الحلقة الأولى
شهد العراق في النصف الثاني من القرن التاسع عشر أحداثاً ووقائع، كان لها الأثر الواضح في رسم معالم الصورة العامة له إبان تلك الحقبة. وإذا ما كانت سمة البطء هي المرافقة لشكل التحولات التي شهدها العراق. فإن الوصف العام لحقيقة ما كان يجري، لم يكن بالقتامة والسكونية التي عمد إليها بعض المهتمين بدراسة تاريخ العراق خلال القرن التاسع عشر. وعلى أية حال لا يمكن الركون إلى المقولة التي تبنت أن العراق كان مجرد موطنا للصراعات القبلية والثورات العشائرية ومؤامرات الهيئة الإدارية العثمانية واستبداد موظفيها وفسادهم وانقطاعهم لتطمين مصالحهم الذاتية (1)، على حساب الإهمال القصدي والمبيت لحركة الإصلاح التي انشغلت بها الدولة العثمانية، لتجديد دماء دولتها، بعد أن أعيتها الظروف المحيطة بها، وحالة الوهن والضعف والخوار التي وقعت فيها. وإذا ما تعرض أبناء العراق للحرمان من المشاركة في فعالية الجهاز الإداري المسؤول عن إدارة شؤون البلاد واقتصاره على العناصر التركية (2)، فإن هذا القول لا يعني أن البلاد كانت خالية الوفاض من المتعلمين والمبدعين والمثقفين. ودليلنا في ذلك اللمسات المهمة التي وضعتها بصمات الأسر العلمية العريقة التي ذاع صيتها وكان لها الثقل والحجم البارز في تقديم نتاج إبداعي وثقافي، مكنّها من نيل الخطوة والمكانة الرفيعة لدى أولي الأمر لاسيما الولاة العثمانيون، الذين لم يجدوا بُداً من تقريبهم إليهم والاستماع إلى آرائهم ومشورتهم في الكثير من الأمور التي تهم شؤون البلاد. وعليه كانت أسر مثل؛ آل الآلوسي والشاوي والنقيب وآل جميل وآل كبة وآل العمري وآل كاشف الغطاء وآل قزوين تؤدي دورها العلمي والثقافي في المراكز الثقافية التي انتشرت في بغداد والموصل والبصرة والنجف والحلة وكربلاء والكاظمية وسامراء، جاعلة من المساجد وحلقات المدارس الدينية ميدان نشاطها. وعلى هذا كان التركيز على علوم الفقه في الحديث والتفسير، بالإضافة إلى ميدان الشعر الذي برع فيه جمع غفير من الشعراء ذوي الملكة الإبداعية الواضحة (3). وعلوم اللغة والصرف والنحو والبلاغة والنثر (4).
أتيح للعديد من أعلام الفكر والأدب من المساهمة في الحياة العامة، عن طريق حصولهم على مناصب علمية وإدارية، أهلّتها لهم ملكاتهم وقدراتهم الإبداعية في بلوغها، فعلى سبيل المثال أنيطت بجميل صدقي الزهاوي توفى 1936، مناصب عديدة تراوحت ما بين التدريس في المدارس الرسمية عام 1884 أو عضوية مجلس المعارف في ولاية بغداد عام 1887، أو مدير المطبعة الولاية عام 1890 وعضوية محكمة الاستئناف 1892، وأتيح لمحمد فهمي المدرس توفى 1944، أن يحظى بوظيفة مترجم في ولاية بغداد ومعاون لمدير مطبعة الولاية ومن ثم مديراً للمطبعة ورئيس تحرير لجريدة الزوراء عام 1901، بالإضافة إلى التدريس في المدرسة الإعدادية الملكية وحصوله على عضوية مجلس معارف ولاية بغداد ونظارة مدرسة الصنائع. وتمكن عبد المجيد الشاوي توفى 1927، من العمل كاتباً في دائرة تحرير ولاية بغداد ومحرراً في جريدة الزوراء، ومميزاً في دائرة ولاية البصرة، ووكيلاً لمتصرف لواء العمارة 1905- 1907 (5). ولم ينكفئ المفكرون والأعلام العراقيون في العزلة، بل كانوا على اتصال دائم بمراكز الحركة الفكرية المجاورة، حتى أنهم أجهدوا أنفسهم في توطيد سبل الاتصال، وكانت الرحلات العلمية سمة مميزة لهم، تمكنوا من خلالها توطيد مكانتهم في تلك البقاع، وتوجيه الأنظار إليهم، فكان جابر الكاظمي 1894 شاعراً تمكن من بزّ شعراء الفارسية في بلاد فارس (6)، وجميل صدقي الزهاوي الذي شد أنظار أدباء ومفكري مصر إليه، وتمكن من الحصول على أرفع الأوسمة العثمانية من لدن السلطان عبد الحميد الثاني(7). وكانت أسفار الشاعر عبد الجليل الطباطبائي 1853 بين البصرة والكويت والإحساء والبحرين والحجاز، فرصة