شاءَ قدَرُ فاضل نزال الخلايلة، منذ أن كان فتىً وحتى مصرعه في الأربعين من عمره، التخبّط في جوانب الأرض من أفغانستان إلى العراق، هرباً على الأرجح من صور طفولته، المشوهة؛ كفلسطينيّ لاجيء وعائلته في مدينة quot;الزرقا، الأردنية. طفولة ٌ، ربما حملتْ في ثناياها ما ترجّع من صدى معارك quot;إيلول الأسودquot; عام 1970، بين جيشيْ الزعيميْن اللدودين؛ عرفات والملك حسين. ليس بغريبٍ، إذاً، بعدَ أن أضحى الرجلُ زعيماً، بدوره، حاملاً ذلك اللقب المرعب؛ أبو مصعب الزرقاوي، أنْ تشتهرَ صورته باللباس الأسود، فيما أعلام حركته quot;الجهاديةquot;، السوداء، ترفرف في خلفية مشاهد الذبح وجزّ الأعناق. وهي المشاهد، المروعة، غير المسبوقة في همجيتها وساديتها، التي كانت تنشر على مرأى العالم كله في المواقع الإرهابية، الإنترنيتية، مسبوقة بالشروط التعجيزية والوعيد والتهديد، المبثوثة على شرائط فيديو، مسجّلاً عليها quot;خاص بالجزيرةquot;؛ وعلى الهواء، المباشر، لتلك الفضائية العربية، الأثيرة على قلوب الزرقاويين والسوداويين!

حينما إنقضّتْ الطائرات المدنية، المختطفة من لدن إرهابيي quot; القاعدة quot;، في أيلول 2001، على برجيْ نيويورك، الشامخيْن، لتحيلهما أنقاضاً؛ كان العالم الإسلاميّ لحظتئذٍ غارقاً في صمتٍ ذاهل ٍ، لم يفقْ منه إلا على أصوات العيارات النارية، المبتهجة، الصادرة من المخيمات الفلسطينية في لبنان والأراضي المحتلة، المختلطة بالزغاريد والتهاليل : منذ تلك اللحظة، سيرتبطُ الإرهاب، إسلامياً أصولياً، بما يستجدّ على الأرض، فيما يخص القضية الفلسطينية؛ هذه القضية، التي عادتْ إلى صيرورتها كـ quot; يافطة quot; لتبرير كل فعل ٍ سياسيّ، شاذ، طاريْ على حياة الشعوب العربية؛ كما كانه أمرُ الأنظمة الإنقلابية، الديكتاتورية، من ناصرية وبعثية وأخواتها. لا غروَ، والحالة هكذا، أن يحتفي النظام الصداميّ، البائد، بأبي مصعب الزرقاوي ويكرمُ وفادته منذ عام 2003؛ أي عشية التحضير الأمريكيّ لحرب تحرير العراق. فيما أن شقيقه، النظام الأسدي، جعل من الأراضي السورية موئلاً ومعبراً للجماعات التكفيرية، مقدماً لها كل ما تحتاج إليه من معدات وتدريب ومعلومات لوجستية، في محاولة لتخريب العملية السياسية في عراق ما بعد البعث. ولم يكن إتفاقاً، أبداً، أن تتبنى تلك الجماعات التكفيرية، إياها، نفس أساليب ما يُسمى بـ quot; المقاومة الإسلامية quot;، في فلسطين؛ والتي تجلتْ في الأحزمة الناسفة المعتمدة من قبل فتية quot; حماس quot;، بشكل خاص، والمستهدفة مدنيين يهوداً في المقاهي والأسواق ومحطات الحافلات العامة، كردّ طائش ٍعلى عمليات الجيش الإسرائيلي في العمق الفلسطيني.

