الأزمة التي يعاني منها العرب جميعاً ، هي أزمة بنيوية بكل المقاييس، لا أزمة في هذا الجانب، دون ذاك. وقد حاول العديد من مثقفيهم، فصل الموضوعي عن الذاتي، والتركيز على الأول، في مقارباتهم وسجالاتهم الفكرية، متحاشين الحديث والغوص في لُجج الثاني، أي الجانب الذاتي من الأزمة. وهو الجانب الذي تُجوهلَ كثيراً، في القرن الماضي، ولم يبدأ البحث والتنقيب فيه، إلا في العقود الأخيرة منه، ومطالع هذا القرن. لذا سنركّز، في هذا المقال السريع، على الجانب الذاتي من الأزمة. محاولين تلمّس الأسباب والدوافع، التي جعلت من ذاتنا، ما هي عليه، من صفات عمومية، لا تسرّ صديقاً ولا عدواً.
إننا نرى أن أزمة العرب في هذه الذات العربية أولاً. وللتدليل على ذلك، سنأخذ مسألة تقديس وعبادة النصوص. فهي، على ما نظن، جذر هذه الأزمة المستفحلة، والدافع المحرّك لها. فما من أمة تعبد نصوصها القديمة، كما نفعل نحن. وما من أمة، تستخفّ بقراءة الواقع من حولها، كما تفعل هذه الأمة. إننا نلوي عنق الواقع من أجل منطوق النصوص. حتى غدت النصوص، هي واقع العرب الوحيد، وحتى غدا quot; واقعهم الفعلي وواقع العالم من حولهم quot;، خارج عقلهم الجمعي!
فإذا أتينا إلى هذه النصوص، ماذا نجد؟ نجد لغة بالية، ومجموعة مفاهيم وتصورات قديمة، لا يمكن لعاقل، تدفعه رغبة الحضور السلمي في عالم اليوم، أن يأخذها على محمل الجد. فهي لغة تحتوي على مفاهيم وتصورات، غاية في العنف، وتنفي الآخر، ولا تعترف به، إلا كما يعترف السيد المتفوّق بالعبد المطيع. لغة تأسست على الإكراه والقمع، والنظرة الأحادية، في جوانب كثيرة منها. ولغة، في أحسن الأحوال، حمّالة أوجه، تأتي الشيء ونقيضه في آن، معتبرة ذلك، ثراء لا نقيصة. لغة، اشتغل عليها المؤوّلون، عبر ألف وأربعمئة سنة، وأعادوا تفسيرها، بما يخدم مصالحهم ومصالح أسيادهم، وبما يُكرّس واقع التخلف والتبعية والتهميش، في عملية إنتاج لا تنتهي ولن تنتهي.
إلى درجة، تحوّل معها، الناطقون بها، إلا من رحم ربي، إلى منتوجٍ لهذه اللغة، لا كائنات من لحم ودم، يجري عليها ما يجري على زميلاتها في العالم الواسع. فالعربي، كما نرى، صار منتوجاً لغوياً، بفضل سيطرة اللغة عليه، لا مُنتِجاً للغة ولا فاعلاً فيها. أي صار مفعولَ اللغةِ بامتياز. ولعل هذا المعنى، لا يبتعد أبداً، في مغزاه وفحواه، عن كلمة المفكر العربي، عبدالله القصيمي، بأن (العرب ظاهرة صوتية) لا أكثر.
كيف وصلنا إلى هذه الحال؟ وصلنا بفضل المؤولين والمفسرين والدعاة. وصلنا بفضل نظم تعليمنا القروسطوية. وصلنا بفضل، تماهي حراس النصوص بالله. فكل كلام يصدر عنهم، صار مقدساً هو الآخر. صار الوجه الثاني لله. صاروا هم محتكري الحقيقة المقدسة على الأرض. وكل من يخالفهم، يُكفّر، ويُطرد من الملّة، وينبذ، كما كان يُنبذ، قديماً، الجمل الأجرب.
ونحن نعرف، بداهةً، أنه، كلما حضرت القداسةُ، غاب العقلُ. فلا قداسة مع العقل ولا عقل مع القداسة، ذلك أن الأخيرة، حجاب ونقاب وغياب، تحجب وتنقّب وتغيّب العقل وأنساقه المعرفية والفكرية والنقدية.
ونعرف، تالياً، أن غيرنا، من رواد حضارتنا الكوكبية، لم يصلوا إلى ما وصلوا إليه، من تقدم ورقي وتنوير وتغيير، إلا حين نحّوا نصوصهم المقدسة، جانباً، والتفتوا إلى الحياة، على غناها من حولهم، دون ثِقالات أيديولوجية أو دينية، ودون حجابات من ماض. فقد كان ولاؤهم ، الأول والأخير، للحياة، بحاضرها ومستقبلها، لا للنصوص المتعالية. ولهذا تقدموا، ولهذا أيضاً تأخرنا.
إن العقل الغربي اليوم، بل منذ قرنيْن على الأقل، لا ينظر إلى مقدساته، في أحسن الأحوال، إلا كرموز وحاجة فطرية إلى إيمان حدسي، لا يستقيم الوجود بدونها. إنه يضعها فقط في هذا الإطار : الحاجة إلى قوة ما عليا، تؤمنّ له نزوع النجاة من المجهول الغامض، وهي حاجة إنسانية أصيلة على العموم. أما في غير أحسن الأحوال، أي في الأغلب، فيتعامل معها، حسب قانون اللاأدرية، أو كأنثروبولوجيا، وكنصوص تاريخية، لا علاقة لها بالحقائق المطلقة المفارِقة. إذ لا مكان لهذا النوع من الحقائق لديه، فكل شيء نسبي عنده، والحقيقة أشبه بالهرم المثلث، رؤيتك لها من جانب، لا تلغي رؤية الآخرين لها، من الجوانب الأخرى.