سانحة لتلاقي الأفكار بين أدباء المنطقة(8). واتصالات عبد المحسن الكاظمي 1935 بجمال الدين الأفغاني عند إقامته ببغداد عام 1889 وسفراته إلى بلاد فارس والهند ومصر وعلاقته الوطيدة بأدباء ومفكري مصر ومشاهيرها (9). والإقامة الطويلة التي عمد إليها محمد مهدي الرواس 1870 في المدينة المنورة لثلاث سنين لطلب العلم، وفي مصر لثلاث عشر عاماً للدراسة في الجامع الأزهر(10) ، من عوامل الالتقاء والاتصال المباشر الذي يوضح مدى العلاقة القائمة والإطلاع المباشر على حيثيات النشاط الفكري والعلمي. وقيض لأدباء العراق من الاتصال المباشر بالمراكز السياسية العليا، حتى أن الشاعر جعفر الحلي 1897، كان على اتصال مباشر بالسلطان عبد الحميد الثاني وأمراء مكة وآل الرشيد وأمراء حائل المحمرة، ويحظى دائماً بالثناء والتقدير والهبات من لدنهم(11).
التغير الاجتماعي
لقد آذنت جملة من الأحداث في إسباغ صورة جديدة على المظاهر الاجتماعية في العراق. فحين تم لعلي رضا باشا اللاز 1831-1842، من إحكام سيطرته على بغداد وإنهاء حكم المماليك في العراق (12). لم تقف العلاقات العامة عند صورها القديمة، بل رافقت التحولات، تغيرات عكست التأثر المباشر المكتسب عن طريق الاتصال بمركز الدولة العثمانية. حيث ظهرت في بغداد (الطرابيش) كغطاء للرأس، مقابل انحسار العمامة البيضاء والجبة التي كانت تمثل الزي الرسمي لطبقة الموظفين ووجهاء البلد(13). بعد أن عمد السلطان العثماني إلى تغيير زيّة الرسمي. ولا نروم الخوض في متابعة تفصيلات التغييرات التي برزت على صعيد المظاهر، بالقدر الذي برزت إبان تلك الحقبة جملة من الأحداث، كان لها الأثر البالغ في تنبيه الأذهان، وتوجيه لأفكار نحو التفكر وإشغال إعمال العقل فيها. فكان للمراكب البخارية التي سيرتها شركة (لبخ) عام 1841 في نهري دجلة والفرات صدى عميقاً لدى أبناء العراق في المدى الذي بلغته تقانة الغرب. فيما كان للتلغراف الذي ربط بغداد بالموصل واستانبول عام 1861(14)، صداه العميق في إيصال الأخبار وربط البلاد بعاصمة الدولة بشكل مدهش من خلال السرعة التي تتم فيها عملية نقل الأخبار. إلاّ أن هذا الوصف لا يعني أن الأمور كانت تسير بشكل نموذجي في العراق. فالفوضى الإدارية والتخلف الاقتصادي كانتا سمتان ملاصقتان لطبيعة الإدارة العثمانية في تلك البلاد. والتي لم تعرف طمعاً للاستقرار والثبات، حتى تقلب في منصب ولاية بغداد خلال الفترة 1831-1908 حوالي ستة وعشرين والياً، لم يبرز من بينهم سوى الوالي المصلح (مدحت باشا) 1869-1872، والذي بقيت إصلاحاته، مثالاً وشاهداً على فساد من كان قبله ومن جاء بعده من الولاة (15)، الذين كانوا ينظرون إلى قرار إسناد ولايتهم في تلك البقعة عبارة عن عقوبة أو نفي. بحكم فقر العائدات واضطراب الأوضاع والتمردات العشائرية التي تكاد لا تنقطع. ومما كان يساهم في تفاقم الأوضاع السيئة، طريقة تحصيل الضرائب من السكان، والتي كانت تقوم على التعسف والإكراه ومحاولة الحصول على أكبر كمية ممكنة من الأموال، بحكم التعهد الذي قطعه الوالي للسلطة المركزية في تقديم مقدار ثابت من المال إلى خزينة الدولة. إلا أن هذا المبلغ، كان في حقيقة الأمر يتضاعف من أجل إشباع رغبات الوالي الشخصية وحاشية الموظفين، الذين كانوا يتولون مهمة جمع الضرائب، لتنعكس آثار كل ذلك، على الأوضاع الاقتصادية للسكان (16). ولم تكن العلاقات الإدارية القائمة بين الموظفين تقوم على أسس ثابتة أو الاحترام المتبادل، بقدر ما كانت علاقات فوقية، قوامها الرئيس والمرؤوس، وتحقيق رغبات الموظف الأرفع مقاماً وتطمين مصالحه وأهواءه (17). وضمن هذا الواقع المضطرب سادت القناعة لدى الآستانة، بالإبقاء على العراق كمنطقة نفوذ، تمارس فيه سيادتها على أهله والاكتفاء بموارد الضرائب السنوية التي كانت تصل إلى خزينتها منه (18).