فتاوى تحليل ِ قتل المدنيين اليهود والغربيين، quot; شرعاً quot;، المتفيقهُ بها مشايخُ التكفير ودعاة التفجير، كان لا بدّ لها أن تنسحب بعدئذٍ على مكونات الشعب العراقي، تحديداً، من مسلمين وغيرهم؛ بحجة أنّ : quot; الشيعة َ روافضٌ، والكردَ خونة ٌ، والنصارى علوجٌ وأسلابٌ ومغانمٌ quot;، على حدّ هذيان الناطق الزرقاوي. ثم بدأت دائرة الإرهاب بالتوسع شيئاً فشيئاً، شاملة الكثير من الدول العربية؛ بما فيها تلك الزاعقة، عبر إعلامها من صحف وفضائيات، بأخبار quot; المقاومة quot; في العراق وفلسطين ولبنان. فالجماهير الأردنية، الواقعة بمعظمها تحت تأثير الإعلام المضلل، ذاته، إستيقظتْ بدورها مصدومة ً على أثر تفجيرات الفنادق في عاصمتهم الوادعة؛ وهي نفس الجماهير، التي كانت تعقدُ مجالسَ العزاء لكل quot; شهيدٍ quot; أردنيّ، كان يسقط في العراق مفجراً جسده وسط مدنيين، أبرياء، من المسلمين الشيعة غالباً. علاوة ً على أنّ الفضائية المصرية، الرسمية، ما فتئتْ تغسل أدمغة المواطنين بتدبيجاتها عن quot; المقاومة العراقية quot;، هادفة ً إلى المزاودة على أحزاب المعارضة من إخوان وغيرهم. وفي ذات الوقت، الذي تنقل فيه تلك الفضائية تصريحاتَ المسؤولين الحكوميين، بصدد ما تسميه quot; الإرهاب المتعرضة له مصر quot;، فيما هي تعرضُ على شاشتها الصغيرة صوراً للفنادق المدمرة في شرم الشيخ وطابا!

إنّ إشكالَ الإسلام السياسي، العربي، من معتدل ومتطرف، على الصعيد الأخلاقي تحديداً، له شاهدٌ بينٌ في مسألة التعاطي مع النظام السوري. فهذا النظامُ بفكره البعثيّ، المتظهّر بالعلمانية، وببنيته الحقيقية، المتبطنة للطائفية البحتة، إستطاع ترويض الجماعات التكفيرية داخل وخارج حدوده، وتوجيهها وفق إستراتيجيته في تخليد إستبداده؛ كما نعاينه في إستخدامه لها على أرض الرافدين خلقاً للفوضى والفتن والإنقسامات، وتمهيداً للحرب الأهلية فيها. حتى أنّ المصطلح العنصريّ، البغيض، quot; الصفويون الجدد quot;، الذي يُشيعونه الآن على شيعة العراق، كانت أبواق البعث الصدامي ـ وياللمهزلة! ـ تنعت به علويي سورية من خلال إذاعة خاصة، كانت تبث من داخل العراق في ثمانينات القرن المنصرم، تحريضاً على النظام الأسدي . وعلى هذا، لا يمكن للمرء إلا التساؤل، الحائر، عن إنعدام الوازع الديني والأخلاقي لدى الجماعات السنية، المتشددة، في العراق وفلسطين بشكل خاص، حينما تتساهل اليوم بقبول لملاذ البعثي، الأسدي، والإرتهان له تماماً؛ هي العالمة بما تسامُ به الغالبية السنية، في سورية، من عسف وجور وإذلال وإفقار، على يد ذات العصابة البعثية، القائمة على التسلط الأقلويّ للطائفة العلوية ؟ وبمقتضى السبب ذاته، يصحّ ذلك التساؤل، نفسه، بصدد جماعات الإسلام السياسي، المعتدل، في الأردن ومصر _ وأيضاً كأمثلة _ في كيفية تبريرها الدفاع عن النظام البعثي، بهلوسات العداء للغرب، بينما أنّ quot; إخوانهم quot; السوريين، في التنظيم الشقيق، ما زال القانون رقم (49) مسلطاً على رؤوسهم، كسيف ديموقليدس في الإسطورة الإغريقية؛ هذا القانون الصوريّ، الذي يُبيح إعدام المنتسب لجماعة الإخوان المسلمين، وبأثر رجعيّ أيضاً.. ؟

[email protected]