قادت جمعية الاتحاد والترقي حركة انقلابية ضد السلطان العثماني عبد الحميد الثاني في 24 تموز-يوليو 1908، تحت شعار إعادة الحياة الدستورية والعمل على بث أفكار الحرية والإخاء والمساواة التي نادت بها الجمعية منذ انطلاق تأسيسها عام 1894، متأثرة بثالوث الثورة الفرنسية. وقد برز الاتجاه من قبل قيادات الجمعية الدعوة نحو التغيير لواقع الدولة العثمانية السياسي والاجتماعي، والذي راح يعاني من الضغوط الخارجية وحالة الترهل الداخلي، حتى أن الاتهام المباشر كان قد تم توجيهه نحو السلطان بوصفه طاغية مستبد، لم ينجم عن سياساته التسلطية سوى بث الرعب والخوف في نفوس الرعية، من خلال جهاز التجسس الذي توسع في الدولة وراح يمثل عبئا على المجمل من الفعاليات والأنشطة المأمولة(1). وكانت التوجهات الجديدة قد تركزت حول تعديل البعض من مواد القانون الأساسي، والعمل على إجراء انتخابات جديدة لمجلس المبعوثان، مع السعي نحو تحديد الصلاحيات المطلقة التي كان يتمتع بها السلطان العثماني، مع توفير الحصانة الكافية لمجلس المبعوثان بإزاء تدخلات السلطان في شؤونه. (2) ومن هذا الواقع برزت على صعيد الواقع السياسي المزيد من القوانين الجديدة، والتي راحت تؤكد على أهمية تقديم مسألة الحريات العامة وجعل الدستور بمثابة الأصل التي تقوم عليه مجمل الفعاليات، لا سيما على صعيد التساوي في الحقوق والواجبات لعموم رعايا الدولة من دون تمييز أو فواصل،، بل أن التوجهات راحت تتمثل وبشكل مباشر نحو تطهير الجهاز الإداري من بقايا العهد القديم. (3)وبالقدر الذي تمكنت العناصر الجديدة من بث أفكارها على صعيد الواقع، فإن القيادات القديمة لم تستسغ هذه المتغيرات، حتى برزت حالة من التبرم لدى القوى المحافظة، والتي سارعت نحو حشد جهودها لمواجهة هذا الخطر الدافق، والذي تم وصفه بالخطر الذي جاء زاحفا نحو تهديد الشريعة والتفريط بحقوق الملة والدين، حتى كانت العملية العسكرية المضادة التي قادتها حامية الأستانة من أجل حماية السلطان والعودة بالنظام القديم، المستند إلى الصلاحيات المطلقة التي يتمتع بها السلطان. والواقع أن الحركة هذه قيض لها تحقيق البعض من النجاح. (4) لولا تدخل الفريق محمود شوكت باشا، الذي زحف بقواته نحو العاصمة في 24 نيسان ndash;أبريل 1909، ليتمكن من تثبيت الحياة الدستورية وبالتالي المناداة به حاميا للدستور والحريات العامة. (5)

مثلت أحداث الانقلاب العثماني هزة عنيفة في الحياة العامة العثمانية، إذ لم يتوقف الأمر على مستوى الأحداث السياسية، وحالة العزل التي تعرض لها السلطان العثماني، بل أن المتغيرات التي راح يعيشها المواطن العثماني على صعيد مد الحرية الجديد، والذي راحت تروج له الصحافة بتشجيع ورعاية من قبل جمعية الاتحاد والترقي، والتي راحت تحث الناس على أهمية التفاعل مع الواقع الجديد من خلال فسح باب الانتساب للجمعية والتشجيع على العمل السياسي، هذا الميدان الذي كان يمثل حقل رعب وخوف، لدى مجمل الرعايا العثمانيين. (6) ولم يقف الأمر عند حد المتغيرات التي رافقت طريقة النظر إلى العمل السياسي والتشجيع الصادر من لدن السلطة الرسمية ذاتها، بقدر ما كانت المفاجأة قد ارتبطت بروح النقد التي غزت مجمل النشاطات الصحفية التي برزت وبكثافة ملفتة في بغداد وعموم مدن العراق الكبرى الأخرى، حتى ارتبط الانفجار الصحفي بتكثيف وجرأة النقد الذي راح يطال لا الأوضاع الإدارية وبعض الأخطاء والتجاوزات، بل تخطاها وبشكل ملفت ليصل إلى نقد مباشر تم توجيهه إلى شخص الوالي نفسه. والواقع أن النقد الذي تفشى في الصحف وصار مدار الحديث