الطريق إلى الإصلاح
على الرغم من التحولات المهمة، التي كانت يشهدها العالم في مجال تحديث بناه الارتكازية، ودخول الدولة العثمانية هذا المعترك، لبلوغ الرقي والمدنية، من خلال خطواتها في مجال الإصلاحات الداخلية والتي تمثلت بإصدار خط شريف كولخانة في 4 تشرين الثاني 1839 من لدن السلطان عبد المجيد خان 1822-1861 وخط شريف همايون في 18 شباط 1856 (19). وصدور قانون الأراضي العثماني في 21 نيسان 1858، إلاّ أن التطبيق الفعلي لهذه الإجراءات، لم تبلغ العراق إلاّ بعد مرور سنوات، فعلى سبيل المثال، لم يتح تطبيق قانون الأراضي في العراق، إلاّ في العام 1869. والذي ساهم في تكريس الأوضاع المزرية من خلال تطمينه لمصالح فئات المتنفذين في الحصول على الأراضي الواسعة عن طريق سندات الطابو، لتبرز للعيان علاقات جديدة تمثلت في ظهور طبقة ملاك جديدة، هم أثرياء المدن وتحول صميمي في علاقة الشيخ القبلي بفلاحيه، بعد أن تحولت الأرض من الملكية المشاعية للقبيلة إلى ملكية خاصة للشيخ (20). هذا على صعيد الأوضاع العامة، أما في مجال الوعي السياسي، فقد أثمرت العلاقة مع الغرب والنشاط الذي أبداه المنورون في الدولة العثمانية ومنهم العرب. في صدور الدستور العثماني في 23 كانون الأول 1876 زمن السلطان عبد الحميد الثاني 1876-1909. بإيحاء من مدحت باشا الصدر الأعظم والنخبة المنورة التي قيض لها الاحتكاك بالغرب بشكل مباشر. وقد أكد الدستور على ضمان الحياة الحرة المكفولة عن طريق الدستور، وتساوي الجميع من الرعايا لضوابطه وأسسه، مؤكداً على حرية التعليم وجعله إجبارياً للرعايا العثمانيين وضمان حرية المطبوعات، ومن بين المئة وتسع عشرة مادة التي تضمنها القانون الأساسي، كان التركيز على إبعاد انتخاب من لا يعرف اللغة التركية (21). والواقع أن مسألة اللغة التركية والتوجه نحو التركيز عليها من قبل السلطة العثمانية، جاء في أعقاب عصر التنظيمات. فلم يكن الرعايا العثمانيين بحاجة إلى تعلم التركية، بحكم ضعف العلاقات الثقافية القائمة بين مركز السلطة وولاياتها، حتى أن التعليم كان يجري في الولايات العربية بصورة مستقلة عن أية سلطة، حيث ينهض السكان المحليون بأعبائه ويتحملون نفقاته، بالإضافة إلى أن العثمانيين بالأصل لم يكونوا على درجة من الرقي الثقافي ليؤخذ عنهم. ولكن بتوسع نطاق دواوين الحكومة والاعتماد على التحريرات والمراسلات التي فرضتها العلاقات الإدارية الجديدة، قيض للغة التركية من احتلال مكانة هامة في الحياة العامة (22).
