محاولة لقلب المعنى الدارج؟
ليس هناك كلمة تهز الوجدان مثل الشهيد. ولا يوجد كلمة أسيء استخدامها مثل كلمة الشهيد. ولا يوجد كلمة غامضة مثل الشهيد. ولا يوجد كلمة مضللة مثل كلمة الشهيد. وفي القرآن جاءت مفردات هذه الكلمة 82 مرة ولم تكن مرة واحدة فيما يريده ويكررها الناس. وفي الحقبة الناصرية (جمال عبد الناصر والوحدة العربية بين مصر وسوريا) ما زلت أتذكر نفسي، وكنت يومها طالباً في المرحلة المتوسطة، وكانت لا تمر ثلاثة أيام؛ إلا وخرجنا نهتف بحياة شهيد من الشهداء، منهم الشيوعيين، وانتهاء بصانعي الانقلابات!
وفي يوم كانت المظاهرة للهتاف بحياة (الشهيد) (باتريس لومومبا) وكان الناس يتهامسون من يكون هذا الرجل؟ وهذا ليس انتقاصا لقدره فقد رأيت عنه برنامجا في قناة الديسكفري فتحت عيني على حقيقة الرجل لأول مرة خارج الدجل الناصري وصيحات (الصحاف) القديم أحمد سعيد في صوت العرب.
وفي يومٍ مررت على قبر مجرم (عبد الكريم الجندي) لمع نجمه كجلاد ورئيس مخابرات في سوريا أيام البعث الأولى، وكان الرجل يحب استعمال نعله في التعذيب (الشاروخ)، فقرأت فوق قبره quot;ولا تحسبن الذي قتلوا في سبيل الله أمواتا بل أحياء عند ربهم يرزقون؟quot; وكان المجرم المذكور يحب ضرب كرام الناس بنعله على وجوههم كما ذكرت. ولم ينجو أحد من يده بمن فيهن النساء. وفي يوم وقع تحت يده رجل دين مسيحي؛ فقال له أعلم أن الفاتيكان سيتدخل لإنقاذك، ولكنك ستمضي عندي يومان، هما في عمر الزمن سنتان، ثم أمر بحبسه في دورة مياه طافحة؟ ثم مات الرجل قتلا أو انتحارا بيد جلاد أدهى منه وأمر، ثم مات الرجلان إلى الأبد، كما كانت الجماهير المغفلة تزعق بحياتهما إلى الأبد، فهما الآن في دار الحق يختصمان. وفي 22 يوليو من عام 2003م انتهت حياة قصي وعدي (السبطين!) قتلاً، كما قتلا الكثير من الناس؛ فذاقا من نفس الكأس، واتبعوا في هذه لعنة، ويوم القيامة هم من المقبوحين. وفي الأردن اجتمع الناس لتلقي العزاء على سيدي شباب أهل الجنة السبطين عدي وقصي؟ ولا يستبعد أن تمتلئ كتب التاريخ بقصة (شهادة) البطلين وهما يقارعان (العلوج) الأمريكيين كما اعتدنا على الكذب في كتب التاريخ التي تدرس للطلبة المنكوبين.
وفي يوم انتشرت الموضة في العالم العربي فمنهم من سما ابنه (ستالين) وآخر ابنته (جيفارا) وثالث (سيد قطب)، والأولاد يحملون أوزارا فوق ظهورهم من أسماء لا ينتسبون لها إن لم يكن عكسها وغير مسئولين عنها.
وعندما قتل (آرنستو تشي غيفارا) الطبيب الأرجنتيني في غابات بوليفيا اعتبره الثوريون العرب سيد الشهداء مثل حمزة بن عبد المطلب.
وعندما يفجر الفلسطيني نفسه في حافلة فيقتل ويقتل يعتبر عند مفتي الديار في بلد ثوري، أنها (شهادة في سبيل الله) لا يقترب منها شهداء القادسية واليرموك.