فإذا جاء مفكّر عربي، وحاول إنزال النصوص، من علياء ميتافيزيقيتها، إلى الواقع التاريخي، كما هو الحاصل مع نصر حامد أبو زيد، وغيره، فإن مآل هؤلاء، هو النبذ والطرد والتكفير. حتى ضاقت الأرض العربية، على خيرة مفكّريها النجباء، فلم تتسع لهم، سوى دار أو (فسطاط الكفر)، بعيداً عن شرق المتوسط، هناك على جانبي المحيط.
لن أتكلّم ههنا، عن مضمون نصوصنا، المدغومة بحد السيف، لأننا كلنا نعرفها. بل سأتكلّم عن المؤسسات والجمعيات والمعاهد والوزارات القائمة على حراستها (حراستها مِن مَن؟ حراستها من كل من يخالفهم التأويل والتفسير!) وسأتكلّم عن انحرافها البائن، بتفضيلها وتكريسها لنوع واحد من الفعالية الملغاة، وهو تربية العقل على النقل، لا النقد : على الحفظ لا التحليل : على التلقين والأسطرة. وحشوه بالمعرفة اللدنّية، لا المادية. أي تحويل العقل لدى المواطن العربي، إلى مستودع لحفظ النصوص الصفراء، كخطوة أولى، ثم تحويله، من quot; عقل quot; إلى quot; ذاكرة quot;، في الخطوات التالية.
إن نظرة هذه الأماكن، إلى الحياة، كفضلة زائدة، لا كأساس وغاية، لدى الفرد البشري، هو ما أوصلنا اليوم، إلى غربتنا واغترابنا عن العالم. بل هو ما أخرجنا من التاريخ، ومن الجغرافيا، لا بدّ، ذات يوم!
وما لم يوضع حدّ لها ولتخريبها، المعلن والمستتر، فلن نعبر الجسر، ولن نتجاوز النفق المظلم، متوجهين نحو النور والعقلانية والحضارة الحقة.
الطريق طويل لا شك، والزاد أقلّ القليل. والعرب، بمثقفيهم المتنوّرين، بدأوا الخطوة الأولى، في طريق الألف ميل، وعليهم أن يواصلوا، مهما أوحشت الطريق وقلّ الزاد. فلا مناص من ذلك، ولا طريق غير هذه الطريق.
فإما أن نظل أسرى النصوص ومفعولاتها، فنغيب عن أنفسنا وعن العالم، وإما أن نحضر في أنفسنا ونحضر في هذا العالم. ولا خيارات أمامنا، فعلى ما يبدو، انتهى الزمن الذي كان يتمتع العرب فيه، بترف ورفاهية الخيارات!
تحرير النفوس من سطوة النصوص - هذا هو الخيار المبدئي والأوليّ، وإن خذلني وجاء هذه المرة على هيئة شعار!

ملاحظة :
إذ أكتب هذه الكلمات، تأخذني الذاكرة، إلى الأفلام المصرية في الأربعينات والخمسينات والستينات من القرن الماضي، حيث كان المجتمع المصري، في أوج عافيته، متفتحاً ومنفتحاً على الحداثة والعصرنة وأحلام البناء والنهوض، فكان رجالات الدين (لاحظوا صورة المأذون في تلك الأفلام)، يُتعَامَلُ معهم، على نحو فكاهي نوعاً، ما يضحك الجمهورَ منهم، ومن لباسهم الفلكلوري، ومن لغتهم المتعاضلة الفصحى.
وإذ أكتب هذه الكلمات أيضاً، أتذكّر، حال ووضع رجالات الدين في إسرائيل، كيلا نبتعد ونتكلّم عن أماكن أبعد، فإسرائيل، التي قامت على أساس ديني، ضمن أساسات أخرى، تتعامل مع هؤلاء، على صعيد المجتمع بشرائحه المتعددة، كما لو كانوا أضحوكة أو ألعوبة، أي تتعامل معهم على نحو فكاهي، كمادة للسخرية البيضاء حيناً أو السوداء، أحياناً.
ماذا يعني ذلك؟ يعني أن كل مجتمع منفتح، حداثي وناهض، لا يأخذ هؤلاء على محمل الجد! فهؤلاء لا يُؤخذون على هذا المحمل، إلا في المجتمعات المنهارة، المجتمعات التي انهارت فيها الطبقة البرجوازية الوسطى، هذه الطبقة التي هي عماد أي مجتمع صحي وصحيح. والتي هي منتجة الوعي والفكر النقديين.
ولعل هذا ما يُفسر لنا، لمَ اجتاحت هذه التيارات، نسيج المجتمع العربي المأزوم، في الأربعة عقود الأخيرة. وتخللته، كما تتخلل النار، كومة قشّ، فهذا المجتمع، يقبع حوالي مئة مليون من سكانه، تحت نير الفقر والعوز والأمية الأبجدية. فكيف له، وقد سُدّت في وجهه، كل سبل العيش الكريم، ألا يلجأ لهؤلاء؟