آثرت التريث قليلاً في الكتابة عما يجري في لبنان، يأساً من جدوى الكلمات، ومن تهافت اللغة أمام هذا الهولوكوست الجديد. لكنّ دموع السنيورة، وحشرجة صوته، أمام وزراء الخارجية العرب، وهو يتحدث عن عروبة بلده، أعادتني للكتابة، وأرجعتني لمغالبة هذا اليأس العميق. يأس هو يأس الحقيقة أولاً، قبل أن يكون يأس اللغة : الحقيقة وهي تغترب بين أهليها وأعدائها معاً. فأنت إن قلت بعضها، غضبَ منك الغوغاء، واتهموك بأقذع الصفات. ومع ذلك لا بأس! فقدر الكاتب أن يكون ولاؤه للحقيقة أولاً، وإلا ما جدوى الكتابة والكاتب، وبالذات في زمن الحروب، والمفاصل التاريخية؟ دموع السنيورة، وهو يرى خراب بلده، وتحوّله من وطن صغير جميل، إلى ركام كبير، هي لا شك، دموع كل عربي، وإنسان، في أربعة أركان الدنيا، وهو ينظر لهذا الخراب، من أي مكانٍ كان. رئيس وزراء لبنان، ونحن جميعاً، بكينا ونبكي على ما يحدث، رغم علمنا بأن حتى الدموع لا جدوى منها. لكن، ماذا يتبقى لنا غير الدموع؟ الكلمات، أصابت أم خابت، تتبخّر في الأخير كالإسبيرتو في الهواء. والفعل، نحن أعجز قاطني الكوكب عن الفعل الصحيح. فماذا يتبقى لنا، غير الدمعة، حين يعزّ الصديق في الضيق، وحين يفتري العدو بلا رادع وبلا رحمة. لبنان، بطوله وعرضه، صار مأدبة للخراب. وإسرائيل السيكوباثية، لا تفرط في استخدام القوة، كما هو عهدها من قديم، فحسب، بل تجعل من هذه القوة العظمى المتوحشة، ديناً سياسياً لها، لا دين فوقه ولا تحته. أما حزب الله، الذي أخطأت كل حساباته في قياس ردّ الفعل الإسرائيلي على عملية خطف الجنديين، فكانت هذه الكارثة، من نصيب لبنان كله، لا من نصيب جنوده ومحازبيه، فليس الآن وقت مساءلته ومحاسبته. فغداً أو بعد غد تضع الحرب أوزارها، ويأتي وقت المساءلة والمحاسبة. إن كل ما يعنينا الآن وهنا، هو سؤال : متى تنتهي هذه الحرب الحقيرة، ومتى يعود النازحون المليون لبيوتهم وقراهم. فهذا هو الأهم، وهذا هو الأولى بكل الجهد السياسي العربي والعالمي. ضعوا توقيتاً لوقف إطلاق النار، وبعد ذلك، لكل حادثة حديث. أما قبل ذلك، فلا معنى لكل ما تفعلونه، ولا طعم ولا رائحة غير طعم المحرقة ورائحتها الخانقة. إن الأيام القادمة، التي نأمل أن تكون مجرد أيام فقط لا أكثر، هي الأخطر في كل هذه الدراما الدموية. ومن خلال معرفتي المتواضعة بالنفسية الإسرائيلية، أخشى أن يكون القادم أسوأ من الذي فات. ودعوني أتكلّم عن جانب واحد من المشهد البارونامي، له عدة دلالات، وهو جانب الصحافة في إسرائيل. فمن يتابع الصحافة الإسرائيلية المكتوبة، ويدقق في ما بين السطور، سيعرف حتماً، أن مقدار الحقيقة فيها، ينحسر يوماً بعد يوم. وأنها تخفي أكثر مما توضّح. ولولا تحليلات وآراء بعض كبار محلليها، على ندرتهم، لكانت الحقيقة هي الغائبة الكبرى عن هذه الصحافة. وطبعاً، لا داعي للبحث عن الأسباب، فالأسباب كلاسيكية ومعروفة : إنها ظروف الحرب، وإنه المأزق الكبير الذي تواجهه آلتهم العسكرية في لبنان. فالزمن يضغط عليهم، والشارع بدأ يستيقظ، في غير مكان، وشرع يخرج في مظاهرات، ويدين هذه الحرب، وعلى نحو خاص في الداخل، وفي أوروبا، ولا إنجازات عسكرية حقيقية في الميدان. من هنا، وكما نتوقع، ستزداد شراستهم، في الأيام القادمة، وعلى الأغلب، ستكون هذه الشراسة، موجهة في الأساس ضد البُنى التحتية والمدنيين اللبنانيين، كما كانت من قبل وما زالت، موجهة ضد المدنيين الفلسطينيين في قطاع غزة. فهذا ما تستطيعه إسرائيل، في البدء والوسط والنهاية، وهذا هو عهدنا بها. ستزداد هذه الشراسة، بل الوحشية البربرية، وسيفتح الوحشُ فمه على آخره، قبل أن تتوصل الأطراف إلى وقف لإطلاق النار، وهو احتمال نتمنى أن يكون قريباً في جميع الأحوال. فلم يعد العالم، باستثناء أمريكا، يحتمل مزيداً من التسويف والتأجيل. خصوصاً وأنّ الحرب طالت، والدمار الناتج عنها، يفوق الوصف. فلبنان في معظمه، دُمّرت بُناه التحتية، وأكثر من ألف من الأبرياء، قضوا تحت الأنقاض حتى هذه اللحظة. الأمر الذي يحتّم أن تنتهي هذه المحرقة بأسرع وقت. فماذا يعني كل هذا بالنسبة لإسرائيل وساستها بل وحتى صحفييها؟ يعني بالتأكيد أن ليس أمام إسرائيل الكثير من الوقت. ويعني أنها في سباق ربع الساعة الأخيرة. وهنا بالضبط مكمن الخطورة. فإسرائيل ستحاول جاهدة تحقيق أكبر مكاسب وإنجازات ممكنة في أضيق فسحة من الوقت، قبل أن تتفق الأطراف الدولية على إنهاء الحرب. لذا، فهي ستكون في منتهى بربريتها ووحشيتها، من الآن فصاعداً. وكلما مرّ عليها الوقت، شعرت بالضغط، وشعرت بأنها لا بد من أن تنجز شيئاً يكون في صالحها، قبل أن تذهب إلى طاولة المفاوضات. وكلما شعرت بالضغط، تكثّف من جبروتها العسكري، وتتجاوز كل الخطوط الحمراء. لذا، فدموعنا على الأغلب، لن تجف في قادم الأيام، بل ستنهمر أكثر : ستنهمر على هذا الهولوكوست اللبناني، الذي هو ولا هولوكوست النازيين في التاريخ. هولوكوست، تُقدم على اقترافه دولةُ إسرائيل، وتدعمها أمريكا المحافظين الجدد، بكل ما لديها من أسلحة ذكية وغير ذكية.
قلبنا على لبنان. وليس لنا إلا دموع العاجزين، في هذه الحقبة السوداء من تاريخ العرب، العاجزين بامتياز، لا في قواهم فحسب، بل أولاً وأخيراً في عقولهم أيضاً!