أما اليهود فيسمون الفاعل إرهابياً وقاتل نفسه وانتحاري.
وما يحكم على عمل ما ليس الفتاوى والنصوص بل العواقب. وقل كل متربص فتربصوا فستعلمون من أصحاب الصراط السوي ومن اهتدى؟
وعندما يتصارع فريقان فيقدمان (قرابين) بشرية يعتبر القتيل في عين أهله شهيدا. وفي أعين خصومه مجرما.
والفرق بين (الجريمة) و(الجهاد) شعرة. وبين (الزنا) و(الاغتصاب) و(الزواج) أقل من شعرة؛ فكلها ممارسة لعمل جنسي، ولكن الأول يقوم على (السرية) والثاني على (الإكراه)، والثالث على (الرضا والقبول والإشهار).
وعندما جاهد (الخوارج) لم يكن عملهم جهادا، أما هم فسموا أنفسهم الشراة، أي من باعوا نفسهم في سبيل الله لقضية لم تكن ناجحة.
وإذا أراد الجراح استئصال زائدة دودية في سوق الخضار فإنه يعد قصاباً ولو كان سيد الجراحين.
فهذه الفروق لا يستوعبها الشباب المتحمس، وهم نصف معذورين، ولكن أئمة الفكر المنحرف هم الذي يسقون عقول الشباب بهذه السموم.
وليس هناك من أمر أكثر إثارة من (الجهاد) و(الاستشهاد) كما لا يوجد موضوع أكثر خطرا وضبابية منهما.
وفي يوم كان أحدهم يكلمني فقال ألا تقرأ قوله تعالى: quot;فقاتل في سبيل الله لا تكلف إلا نفسك وحرض المؤمنينquot;؟ فقلت له ألا تقرأ قوله تعالى: quot;ألم تر إلى الذين قيل لهم كفوا أيديكم وأقيموا الصلاةquot;؟، وقوله تعالى: quot;والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلناquot;؟
والقرآن حينما يقرأه أحدنا لا يجد في نهايته فهرساً للموضوعات مثل القتال والشهادة متى؟ وكيف؟ وأين؟ ومن؟ بل يجد آيات متناثرة مثل النجوم في قبة القرآن.
وإذا كنا في نجوم القطب نصل بينها بخط ؛ فنعرف الشمال من الجنوب، ونهتدي بها في ظلمات البر والبحر، كذلك الحال في آيات القرآن.
ورؤية فراغية بنيوية من هذا النوع مفيدة في فهم آيات القرآن.
والمشكلة مضاعفة في معالجة نظام الفكر.
فالعقلية النقلية هنا تواجه العقلية النقدية. وهي مشكلة أعترف أنها ليست سهلة الحل ولكن لا بد من خوض غمارها واقتحام لججها.
وابن لادن اعتبر أن تفجير أبراج نيويورك عين الجهاد وقمة الشهادة وضرب الكفار في دار الحرب حيث يستباح كل شيء؟ في الوقت الذي اعتبرت أمريكا أنه جريمة نكراء وانتحاريون مجرمون.
وكما يقول (نعوم تشومسكي) الناقد الأمريكي أن قرصاناً ألقي القبض عليه في زمن الاسكندر فبدأ في توبيخه كيف يزعج البحر؟ قال القرصان: أنا أنهب بسفينة صغيرة فأسمى قرصاناً أما أنت فتنهب شعوبا بأساطيل فتسمى إمبراطورا؟!
وعندما انتشرت مفاهيم (الجاهلية) من فكر (سيد قطب) في الستينات من القرن العشرين ومن ذيولها فكرة (العزلة الشعورية) مما دفع البعض إلى اعتبار أن احترام (إشارات المرور) هو احترام الجاهلية، وأن خرق أنظمة المرور هو عين التقوى؛ لأنه تمزيق شبكة المجتمع الجاهلي، لمسلم يعيش في مجتمع جاهلي (عضوياً) ويحاربه فكريا وعمليا.
