الإنسان كائن من كان، هو أبن آدم وحواء اللذين خالفا أوامر الله، واستحليا من بين ملايين الثمار الطيبة التي أباحها لهما الله في جنانه الواسعة. استحليا تلك الثمرة التي حرمها عليهما وأكلاها. أي أن الإنسان أبن الشهوة، والعصيان، والخطيئة التي اقترفها آدم وحواء، واستوجبت أن يعاقبهما الله عليها، ويطردهما من فسيح جنانه الخالدة، إلى عذاب الحياة الفانية، كما أجمعت كل الديانات السماوية.

للإنسان مواصفات وضعها الخالق فيه، منها الشهوة والعاطفة والمشاعر والأهواء. فالإنسان يجاري غرائزه، ويشتهي النساء، ويمارس الجنس، ويفضل امرأة على أخرى، ويصادق ويعادي، ويحب هذا ويكره ذاك، ويتمنى ويرغب، ويجري خلف أمنياته ورغباته، ويفرح ويحزن ويغضب، ويفقد السيطرة على أعصابه. ويأكل ويشرب ويتبول ويتغوط. ويقوى ويضعف. ويخاف ويخجل. ويولد غراً جاهلا، ويتعلم، فيفشل في علوم ويلم بأخرى. ويبقى مهما علم وتعلم دينيا ودنيويا، يجهل الكثير والكثير (وما أوتيتم من العلم إلا قليلا- الإسراء 84). فكيف يمكن لإنسان هكذا حاله أن يكون معصوما عن الخطأ ومقدسا؟

وكائنا من كان هذا الإنسان، ومهما ادعى وكذب، فإنه يسعى بالدرجة الأولى لتحقيق رغباته، وتأمين مصالحه ومصالح أبنائه. دون أن ننسى- خاصة إن كان هذا الرجل شخصية عامة، أو علما من الأعلام- أن اعتبارات منصبه ومركزه، تمنعه من المجاهرة برغباته الشخصية، وتفرض عليه خداع الآخرين، والسرية والكتمان في متابعة مصالحه الخاصة ومصالح أبنائه، وتملي عليه إظهار عكس ما يخفي، والادعاء بأنه لا يعبأ بمصالحه ومصالح أبنائه ولا يهتم بها، بل يفضل عليها مصالح قومه ومريديه. كما تفرض عليه التظاهر بالزهد والعزوف عن ملذات الدنيا، بينما يعقد في السر الصفقات، ويقيم الاستثمارات، ويجني الأموال الطائلة.

إن الجموع التي تحيط رجلا بهالة من العصمة والقدسية، وتعتبره فوق البشر وفوق النقد، وتتبرك فيه، وتبذل سمعتها وحياتها لإرضائه، والدفاع عن عصمته وقدسيته، ومجده وسؤدده- إن لم تكن مجبرة على ذلك- فهي جموع هامشية، تعسة، سائمة، هالكة، مرمية في قاع بئر مظلم عميق، تقتات من نفايات الموتى، وتستنشق غازاتهم السامة.
ولا شك أيضا أن الرجل الذي يحسب نفسه فوق مستوى البشر، وأجلّ من أن يطاله النقد، هو إنسان مخادع، غير متوازن، لا يثق بنفسه وقدراته، عديم المؤهلات الفكرية والعلمية، يخشى مواجهة الحقيقة، ضعيف من الداخل، يداري ضعفه بالادعاء والمباهاة والطغيان. ومريض نفسيا وعقليا. وأول أمراضه جنون العظمة، وثانيها عقدة الاضطهاد. فمثل هذا الإنسان يخشى أن ينكشف زيفه وتهالكه وخوائه، ويظهر على حقيقته، ولهذا يخشى المواجهة والمناظرة، فيأمر بالقتل والذبح والتدمير، لظنه أن الآخرين يتآمرون عليه، لإقصائه والحلول مكانه. ولا أدل على ذلك من تصرفات صدام حسين الذي كان يذبح كل من يتعرض بالنقد لرأي من آرائه أو فعل من أفعاله، ويقطع لسان كل من كان يشك بأنه قد ينتقده, لكنه بعد أن فقد موقعه صار وديعا خائفا مسالما يخاطب القاضي بألفاظ (يا سيدي) و(جنابك). وكان قبلا.. لا أراكم الله كيف كان.
إن مثل هؤلاء الذين لا يمتلكون المؤهلات اللازمة، يعتمدون بالدرجة الأولى على جهل الجموع البائسة، وإرث أسلافهم، والسلاح، والدعم المالي، والدعاية القوية القادرة على جعل أسوأ مسحوق غسيل أكثر المساحيق مبيعا وطلبا.
إن الرجل القوي الواثق من علمه ومؤهلاته وصدق نواياه وصحة خطواته، لا يأمر بقتل منتقديه أو إرهابهم، بل يفتح صدره للنقد، ويستفيد من محاوريه ومنتقديه. ويقول كما قال أبو حنيفة النعمان: رأينا خطأ ويحتمل الصواب، ورأي غيرنا صواب ويحتمل الخطأ.
[email protected]