الشفاهي في المقاهي، جعل من الأمر في غاية التعقيد، لا سيما وأن الوعي المحدود المرتبط بقلة المتعلمين، وحداثة التجربة المرتبطة بطريقة تداول مفهوم الحرية أحدث المزيد من التناقضات، حتى برزت التفسيرات الغريبة والتي ارتبطت بفهم مبتور ومجتزأ، قام على أساس أن الدستورية تعني الحرية المنفلتة والقيام بأي عمل من دون الخضوع لحسيب أو رقيب، فيما فسرها آخرون بأنها دعوة للخلاص من رقابة العادات والتقاليد و الأعراف السائدة، بل أن البعض من العالمة راح يتطاول على المقدسات، عبر المجاهرة بالإفطار خلال شهر رمضان، أو محاولة شرب الخمر في عرض الطريق، أو التوجه الكثيف والمبالغ فيه لارتياد محال الرقص وصالات الملاهي الليلية. ومن هذا التصادم الغريب بالأعراف الاجتماعية، كان من الطبيعي أن تبرز ردة الفعل الشديدة والصارمة من قبل رجال الدين، الذين لم يألوا جهدا من محاربتها واعتبارها بدعة وضلالة والسعي نحو تحريمها، كونها راحت تطال أسس المقدسات وأركان الشريعة. (7) وهكذا راحت مظاهر التصادم تتفشى في المجتمع الحضري العراقي، بين أنصار المشروطية باعتبار الحرية والتجديد، وأنصار الاستبدادية بوصفهم العناصر الرجعية والمحافظة، فيما الواقع السياسي والاجتماعي كان يعاني من حدة الانفصال العميق والحاد، حيث النقص الحاد في الموارد والخدمات والافتقار الحاد للبنى الأساسية والعوز والفقر والأمية والفيضانات المستمرة لنهري دجلة والفرات،والصراعات القبلية المحتدمة والأمراض المستوطنة، والفساد الإداري والمحسوبية.

كان للمشروطية دورها في تحريك الأوضاع السياسية في العراق، حتى كان الانقسام في المواقف وقد تجلى لدى النخبة المثقفة، حتى أن أنصار التنوير والحرية وجدوا في الواقع الجديد فرصة للتغيير، والنهوض بالواقع الراكد الذي كانت تعاني منه البلاد(8)، لكن هذا لأمل لم يكتب له العيش طويلا، إذ سرعان ما اصطدمت الآمال والطموحات الواسعة، بالاتجاهات العنصرية التي طبعت سياسة جماعة الاتحاد والترقي والميول الاستبدادية التي ظهروا عليها، بل أن العامة راحت تقارن بين النموذجين الحميدي و الاتحادي، لتبرز حالة من الحنين إلى العهد الأول على الرغم من الاستبداد الذي طبع عليه. (9)وكان للفوضى الإدارية وحالة التخبط التي قامت عليها السياسة الاتحادية والتي تمثلت في التبدلات السريعة للولاة العثمانيين، حتى أن فترة التسع سنوات التي والتي تواصلت حتى سقوط بغداد على يد الاحتلال البريطاني عام 1917، كانت قد شهدت تبدلات سريعة وملفتة في منصب والي بغداد، حتى بلغ عدد الولاة خلال هذه الفترة أربعة عشر واليا(10)، مما يعكس حالة القلق وعدم الاستقرار السياسي الذي كان يعاني منه الاتحاديون. بالمقابل كان للمحافظين ردة فعلهم العنيفة بإزاء الزحف العارم الذي جاء بطريقة عاصفة، حتى مثل هزة غير طبيعية لنظام القيم الاجتماعي السائد، إن كان على مستوى المكانة الاجتماعية، حيث الحديث عن المساواة بين مختلف الفئات الاجتماعية مما يعني تهديدا للمكانة التقليدية التي تبوأتها الأسر والعوائل الغنية بوصفها من السراة والوجهاء، أو على صعيد الحديث عن التساوي بين المسلمين وغيرهم من أصحاب الديانات الأخرى، بحساب الخضوع لمواد الدستور. (11) وبالقدر الذي يكون الوصف للواقع قد استند إلى طبيعة المقارنة بين نموذجين يقوم الأول على الحرية والتجديد والمساواة، والذي يوحي بأن الطرف الآخر في المعادلة يقوم على الرجعية والانغلاق ومحاربة التغيير، فإن الأحداث المباشرة لهذه الحقبة كانت قد أشارت إلى زخم شديد الغرابة، إذ كان ينطوي على كسر القواعد الاجتماعية السائدة