ومع أن القرآن يذكر كلمة (الشهادة) ومرادفاتها 82 مرة (شهيد 36 مرة) و(الشهداء 20 مرة) و(الشهادة 26 مرة) ولكنه لم يذكرها مرة واحدة بصدد القتل والموت، بل بمعنى مختلف هو الحضور الواعي (أو ألقى السمع وهو شهيد) (فمن شهد منكم الشهر فليصمه) (ما أشهدتهم خلق السماوات والأرض) (والسماء ذات البروج واليوم الموعود وشاهد ومشهود) (والله على كل شيء شهيد)(أم كنتم شهداء إذ حضر يعقوب الموت)(عالم الغيب والشهادة) (ما شهدنا إلا بما علمنا وما كنا للغيب حافظين) أو بمعنى الإقرار والاعتراف (قالوا شهدنا على أنفسنا وغرتهم الحياة الدنيا) أو الجمع بين الأمرين (وإذ أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم ذريتهم وأشهدهم على أنفسهم ألست بربكم قالوا بلى شهدنا أن تقولوا يوم القيامة إنا كنا عن هذا غافلين).
وبهذا تكون (الشهادة) ليس ما يعنيها الناس من الموت في سبيل الله حصرا، بل على نحو أدق التمثيل المميز (لتكونوا شهداء على الناس ويكون الرسول عليكم شهيدا).
ومنه جاء كلمة (الشاهد) في المحكمة لأنه إنسان عاين الواقعة بدقة، بأذن واعية وألقى السمع وهو شهيد، فهو يدلي (بشهادته) أي يفيد بما حدث صدقا وعدلا. و(الشهادة) بذلك أي الدخول في الإسلام والنطق بالشهادتين هي الاعتراف والإقرار بصدق ووعي (أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله)، ولكن السياسيين يطلون أصنامهم بدهانات إسلامية فيخطئون مرتين: أولاً بنسبة ما ليس للألفاظ منها، وثانياً بالخطأ فيما يريد القرآن من هذا اللفظ فيوظفونه في القتل والإجرام؟
وهذا الكلام يفيدنا في أن نرجع فنحرِّر المعاني كما يقول (ابن خلدون) ثم نكسي المعاني ثوب الألفاظ.
ونحن في العالم العربي مغرمون بالألفاظ فيخسر الواقع حقيقة، ويكسب القاموس لفظة، كما يقول (النيهوم)، فنسمي الشهيد من يقتل في سبيل قضية وبدون قضية؟ والشهادة بمعنى الحضور الواعي للعالم والإدلاء بالرأي شيء لا علاقة له بالإرهاب والقتل والجريمة.
ستكتب شهادتهم ويسألون؟
وتحت هذا المفهوم قد يدخل من يموت صادقا في سبيل قضية إنسانية كبرى. وهنا يؤدي دور الإقرار والاعتراف لصدقه وتعلقه بفكرته والإخلاص لها بغض النظر عن صحة الفكرة.
وليس هناك من صدق أكبر من أن يقدم الإنسان حياته في سبيل قضية كبيرة.
وقد يقتل الناس من أجل عفونات كثيرة من الصراع القومي والعرقي والطبقي والفئوي، ويحصد الناس حصدا في الحروب الأهلية مثل الذباب، كما حدث في لبنان وراوندا والجزائر.
كما قد يموت أناس من أجل حفنة دولارات أو مصالح تافهة أو صراع على أرض. ولا تساوي كل الأرض سفك دم إنسان واحد.
ولا يوجد أرض مقدسة في نظر الإسلام؛ فالقدسية لا تخلع على التراب، ولكن تستمد قدسيتها من (القدوس) السلام المؤمن المهيمن العزيز الجبار المتكبر عالم الغيب و(الشهادة).
