كانت ليلة ليلاء قضاها أهل حينا، بل أهل المدينة جميعا. حسبنا أن أبواب الجحيم قد فُتحت، إذ لم يهدأ إطلاق النار المتواصل، من العاشرة مساء، حتى الواحدة صباحا.
لم تكن مدينتنا قريبة من الحدود لنظن أن الجبهة مع العدو قد اشتعلت، وأم المعارك قد بدأت، والجيوش تقدمت واشتبكت والتحمت.
لم تسعفنا الحاسة السادسة للتكهن بأسباب هذه النيران! فصدام في السجن، وليس ثمة أية انتخابات رئاسة أمريكية في الوقت الحاضر. كما لم ينهَ إلى علمنا أن أحدا من الزعماء قد مات، أو أن غزوة جديدة حصلت. أو أن عرسا أو وليمة أو مطربا جديدا ظهر على الساحة، أو صلحا يقام. ونتائج امتحانات الطلاب ما زالت هي الأخرى بعيدة. ولم نسمع أيضا أن عداوة بين العائلات قد وصلت في الآونة الأخيرة إلى حافة الهاوية لتستوجب كل هذه النيران.
لم يجرؤ أحد منا- لاستطلاع الأمر- الوقوف في النوافذ والشرفات. فالرصاص كان غزيرا، ومن كل الاتجاهات. قمعنا فضول أطفالنا ومنعناهم من الاقتراب من فتحات الجدران ومن مغادرة البيوت. أرخينا الستائر وأطفئنا الأنوار.
لم يخطر في بال أحد منا أن يكون سبب كل هذا الرصاص الغزير الكثيف فوز فريق المدينة لكرة القدم في مباراة ودية على فريق مدينة أخرى.
لا شك أن الرياضة مظهر حضاري عظيم، ترتقي بالإنسان نفسيا وعقليا وجسديا. وتساهم في الاطلاع على ثقافات الشعوب وعاداتهم، وسلوكهم نحو الغير، وتعاملهم مع الآخرين. كما تساهم في تبادل المعارف والخبرات، والاستفادة من التجارب والمهارات. وتقيم الصداقات بين الشعوب والدول والأفراد. لكن التعبير عن حبنا لهذه الرياضة، وفرحتنا بفوز فريقنا يمكن أن يكون بأساليب وأشكال أخرى، ليس الرصاص واحدا منها على أي حال.
إطلاق النار في بلادنا عادة قديمة نمارسها في كل المناسبات المتوافقة والمتناقضة، صغيرة كانت أم كبيرة، نعبر بها عن حزننا ونعبر بها عن فرحنا. ولعل قائل يقول إنها عادة غربية مستوردة أدخلها الاستعمار إلى بلادنا، وزرع حبها في قلوبنا ونفوسنا، مع توريد السلاح إلى ربوعنا. فقد كنا قبل ذلك نعبر عن فرحنا وحزننا بقرع الطبول. مما يعني أننا في كل الأحوال نحب الأصوات الضخمة والضجيج، ولهذا قيل عنا أننا ظاهرة صوتية.
إن إطلاق النار في المناسبات يُقصد منه لفت نظر الآخرين إلينا، ليتعرفوا على أحوالنا، وقدراتنا النارية وقوة شكيمتنا، ويتجنبوا شرنا. فهي بهذا الشكل تعبر عن دخيلتنا، وحبنا للنار والرصاص، وتنم عن استهتارنا بمشاعر الناس وراحتهم وأرواحهم، كما تعبر عن مقدار العنف الكامن في نفوسنا، وعدم القدرة على التحكم بمشاعرنا، والتعبير عنها بهدوء وأناة وسلام، وإنما بأقصى ما يمكن إحداثه من إزعاج وإرهاب وضجيج وصخب، وهذا يعكس جانبا آخر من تربيتنا وشخصيتنا، كما يعكس مقدار الكبت الذي نعاني منه ويعتمل في داخلنا، ونرغب من ثم في تدميره وتفجيره. ويدل أيضا على الطريقة التي نعالج بها أمورنا حيث نلغي العقل إلغاء تاما، فلا يفكر أحد أن هذه النيران العشوائية قد تصيب أحدا، عدا عن أن بعض الناس يتقصد ذلك برغبة أن يكون الحزن عاما، أو ليكتمل فرحه بحزن الآخرين.
كم من الرصاص الطائش الذي يطلق في المناسبات قد سبب المصائب للناس، وأودى بحياة الكثيرين، وخاصة الأطفال منهم؟ لماذا إذن لا نقاوم هذه العادة اللعينة، بل لماذا لا يقوم الشيوخ الأفاضل بتحريمها؟ كما حرّم بعضهم تقديم الزهور للمرضى بحجة أنها عادة غربية غريبة عن مجتمعاتنا وقيمنا، وتشبّه بالكفار، مع أنها وسائل تعبير تنم عن رقي وذوق رفيع. وكما حرموا فن النحت وصنع التماثيل بحجة الخوف على الناس من أن يتحولوا عن عبادة الله إلى عبادة الأصنام. وكما حرموا الموسيقى وهي لغة الأحاسيس والمشاعر، بحجة أنها لغة الشيطان. وكما حرموا شرب الماء المثلج في الصيف القائظ بحجة أن المسلمين الأوائل لم يشربوه. فلماذا إذن يجد هؤلاء المشايخ غضاضة في تحريم عادة إطلاق الرصاص التي تقلق الناس وتقض مضاجعهم وتخيف الأطفال. الأطفال الذين حرم عليهم هؤلاء المشايخ أن يفرحوا ويحتفلوا بأعياد ميلادهم، خشية- كما يزعمون- أن يحبوا ذواتهم، فسرقوا بذلك فرحهم، وصادروا عواطفهم، لأنهم لا يريدون إلا أطفالا مشوهين يعشقون العنف والرصاص.
التخلف عن ركب الحضارة الإنسانية هو تخلف فكري بالأساس، علاماته كثيرة، منها التمسك بقيم ومفاهيم بالية، بادت واندثرت وشبعت موتا. ومنها أيضا طريقة التعبير عن ذواتنا.
[email protected]