بحدة ملفتة،إلى الحد الذي شهدت فيه مدينة بغداد جملة من الأحداث تمثلت في دخول سيدات بغداديات إلى أحد المراقص(12) بل أن توجهات الشباب في مدينة بغداد كانت قد تركزت حول موضوعة تفسير الحرية وطريقة تلقيها(13)، بل أن الموجهات والتفاعلات كانت قد تصاعدت حتى راحت تمس مسألة البحث عن الحرية الأوسع للمرأة، لتأخذ الأحداث مسارا مختلفا، حيث خرجت تظاهرة غاضبة في بغداد تنادي بالعودة إلى الإسلام(14) بعد أن برزت حالة التمادي في الفهم المجزوء القاصر لمسألة الحرية، والتي تم التعبير عنها على صعيد المظهر من دون التوقف العميق عند جوهر ومضمون الحرية العميق والأصيل.

لقد تكثفت الأحداث في ولاية بغداد بشكل بارز، حيث الدعاية الكبيرة التي نالتها الأفكار التي تنادت بها جمعية الاتحاد والترقي، والتي تجلت مظاهرها عند حالة الحماس الملفت لدى المزيد من فئة الشباب، الذين وجدوا فسحة من الحرية والانفلات من الضوابط الصارمة والقيود الاجتماعية الشديدة التي كانت سائدة في البيئة البغدادية المحافظة، حتى برزت حالة من الود والألفة بين الطوائف بحسب تقرير السفير البريطاني لدى الدولة العثمانية، ومن المهم هنا التوقف عند رصد حالات التهور والتجاوز التي طبعت البعض من المواقف التي أقدم عليها البعض من الشباب، لا سيما على صعيد خرق حرمة شهر رمضان والتباهي المفرط في الإقدام على إتيان البعض من التصرفات والسلوكيات الاجتماعية المتقاطعة مع المفاهيم السائدة. في الوقت الذي كانت الأحداث في ولاية الموصل قد اتخذت شكلا متوازنا، حيث أفادت الولاية من حالة العزل التي تعرض لها الوالي المتهم بالإفساد، أما على صعيد العلاقة القائمة بين المسلمين والأقليات الدينية الأخرى فقد اتسمت بطابع الحذر، لاسيما وأن نفوذ رجال الدين بقي في الولاية شاخصا وقائما، أما في البصرة فكانت ردة الفعل غير واضحة بل يكاد يكون معدوما، حتى لم تبرز أحداثا واضحة على مستوى الحياة العامة. (15)

لم يتوقف تأثير الدستور على إحداث التغيير الكبير على مستوى العلاقات الاجتماعية، بل كان الإفراز قد برزت أثاره على مستوى العلاقات والإنتاج الثقافي، حيث أسهمت عوامل التجديد في بروز دور النخبة المتعلمة والمثقفة، على الرغم من صغر حجمها، إلا أن عوامل تأثيرها كانت قد شهدت نوعا من التوسع، باعتبار الثورة الصحفية التي برزت في عموم ولايات العراق، والتي استوعبت المقالات الفكرية النقدية التي عالجت مسألة الدستور بنوع من التفصيل والتدقيق العلمي، بجرأة ساهمت في الافصاح عنها الحرية التي تقوم عليها الفكرة الدستورية. ومن هذا برزت العديد من الأسماء الفكرية العراقية، والتي أسهمت في فضح مسار السياسة الاتحادية وحالة التقلب في ممارساتها، من خلال الكشف عن الشعارات المرفوعة، وحقيقة التوجه العميق فيها، فكان دور الكاتب والصحفي إبراهيم صالح شكر المتوفى عام 1944، الذي كتب مقالاته الفكرية والسياسية في صحف بين النهرين والنوادر، حتى إصداره لصحيفته الخاصة والتي أطلق عليها الرياحين عام 1913،وكان الكاتب قد ركز مجال نشاطه الفكري على صعيد الدعوة إلى المركزية واعتبارها الطريق السليم نحو الخلاص من العلاقات القديمة وحالة الترهل التي عانى منها الجهاز الإداري العثماني، ولم يقف الأمر عند هذا الحد بل أوغل الكاتب في توجيه أسهم نقده المباشر نحو السياسة العنصرية التي انغمست فيها جمعة الاتحاد والترقي، حتى قامت السلطة الاتحادية بنفيه خارج ولاية بغداد عام 1915. (16)فكان من ضحايا التناقضات التي أفرزتها المرحلة الدستورية، والتي شكلت تناقضا فجا بين الشعار والواقع السياسي.