وهنا يجب التفريق بين (الموت) من أجل فكرة و(صدق) تلك الفكرة. فليس كل من يموت من اجل فكرة يعني تلقائياً (صحة الفكرة). ومات الكثير من الشيوعيين والفاشيين والملحدين من أجل أفكارهم فلا يعني هذا أن الشيوعية كبد الحقيقة أو أن الفاشية منتهى التاريخ.
وهناك أناس تافهون ماتوا من أجل قضايا تافهة.
وتذكر صحفية مصرية راقبت المشنوقين على يد (العشماوي) أن أثبت الناس جنانا كان تاجر مخدرات دخَّن سيجاره قبل الموت وضحك لمن حوله، وقال: هل هي سوى موتة، وهي موتتي، وكل الناس تموت، ولا يفر أحد من الموت، وسنموت على كل حال بشكل وآخر. فعاش مجرما ومات فيلسوفا.
وأمام هذه الحقيقة كان الفيلسوف البريطاني (برتراند راسل) عندما يسأل: هل عندك استعداد أن تموت من اجل أفكارك؟ كان جوابه: لا .. لأنني قد أكون مخطئاً فأموت عبثا؟!.
وفي الفلسفة المسيحية ينقل الإنجيل في أعمال الرسل أن البذرة حتى تتحول إلى شجرة يجب أن تدفن. وعلى ما يبدو أن الأفكار تخلد وتنتشر بهذه الطريقة. وهي تفسر طرفاً من الآية أن من يقتل في سبيل الله حي عند الله بطريقة وأخرى. ومن يموت من أجل أفكاره يدفع الحياة في أفكاره.
وكسبت أفكار سيد قطب طابع القدسية بعد شنقه فخدمه عبد الناصر أكثر مما آذاه. فنشر أفكاره من حيث أراد القضاء عليها.
والرجلان بين يدي رب العزة الآن يختصمان.
ومن ظلمات الديكتاتورية والظلم ولدت ظاهرة (الظواهري) فانتقل إلى أفغانستان فكان عبد الناصر مثل الجراح الخايب، الذي فتح بالسكين على السرطان؛ فلم يستأصله بل نشر السرطان بأشد مما كان.
ونفس سيد قطب يقول إن quot;كلماتنا تبقى عرائس من الشمع حتى إذا متنا في سبيلها دبت فيها الحياةquot;؟!
ولكن الكلمات منها الصحيح ومنها القاتل؛ فإذا عاد فرانكنشتاين إلى الحياة تعدى الأمر فلم يعد مزحة بسيطة بل رعب مخيف.
ومع إعدام مروان حديد في سوريا غرق البلد في حرب شبه أهلية؟
فهذا قانون...
وكل كتاب ممنوع ينتشر أكثر... .
وكل محظور مرغوب...
وكل أشجار الجنة لم تكن كافية لآدم فذهب إلى الشجرة الوحيدة المحرمة فأكلا منها فبدت لهما سوآتهما.
وليس ألذ من اتصال جنسي في الحرام.
وترك الملك إدوارد الثامن كل الملك والمال من أجل عيني امرأة؟
وسقط سور الصين من اجل محظية جنرال.
وهنا تحضرني قصة؛ ففي مناسبة ما يسمى (يوم الشهداء) تبارى الخطباء في تمجيد الشهداء، بحضور مجموعة من الأمهات المفجوعات، كما كان يفعل الترابي مع حملات الجنوب، التي كان قرابينها خمسين ألفا أو يزيدون، قبل رفع الراية البيضاء للسلام، في يد سياسيين كذابين، حتى جاء دور رجل فتوجه إلى الأمهات قائلاً: لا يغرنكم قول هؤلاء فلم يكن أولادكن سوى قرابين بشرية لأصنام هؤلاء؟؟؟
فاحمرت الأحداق واشتدت القبضات، ولكنه نجا من أيديهم، وخرج من بينهم بدون أن يضربوه بالنعال على الوجوه والأدبار.
أما الرجل فكان داعية السلام جودت سعيد ....
التعليقات