ويمكن رصد جملة من المؤشرات حول طبيعة العلاقة التي ربطت السلطة العثمانية بالولايات العربية وتمثلت من خلالها أسس الروابط والمواقف اللاحقة. فلم تكن ثمة فواصل بارزة أو محددات واضحة حكمت علاقة رعايا الدولة العثمانية بالسلطة المركزية: بل تكاد تكون علاقة العثمانيين بالعرب، الأكثر وثوقاً من بين الولايات الأخرى الخاضعة لهيمنتهم، بحكم الاعتماد على اللغة العربية في تدبير شؤون الدين والثقافة والعلوم، بالإضافة إلى أن الدولة العثمانية، لم تتوضح ظلالها السياسية على الولايات العربية وفرض سلطانها بالشكل التعسفي، إلا في أواخر القرن الثامن عشر، لاعتمادها على أسلوب اللامركزية في إدارة شؤون الولايات الخاضعة لها (23). وجاءت ملامح الوهن والانحلال التي نخرت بجسد الدولة وتفشي الفساد في البنية السياسية والإدارية، لتكون حافزاً لرعايا الدولة للبحث عن مخرج من هذا المأزق الذي فرض عليهم والمتمثل بهيمنة دولة ضعيفة هي نهب للأطماع من قبل الدول الأوربية. ومما زاد في تفاقم الأوضاع أن توجه العثمانيين نحو تبني خط الإصلاح، جاء في وقت، كان الفساد فيه قد استشرى، بالإضافة إلى ما رافق عملية التنظيمات من اتجاه عنصري، كان الهدف منه سيادة العنصر التركي على بقية الأمم التي تؤلف الدولة العثمانية. ومن هنا كانت ملامح المواجهة قد أخذت تتشكل، والتي عبر عنها الاتجاه القومي العربي كنتيجة طبيعية للتطورات السياسية الفكرية التي برزت في الولايات العربية. والذي عبرت عنه الحركة الوهابية في الجزيرة العربية وتجربة محمد علي، والجمعيات العربية السرية في بلاد الشام، والدور الفكري الذي لعبه رجال الإصلاح الإسلامي كجمال الدين الأفغاني 1897 ومحمد عبده 1905 ورشيد رضا 1935 وعبد الرحمن الكواكبي 1902 (24).لقد تمثل التباين واضحاً في المدى الذي بلغته الولايات العربية في المجالات الاقتصادية والاجتماعية والسياسية بحكم اختلاف وتنوع فرص الاتصال بمصادرة تجديد والتنوير. فعلى سبيل المثال حظيت بلاد الشام بفرصة أوسع من العراق في هذا النطاق. بالإضافة إلى السمة المدينية التي تطبع النشاط الاقتصادي في بلاد الشام والتركيز على الفعاليات التجارية والتي اعتمدت بشكل كبير في تدبير شؤونها على الوكالات التجارية التي أنشأتها الشركات الأوروبية لضمان تدفق السلع الشرقية إلى أوربا والسيطرة على الطرق التجاري. ولا يمكن إغفال الدور الناشط الذي لعبته الإرساليات التبشيرية في رعاية مصالح رعاياها في المنطقة. في حين أن العراق وعلى الرغم من وجود المدن العريقة فيه ونشاطها العلمي والفكري الذي لم ينقطع، إلا أن سمة الحياة القبلية كانت هي الغالبة (25). ومن الطبيعي أن تكون فعالية الانفتاح والاتصال على الآخر، لصالح المدينة ومقارنة بالقبيلة بحكم ركود العلاقات الاجتماعية فيها وسيادة العرف والتقاليد. إلاّ أن المدينة العربية إبان تلك المرحلة لم تتمكن من الإفلات من حيثيات، الدين والقومية والطائفة والقبيلة، والتي كانت تتحكم في توزيع الأحياء. والخاضعة لاعتبارات الأمن وشكل النشاط الاقتصادي والأعراف الاجتماعية السائدة، والمحكومة بطبيعة توجهات الإدارة العثمانية (26). ولم تكن الصدمات حكراً على القبائل، بل كانت ظاهرة الصدام بين الأحياء في المدن بادية للعيان بشكل واسع بحكم الاتجاه نحو العزلة وتطمين المصالح الذاتية للفئة التي ينتهي إليها أفراد الطائفة أو القبيلة. ومما فاقم في تزايد حدة الصراع، الاتجاه الذي برز على الصعيد الفكري، حيث هيأت الأجواء الجديدة مناخاً واسعاً للتصادم في مجال الانفتاح على الأفكار الإصلاحية الجديدة التي تبنتها مجموعة النخبة المنورة، والتي طالبت بضرورة التغيير وتجاوز عثرات الماضي، من خلال النهل من التجارب المتطورة للأمم المحيطة. في حين أن