تمثلت في البيئة العراقية جملة من العوامل التي ساهمت في تكوين المثقف العراقي، بل و عموم النخبة، حيث المؤثر الأول والمتمثل بالإسلام، لا سيما حالة التأثر الواضح بأفكار جمال الدين الأفغاني حول الجامعة الإسلامية والتجديد والإصلاح، ولم يخف تأثير المراكز الثقافية العربية في مصر والشام والتي كان يصل صدى آثارها عبر الاتصال المباشر أو من خلال الصحف والمجلات والكتب التي كانت تصل العراق. (17) وكانت السمة الطاغية التي ميزت النخبة المتعلمة العراقية قد ارتبطت بالجانب العسكري، وهذا يعود للتوجهات التي طبعت مسار الدولة العثمانية نحو التنظيم والإصلاح في مؤسستها العسكرية باعتبار التحديات التي كانت تواجهها، وحالة إقبال السباب العراقي على سلك الجندية بما يمثله من فروسية ورجولة، حتى شكل الطلبة العراقيون النسبة الأعلى من مجموع الطلبة العرب الدارسين في المعاهد التي تستوعبها العاصمة العثمانية. (18)
ساهمت الحياة الدستورية في إبراز جو من النقاشات المفتوحة حول المزيد من القضايا، حتى شهدت المساجد وحلقات الدرس الديني نقاشات تعرضت لمواضيع جديدة لم تكن مطروقة في السابق،بل أن الملفت في الأمر بات يقوم على لقاء متنوع ضم مختلف أبناء الطوائف لمناقشة العديد من القضايا الجديدة في جرأة غير مسبوقة. (19) فيما أبرزت الوقائع عن القوة التي تمتع بها التيار المحافظ الذي راح ينظر بعين الريبة والشك والحذر نحو المتغيرات التي جاء بها الدستور، لا سيما على صعيد التنادي المفرط بموضوع الحرية. حتى كانت السياسة العنصرية التي نهجها الاتحاديون بمثابة الدليل الذي راح يقدمه المحافظون حول الفخ الذي وقع فيه المتفائلون. بالمقابل ركز الدستوريون على أهمية الإفادة القصوى من الوضع الجديد، والسعي نحو استثمار حالة التحدي، من أجل بلورة موقف بتناسب وطبيعة المرحلة، حتى كان التطلع نحو المزج بين العروبة والإسلام(20) والذي جاء متوافقا مع طبيعة النشأة والمؤثرات الاجتماعية السائدة، بل أن المساهمة من قبل المثقفين لم تتوقف عند حدود ترصد مسار السياسة الاتحادية على صعيد العنصرية والنبذ و الفساد الإداري، بقدر ما كان التوجه قد اتخذ منحى جديد تمثل في أهمية الكشف عن حالة العلاقة المريبة التي راحت تتكشف شيئا فشيئا بين الحكومة الاتحادية والتغلغل الرأسمالي للشركات الغربية، حتى راحت المقارنات تتم بين العهد الحميدي، والذي بقي محافظا على مصالح الأمة على الرغم من الطابع الاستبدادي الذي تميز به، وحالة الوهن والضعف الذي طبع موقف الاتحاديين من التدخل الأجنبي. (21)

كان الحماس قد تجلى واضحا لدى النخبة العراقية المثقفة، حتى أن البعض منهم لم يتردد من المطالبة بخلع السلطان عبد الحميد الثاني، خلال بداية العهد الدستوري. (22) إلا أن هذا الموقف خضع للمزيد من المراجعة، لا سيما في أعقاب الأخطاء المريرة التي وقعت فيها جمعية الاتحاد والترقي، والتي لم تتردد من المناداة بسياسة التتريك والعمل على ربط مقدرات البلاد بالمصالح الغربية،والواقع أن المثقف العراقي لم يتوقف عند المرحلة الدستورية بوصفها مجالا لتداول الموضوع السياسي فقط، بل برزت العديد من الآراء