لغة التحيز، بعيدا عن مهنة التهويل، بعيدا عن مهارة إذكاء العواطف البدائية، بعيدا عن فنون تهيج غريزة الانتقام، بعيدا عن مظاهر التمحور حول سياسي أو رجل دين أو فكر ضيق.
غالب حسن الشابندر