النخبة القديمة من الإقطاعيين والملاك وبعض رجال الدين، مثلوا التيار المحافظ، وشددوا على ضرورة الإبقاء على القديم، تطميناً لمصالحهم وإبعاداً للخطر عن مواطن نفوذهم (27). وكان من نتائج هذا الصراع، إن تعرضت عملية التحديث والإصلاح للتعثر، وتأخرت فعالياتها في الولايات العربية. وعلى هذا كان الصراع المباشر الذي تمثل بالتصادم بين أحياء المدن وطوائفها لاعتبارات المصلحة الذاتية. فيما لم يخرج هدف الصراع الفكري بين المجددين والمحافظين عن إطار المصالح الذاتية، والذي توضح بصورة شديدة لدى المحافظين الذين أصروا على التمسك بمواقعهم القديمة التي توفر لهم الحظوة والمكانة الرفيعة.
المضامين الفكرية
إن رصداً لبواكير الوعي في الولايات العربية، جاء عبر منطلقين رئيسيين عبّرا عن المضامين الثقافية والفكرية للوعي العربي.. فكان الإسلام والثقافة العربية ركيزتان أساسيتان في بلورة المضامين والاتجاهات نحو النهضة. حتى أن تيار العروبة والإسلام مثل اتجاهاً موّحداً إزاء التحديات التي برزت، وكان له الإسهام الأكبر في تشكيل وتوضيح أبعاد الوعي. وعليه كانت الدعوة إلى الأصول وتنقية الإسلام مما علق به من شوائب، كمنطق لإعادة الأولويات وترتيبها، للانطلاق في مسيرة الإصلاح المنشود، وهذا ما عبرت عنه الحركة السلفية في العراق وبعض الولايات العربية الأخرى (28). ولم تكن هناك ثمة فواصل بين الإسلام والعروبة أو تمييز، حتى أن الرابطة الإسلامية كانت من عوامل الدعم والقوة. إلاّ أن الوهن والتداعي والفشل المستمر الذي رافق خطوات الإدارة العثمانية، جعل أمر التغاضي عن الأخطاء، والاتجاه بالتفكير نحو معالم أخرى، متعذرا وعسيرا . وعليه لم يقف التعبير عن رفض سلطة الموظفين العثمانيين الغاشمة، على الثورات والتمردات وقيادة المواجهات المسلمة بل برزت اتجاهات وأنشطة فكرية، تمثلت بشكل واضح في مجال الدراسات الأدبية وقصائد الشعر التي أكدت على أهمية العرب ودورهم البارز في نشر الإسلام، وضرورة الالتفات إلى إبراز دورهم. وقد رافقت دعوة التأكيد على أهمية العرب في الدولة العثمانية، حملة فكرية واسعة كان التشديد فيها على ضرورة إنهاء حالة الارتباك وتغيير الأوضاع المحيطة بالعراق. ولم تخل تلك الدعوة من مقارنة أيام بغداد إبان مجدها وما آلت إليه تحت ظل التسلط التركي (29).
لقد أسهمت جملة من العوامل في تحديد موقف النخبة العراقية والمثقفة من تحولات الفكر والثقافة المنبثقة عن الاتجاهات التي ولدّها (التحديث modernization) كمحاولة مباشرة وعملية لتجسيد حركة الإصلاح في الواقع من خلال الارتقاء بالبنية الإدارية والسياسية في الولايات العثمانية وإدخال مبتكرات الحضارة الحديثة وطرحها للتداول في الحياة العامة. والتغريب westernization الذي تمثل في النهل من المعين الفكري العربي واعتباره المثل والأنموذج لتقليده والسير على خطاه. فقد بقي مفهوما التحديث والتغريب مبهمين غير محدودين بالنسبة لمثقفي العراق، وذلك لعدة اعتبارات، يقع في طليقها، رسوخ التقاليد الاجتماعية السائدة وهيمنتها بشكل قوي على الأنشطة الحياتية. وارتباط فعالية التجديد والإصلاح بالمركزية العثمانية، حتى أن المبتكرات الحديثة التي كانت تصل العراق من تلغراف والنقل النهري البخاري، كان الوعي الشعبي بها يتخلص في كونها موجهة لخدمة السلطات العثمانية. أما الموقف من الغرب فكان يخضع لمؤثرات عديدة، أهمها قوة الوازع الديني والذي يحرك إصبع الاتهام نحو الغرب بالشك والريبة وعدم سلامة النوايا يضاف إلى ذلك أن الاتصال بالفكر الغربي جاء عبر وساطة مفكري ومثقفي بلاد الشام، وعلى هذا بقيت ظاهرة التغريب بالنسبة لمثقفي العراق، أمراً منقطع الجذور غير محدد المعالم، بحكم فقدان الاتصال المباشر وسيادة عامل الوصف(30).