المنادية بأهمية الإفادة من العهد الجديد، عبر التنادي بأهمية النهوض بالواقع التعليمي، والتشديد على ضرورة الاهتمام بتأسيس المعاهد العلمية، باعتبارها الطريق الأكيد نحو النهوض والارتقاء بالبلاد، وإخراجها من حال التخلف والانحطاط. (23) فيما برزت المزيد من الدعوات المنادية بأهمية ترسيخ مبدأ الإصلاح، لا سيما الجانب التعليمي، مع السعي الحثيث نحو الربط الصارم بين التعليم وأهمية الإفادة من الفسحة التي أتاحتها الحياة الدستورية، (24) أما على صعيد التطورات السياسية فقد برزت النزعة العنصرية الطورانية، والتي كان لها الأثر المباشر في تطلع المثقف العراقي للتنادي بأهمية التأكيد على الهوية العربية الإسلامية،حتى كان توجه أبرز المثقفين للكتابة في جريدة صدى الإسلام والتي تم تأسيسها عام 1915، تلك الفترة التي شهدت تعاظم القسوة والبطش الذي ميز توجهات الاتحاديين، حتى كانت كتابات؛ جميل صدقي الزهاوي، محمد مهدي البصير،عبد الرحمن البناء،عطا الخطيب،خيري الهنداوي، وإبراهيم حلمي العمر. (25) وقد ارتكزت إلى أهمية الوحدة الإسلامية باعتبارها الحصن الذي يتم من خلاله حماية البلاد بإزاء الأطماع الخارجية الغربية، والتي باتت تمس أمن البلاد، لا سيما وأن قوات الغزو البريطاني راحت توسع رقعة نفوذها خلال أحداث الحرب العالمية الأولى.
مثلت المرحلة الدستورية، حالة من التغير الواضح في أسلوب وطرائق تفكير المثقف العراقي، الذي نال فسحة واسعة للتأمل واستقراء الأوضاع المحيطة، بل أن جو الحرية الذي توفر خلال السنين الأولى من عمر الحياة الدستورية، كان لها ألثر المباشر في توجه المثقف نحو طرق موضوعات جديدة، تمثلت في بروز النقد الاجتماعي والسياسي، لا سيما في أعقاب غياب الرقيب العثماني، حتى يمكن القول أن ملمحا من التطور قد برز جليا على مستوى الأفكار والطروحات والمعالجات والأساليب. ولعل من المفيد هنا الإشارة إلى بروز حالة من التفكير الجديد الذي راح يتطلع نحو مخاطبة العامة، على الرغم من تفشي الأمية، ومن هذا راح المثقف يحاول كل جهده نحو تبسيط أفكاره، عبر التركيز على الغاية والهدف والتي تمثلت في أهمية الخروج من حالة السكون والجمود التي تحيط بالبلاد، أما على صعيد البحث العلمي فقد برز التوجه نحو التقصي والحث على تطوير الإمكانات والملكات الخاصة، ومن هذا برز العديد من الباحثين الذين راحوا يجتهدون في قراءة أصول اللغة والعمل على تأسيس اللغة القرائية المبسطة، والتي يمكن من خلالها مخاطبة العامة من دون تعقيد، فكانت محاولات الباحث رزوق عيسى وسعيه في البحث عن الجذور العربية الفصيحة لبعض المفردات العامية المتداولة(26)، وفيما بنشط دور مجلة لغة العرب لمؤسسها الأب أنستاس مار الكرملي، والذي حشد الجهود من أجل النهوض بواقع اللغة العربية، والعمل على إحياء روح البحث والتقصي من خلال استقطابه للمزيد من الباحثين، الذي كانت لهم مساهماتهم الضافية في علوم العربية. (27)ولم يغب دور الترجمة والذي تكثف بشكل لافت، حتى كانت الترجمات للقصة والمسرح الرواية والعديد من المجالات العلمية، ونشطت حركة بيع الكتب وتم افتتاح العديد من المكتبات، فيما