هوامش:
1- لوتسكي، تاريخ الأقطار العربية الحديث، ترجم د. عفيفة البستاني، دار التقدم ،موسكو 1971، ص 172.
2- د. عبد العزيز سليمان نوار، تاريخ العراق الحديث من نهاية حكم داود باشا إلى نهاية حكم مدحت باشا، دار الكاتب العربي للطباعة والنشر، القاهرة 1968، ص55.
3- محمد مهدي البصير، نهضة العراق الأدبية في القرن التاسع عشر، مطبعة المعارف، بغداد 1962، ص ص 209.
4- عباس العزاوي، تاريخ الأدب العربي في العراق، مطبعة المعارف، بغداد 1946، ج 2 ص ص 51 ndash; 341، من أبرز علماء اللغة في العراق خلال القرن التاسع عشر، السيد عمر رمضان الهييتي 1836، الشيخ معروف النودهي البرزنجي 1875، أبو الثناء شهاب الدين محمود الألوسي 1854، السيد محمد سعيد 1856، الشيخ حسن القفطان 1858، عيسى صفاء الدين البندربنجي 1866، الشيخ إبراهيم فصيح الحيدري 1883، السيد نعمان خير الدين الألوسي 1899، ومن علماء الصرف والنحو؛ الشيخ محمد بن آدم بن عبد الله الكردي 1836، الشيخ معروف النودهي، أبو الثناء الألوسي، السيد محمد سعيد 1857، الشيخ درويش علي 1860، محمد سعيد البغدادي 1866، عبد الله بهاء الدين الألوسي 1874، إبراهيم فصيح الحيدري، عبد الوهاب حجازي 1895، السيد نعمان خير الدين الألوسي 1922، عبد السلام الشواف 1900، ومن علماء البلاغة، محمد بن آدم بن عبد الله الكردي 1836، الشيخ معروف النودهي، أبو الثناء الألوسي، عبد الباقي سعد الدين الألوسي 1875، الشيخ إبراهيم فصيح الحيدري، ضياء الدين حيدر الكردي 1891، وفي النثر الأدبي؛ الحاج محمد أسعد بن النائب 1833، السيد عمر رمضان الهيتي 1886، صالح التميمي 1844، عبد الفتاح الشواف 1846، محمد أمين باشا الجليلي، عبد الجليل البصري 1853، محمد أمين بن يوسف العمري 1872، نعمان طير الدين الألوسي 1899، ومن الشعراء المبرزين؛ محمد بن أسعد بن النائب، عمر رمضان الهيتي، قاسم الحمدي 1839، صالح التميمي، عبد الفتاح الشواف، محمد أمين باشا الجليلي، السيد عبد الجليل البصري، أبو الثناء الألوسي، ابن الصباغ الموصلي 1854، عبد الحسين محي الدين 1854، عباس الملا علي البغدادي 1860، الشيخ قاسم الهر 1859، عبد الباقي العمري 1861، السيد حبيب البغدادي، عبد الغني جميل 1863، محمد علي كونة 1865، محمد أمين بن يوسف العمري 1872، عبد الغفار الأخرس 1873، عبد الحميد بك الشاوي 1898، أحمد بك الشاوي 1899، أحمد الباوي 1900، محمد سعيد النجفي 1901، إبراهيم الطباطبائي 1901، شهاب الموصلي 1904، عبد القادر العبادي 1910، محمد سعيد الحبوبي 1915 وغيرهم.
5- باقر أمين الورد، أعلام العراق الحديث قاموس تراجم 1869-1969، مطبعة أونيت الميناء، بغداد 1987، ص191.