راحت الصحف تعلن عن مسرحيات تقوم بأدائها البعض من المدارس. (28) مما يشير إلى تبلور حراك ثقافي شهدته بغداد خلال تلك الفترة. والذي ارتبط بتوجهات السياسة الرسمية للاتحاديين الذين توجهوا نحو تتريك التعليم، حتى شهد هذا القطاع عناية من قبل المسؤولين الذين ركزوا على أهمية افتتاح المزيد من المدارس في العديد من مدن العراق مع الاهتمام بمراقبة المناهج وسير العملية التربوية،(29) لكن الإشكال الأهم بقي يدور في فلك قلة الكوادر المؤهلة القادرة على أداء عملية التعليم، حتى برزت الدعوات المتكررة نحو حث المتعلمين والمثقفين لأداء دورهم للمساهمة الجادة في رفد هذا القطاع واعتباره من الواجبات الوطنية المهمة. (30)ومن هذا الواقع الذي تفاعلت فيه الأفكار الجديدة بدأ وعي جديد بالمستقبل، تم ربطه بأهمية التوجه نحو معاهد العلم من أجل الحصول على ثمرات التقدم، حتى لقي مشروع تأسيس مدرسة الحقوق عام 1908 ترحيبا حارا من قبل الأهالي(31) بل أن افتتاح المدارس لقي اهتماما شعبيا واسعا من قبل مختلف الفئات الاجتماعية، حتى أن افتتاح مدرسة كان يعد من المناسبات التي يحرص على حضورها كبار الشخصيات من الوجهاء والسراة، (32) فيما برز التوجه من قبل أبناء العديد من المناطق نحو إعداد حملات للتبرع بالمال من أجل تأسيس مدارس تضم أبناءهم. (33) وعلى الرغم من حالة التفاؤل التي طغت على البلاد إلا أن هذا لم يكن يمنع من بروز حالة من التقاطع مع هذه التوجهات، لا سيما من قبل العناصر المحافظة، والتي وجدت في التعليم الأهلي بمثابة التهديد الذي جاء يتحدى الدراسة الدينية في المعاهد العلمية، حتى أن البعض من المشاريع قد تعرض للفشل بعد أن تم رصد المبالغ المالية له، مما سبب خيبة أمل واضحة على العديد من المنورين والمثقفين في بغداد،(34) ولم يقف الأمر عند حدود المواجهة على الصعيد الاجتماعي، بل تخطاه نحو الجانب السياسي والذي تمثل في محاولة الوالي العثماني جمال بك إغلاق مدرسة الحقوق، إلا أن الموقف الصارم الذي تبدى من قبل التيار القومي العربي كان له أبرز الأثر في تراجع الوالي عن قراره، بل أن الإصرار على تقديم المطالب ورفع الاحتجاجات قد أسهمت في إدخال اللغة العربية إلى جانب التركية في التدريس. (35)

حاول المتنورون العراقيون الإفادة من حالة التغيير التي نالت المجمل من تفاصيل الحياة، في سبيل إحداث حالة من التقارب الاجتماعي، من خلال السعي نحو نبذ الصراع الطائفي الذي كانت تحاول البعض من الجهات تغذيته، فكان أن توجت جهود؛ جعفر أبو التمن وعلي البزركان ورؤوف القطان ومهدي الخياط، في إنشاء مشروع علمي الغاية منه ترقية الشباب البغدادي من خلال الحث على التعلم، فكان مشروع مدرسة الترقي الجعفري العثماني عام 1908، والذي كان المسعى الأصل فيه يقوم على سياسة الفصل الطائفي الذي أرادت السلطة الاتحادية ترسيخه. (36) وعلى الرغم من هذا الجهد المبذول إلا أن النتائج بقيت محدودة، لاعتبارات تتعلق بقلة المتعلمين، وحالة التشكك والحذر من قبل البعض من الفئات لاجتماعية حول الغاية والهدف من التعليم الحديث. (37) باعتبار ما يمثله من تهديد للثوابت الدينية.
كان امتحان الحرية بمثابة المواجهة الكبيرة التي وجد المثقف العراقي نفسه في لجتها، حتى أن البعض من المثقفين راح يعتمد هذه الحرية كوسيلة لتصفية الحسابات مع أطراف نزاع مباشر وشخصي، فيما راح آخرون يسعون بكل ما أوتوا نحو التعبير الصارخ والفج، من دون التفكير بالعواقب أو النتائج التي يمكن أن تنجم عن حرية التعبير التي وجدت الأوعية المختلفة لها، حتى كان الابتزاز الذي راح يمارس بحق البعض، إلى حد التشهير العلني. لكن هذا لم يكن ليطغى على سمة التعبير الأصيل التي راح المثقف ينحوها في سبيل الإفادة من جو الحرية بغية توجيه النقد الصارم والدقيق من أجل كشف التناقضات والعمل على تجاوزها. (38)، والواقع أن الأوضاع العامة كانت قد أفرزت بروز تيارين واضحين متقابلين تملا في ؛تيار الرابطة الإسلامية الساعي نحو الربط الصارم بتوجهات الدولة العثمانية بوصفها الزعيم الروحي للعالم الإسلامي، بإزاء التيار الآخر الذي راح ينادي باللامركزية، حتى كانت المواجهات الصاخبة بين الطرفين وتوجيه الاتهامات حتى كانت الصحف وقد غدت الوسيلة التي يتم من خلالها تجهيز الحملات المتقابلة بين الطرفين. (39)

كان السعي قد برز من قبل الاتحاديين، لا سيما خلال العام 1908 نحو استقطاب دعاة الإصلاح، ومن هذا عمدوا إلى إنشاء جريدة بغداد وحرصوا على تقديم الدعم لها من خلال شخصية مراد سليمان الذي سارع نحو استكتاب أبرز الشخصيات الفكرية العراقية من أمثال ؛ جميل صدقي الزهاوي، معروف الرصافي، فهمي المدرس، كاظم الدجيلي، يوسف رزق الله غنيمة، لكن روح الانفتاح الكبير التي درجت عليه لم يكن يتوافق والتغير المفاجئ الذي طرأ على توجهات الاتحاديين حتى كان قرار الغلق في العام اللاحق. (40) لابد من الإشارة هنا إلى أن جهود المثقف العراقي لم تتوقف عن حدود الصراع الثنائي، أو السقوط في دوامة انقسامات المباشرة، بقدر ما برز الاتجاه الواضح نحو القراءة الواعية لسير الأحداث، حتى كان الكشف عن نوايا الاتحاديين قد تم وبفترة مبكرة. وهذا ما تم على يد الكاتب عبد اللطيف ثنيان الذي رفع قضية الوطن، وراح يعمد للمجاهرة بالكشف عن التناقضات المريعة التي وقع بها الاتحاديون، مذكرا إياهم بالاستبداد الحميدي، حتى كان مصيره المطاردة ليتوجه إلى بلاد الشام هربا من سطوة الاتحاديين، (41) ولم تغب جهود داود صليوا من التركيز على قضية اللغة العربية وأهمية جعلها اللغة الرسمية في البلاد، أو الاتجاه القومي العروبي الذي عبر عنه إبراهيم حلمي العمر، حيث راح يعمل مع العديد من المثقفين العراقيين من أمثال ؛ محمد رضا الشبيبي، تحسين العسكري، بهجت زينل، في الدعوة الراسخة نحو إعادة مجد العرب. (42)

الهوامش:
1. لوتسكي، تاريخ الأقطار العربية، ترجمة عفيفة البستاني، دار التقدم، موسكو 1971، ص 397.
2. محمد مخزوم، التنظيمات العثمانية محاولة فاشلة للإفلات من براثن التغلغل الأوربي، مجلة تاريخ العرب والعالم، سنة 4، العددان 77-78،آذار ndash; نيسان 1985، ص 21.
3. هند فتال و رفيق سكري، تاريخ المجتمع العربي الحديث والمعاصر، جروس برس، طرابلس 1988، ص 128.
4. توفيق السويدي، مذكراتي- نصف قرن من تاريخ العراق والقضية العربية، دار الكاتب العربي، بيروت 1969، ص 25.
5. مير بصري، أعلام اليقظة الفكرية في العراق الحديث، دار الحرية للطباعة، بغداد لا تاريخ، ج1 ص 13.
6. يوسف عز الدين،السياسة والقومية في شعر الهنداوي، مجلة الأقلام، سنة أولى، ج1 1964، ص 31.
7. علي الوردي، دراسة في طبيعة المجتمع العراقي، مطبعة العاني، بغداد 1965، ص 138.
8. يوسف عز الدين، بواكير الحركة الفكرية في العراق،القاهرة 1984، ص 176.