6- د. داود سلوم، أثر الفكر في الشاعر الجميل صدقي الزهاوي دراسة ونصوص، معهد البحوث والدراسات العربية، بغداد 1984، ص 26.
7- خالد سعود الزيد، أدباء الكويت في قرنين، ج1 ص2. المكتبة العصرية، الكويت 1967.
8- رفائيل بطي، الأدب العصري في العراق العربي، المطبعة السلفية، مصر 1923، ج 1 ص ص 97-98.
9- كوركيس عواد، معجم المؤلفين العراقيين في القرنين التاسع عشر والعشرين، مطبعة الإرشاد، بغداد 1969، ج3 ص 252.
10- محمد علي اليعقوبي، البابليات، المطبعة العلمية، النجف 1954، ج3 ص ص 5-6.
11- عباس العزاوي، تاريخ العراق بين احتلالين، ج7 ص63.
12- د. يوسف عز الدين، بواكير الحياة الفكرية في العراق وبدايات الوعي، مجلس المجمع العلمي العراقي، الجزء الأول والثاني المجلد الثاني والثلاثون، كانون الثاني 1981، ص 169.
13- باقر أمين الورد، حودث بغداد في 12 قرن، مكتبة النهضة، بغداد 1989، ص ص 241، 246.
14- باقر أمين الورد، بغداد خلفاؤها ولاتها ملوكها رؤساؤها حتى عام 1984، دار التربية، بغداد لا تاريخ، ص ص 237-263.
15- بيير دي فوصيل، الحياة في العراق منذ قرن، ترجمة د. أكرم فاضل، دار الجمهورية، بغداد 1968، ص ص 78-79.
16- فيليب ويلارد ايرلند، العراق- دراسة في تطوره السياسي، ترجمة جعفر الخياط، دار الكشاف، بيروت 1949، ص47.
17- د. علي الوردي، دراسات في طبيعة المجتمع العراقي، مطبعة العاني، بغداد 1965، ص 311.
18- محمد فريد بك المحامي، تاريخ الدولة العلمية العثمانية، تحقيق د. إحسان حقي، ط6، دار النفائس، بيروت 1988، ص ص 480-484.
19- د. عبدالعزيز الدوري، التكوين التاريخ للأمة العربية ndash; دراسة الهوية والوعي، ط3، مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت 1986، ص128.
20- د. عبدالعزيز الدوري، مقدمة في التاريخ الاقتصادي العربي، ط 5، دار الطليعة، بيروت 1987، ص 124.
21- د. محمد مخزوم، أزمة الفكر ومشكلات السلطة السياسية في المشرق العربي في عصر النهضة، معهد الإنماء العربي، بيروت 1986، ص38.
22- أحمد طربين، التاريخ والمؤرخون العرب في العصر الحديث، الناشر، دمشق 1970، ص9، أنظر أيضاً، محمد حرب عبد الحميد، العثمانيون المفترى عليهم، مجلة العربي، الكويت، العدد 244، آذار 1979، ص 47.
23- د. محمد أنيس، الدولة العثمانية والشرق العربي 1514-1914، القاهرة لا تاريخ، ص118.
24- د. وميض جمال عمر نظمي وآخرون، التطور السياسي المعاصر في العراق، وزارة التعليم العالي والبحث العلمي، بغداد لا تاريخ، ص ص 32-33.
25- أمين الريحاني، قلب العراق- كتاب سياحة وسياسة وأدب وتاريخ، بيروت 1939، ص40.
26- جلال أحمد أمين، المشرق العربي والغرب- بحث في دور المؤتمرات الخارجية في تطور النظام الاقتصادي العربي والعلاقات الاقتصادية العربية، مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت 1979، ص27.
27- د. سيار كوكب الجميل، تكوين العرب الحديث 1516-1916، دار الكتب للطباعة والنشر، الموصل 1991، ص354.
28- د. عبد العزيز الدوري، التكوين التاريخي، المصدر السابق، ص 141.
29- د. يوسف عز الدين، مجلة المجمع العلمي العراقي، المجلد الخامس عشر 1967، ص ص 59-60.
30- سيار الجميل، العثمانيون وتكوين العرب الحديث- من أجل بحث رؤيوي معاصر، مؤسسة الأبحاث العربية، بيروت 1989، ص 211.
يتبع
التعليقات