9. عامر حسن فياض، جذور الفكر الاشتراكي في العراق، دار ابن رشد، بيروت 1980، ص 95.
10. عبد الكريم غرايبة، تاريخ العرب الحديث، الأهلية للنشر، بيرو 1987، ص 235.
11. عباس العزاوي، تاريخ العراق بين احتلال، ج8 ص 225.
12. تقرير السير جيرالد لوثر سفير بريطانيا لدى الدولة العثمانية، من كتاب، العراق في مذكرات الدبلوماسيين الأجانب، تحرير نجدة فتحي صفوة، مطبعة منير، بغداد 1984، ص ص 77-78.
13. Lweis,the emergence of modern turkey,London 1961 ,p 25.
14. ذكريات علي جودت 1900- 1958، مطابع الوفاء، بيروت 1967، ص ص 25-26.
15. باقرأمين الورد، بغداد خلفاؤها ولاتها ملوكها، دار التربية، بغداد لا تاريخ، ص 267.
16. محمد فريد بك المحامي، تاريخ الدولة العلية العثمانية،تحقيق إحسان عباس، دار النفائس، بيروت 1988،ص 707.
17. جريدة الرقيب، عدد 91، 28 صفر 1328هجري.
18. جريدة الرقيب،عدد 140،رجب 1328 هجري.
19. جريدة الرقيب، عدد 56، رمضان 1327 هجري.
20. جريدة الرقيب، عدد 111، 20 ربيع الآخر 1328 هجري.
21. منير بكر التكريتي، الكاتب الصحفي إبراهيم صالح شكر، مجلة كلية الآداب، عدد 14، مجلد 2 1970- 1971،ص 860.
22. خيري العمري، فهمي المدرس، مجلة الأقلام، ج4 سنة أولى، كانون الأول 1964، ص 77.
23. يوسف عز الدين الحركة الفكرية في العراق، القاهرة 1984، ص 86.
24. وميض نظمي، شيعة العراق وقضية القومية العربية، من كتاب دراسات في القومية العربية والوحدة، مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت 1984، ص 163.
25. أمين سعيد، الثورة العربية الكبرى، القاهرة 1934، ص 24.
26سيار الجميل، انتلجنسيا العراق التكوين والاستنارة القومية، مجلة آفاق عربية، أيلول 1991، ص 37.
27. عبد الرزاق النصيري، موقف المثقفين العراقيين من التغلغل الاستعماري 1908- 1914، مجلة آفاق عربية، تشرين الأول 1991، ص 40.
28. محمود العبطة، معروف الرصافي حياته وآثاره ومواقفه، دار الشؤون الثقافية، بغداد 1992، ص 15.
29. عبد الجبار داود البصري، رواد المقالة الأدبية في العراق الحديث، دار الحرية، بغداد 1975، ص 79.
30. جريدة صدى بابل، عدد 65، 31 تشرين أول 1910.
31. جريدة صدى بابل، عدد 5، 10 أيلول 1909.
32. جريدة صدى بابل، عدد 6، 17 أيلول 1909.
33. منير بكر التكريتي، الصحافة العراقية، بغداد 1969، ص 42.
34. مجلة لغة العرب، عدد 8، شباط 1912، ص 328.
35. مجلة لغة الرعب، عدد 2، آب 1912، ص 69.
36. داود سلوم، أثر الفكر الغربي في الشاعر جميل صدقي الزهاوي، معهد البحوث والدراسات العربية، بغداد 1984. ص 12.
37. جريدة صدى بابل، عدد 73، 25 كانون أول 1910.
38. إبراهيم خليل أحمد، تطور التعليم الوطني في العراق،مركز دراسات الخليج العربي، البصرة 1982، ص 48.
39. جريدة الرقيب، عدد 91، 10 صفر الخير 1328 هجري.
40. مجلة لغة العرب، ج1، تموز 1911، ص 33.
41. عبد الرزاق الهلالي، تاريخ التعليم في العراق عهد الاحتلال البريطاني، مطبعة المعارف 1975، ص 17.
42. وميض نظمي، شيعة العراق، مصدر سابق، ص 168. انظر أيضا، إبراهيم خليل أحمد، حركة التربية والتعليم والنشر، من كتاب حضارة العراق، دار الحرية، بغداد 1985، ج 11، ص 339.

جامعة البحرين ndash; كلية الآداب ndash; قسم العلوم الاجتماعية