مات صدام، فماذا عن العراق؟ ماذا عن حاضر ومستقبل هذا البلد العظيم؟ العراق الحاضر يذهب، بقصر نظر زعمائه إلى شفير الحرب الطائفية. أتدرون لماذا؟ لأن البلد مرهون في أيدي مافيات من الجهتين. ولأنّ مرجعياته كلها، سواء في هذا الجانب أو ذاك، ترتدي لبوس المذهب فقط. وتدير شئون البلد، وفقاً لمصالحها الدنيئة، لا أكثر. العالم يذهب نحو قارة حقوق الإنسان والعلمنة، واحترام الاختلاف، بينما زعماء العراق، مَن وجِدَ منهم داخل الحكومة الهزيلة أو خارجها، ينكصون نحو الدين بمذاهبه ونظرته الضيقة. وتلك هي في الحق مأساة العراق والعراقيين.

لكأنني، وأنا أتابع الشأن العراقي، أرى بلداً، يعيش لا يزال في ذروة القرون الوسطى. القتل والتنكيل اليومي، ببشاعة قلّ نظيرها حتى في البربريات القديمة. فهل هذا يليق ببلد انبثقت بين نهريه، أعرقُ الحضارات البشرية قاطبة؟ وهل هذا يليق بشعبٍ، هو الأسوأ حظاً في تاريخ الإقليم، حيث أُبتليَ، عبر تاريخه السحيق وإلى الآن، بأعتى وأجبر الطغاة؟ أما آن لكل ذلك أن ينتهي؟ أما آن لصفحة العذاب والدموع أن تُطوى مرة واحدة وإلى الأبد؟

لكنْ كيف ومَن يحكمون العراق الآن، هم دون مستوى رجال الدولة ورجال الحكم والقيادة؟ دون مستوى أن يتحمّلوا مسئوليات المنصب أو الموقع، كما يليق حقاً بمسئول. ولاءاتهم ليست خالصة لوجه العراق والعراقيين. بل هي لهذه الجهة أو تلك. فهل يستقيم حال بلدٍ قادته لا يضعون مصالحه العليا فوق الجميع؟

إن عقلية الثأر والانتقام التي تحكم زعماء العراق الآن، سواء من في السلطة أو المعارضة، لن تتقدّم خطوة بالبلد، بل ستعيده خطوات إلى الوراء. أقول قولي وعيني على تصرفات وتصريحات النخبة من طرفي الصراع : السني والشيعي. فبهولاء لا مستقبل إلا للكارثة. وبهؤلاء، لن يتعافى العراق من محنته الكبرى، وإنما سيهبط في قيعانها أبعد.

حين سقط الطاغية، كنا نأمل أن تُطوى صفحته إلى الأبد. وأن يبدأ العراق الجديد، الليبرالي العقلاني، حاضنُ الجميع ووطنُ الجميع، صفحة جديدة مزهرة. صفحة لا تُعيد أخطاء وخطايا الماضي، بل تشتغل على الافتراق والتمايز والمُغايرَة مع كل ما سبق. بيد أن ما يحدث منذ سقوط صنم الديكتاتور، لا يبشّر بخير أبداً. فصدام ذهب وذهبت دولته ورجاله، ليحلّ محلّهم، صداميون بمحتوى ومضمون صدام وإن اختلفت الأسماء.

ميراث ثقيل ومرير من الأحقاد والمرارات والفوضى، يأخذُ العراقيين جميعاً إلى غياهب الماضي، ويصادر مستقبلهم ومستقبل أبنائهم وأحفادهم. البلد العريق الثري، بل الأكثر ثراءً والأغنى، بكفاءات بشره وبماله وبنهريه، من كل دول المحيط، يتقزّم ليصير على مقاس هذا الزعيم الطائفي أو ذاك. ترى أين هم الزعماء الوطنيون؟ أين هم البُناة والعراق مليء بهم، داخلاً وخارجاً؟ ومتى يمسك هؤلاء، مقاليد الأمور، ليبدأ البلد الكبير في التعافي من أمراضه المزمنة؟

نعرف أن ميراث الدكتاتوريات الباهظ، لن يكون تجاوزه سهلاً، لكننا نعرف أنه ليس مستحيلاً أيضاً. فإذا توفرت النوايا والإرادات، وتوفر عزمُ البشر، تهون أقوى الصعوبات. ولنا في يابان وألمانيا ما بعد الحرب العالمية الثانية، المثَل والنموذج. فهاتان دولتان خرجتا من تلك الحرب الأقسى في التاريخ، ولا يُوجد مصنعٌ فيهما غير مُدمر. ومع ذلك نهضتا بسرعة وبعزمٍ وبتصميم حديدي، فتجاوزتا الهزيمة، وصارتا عملاقين اقتصاديين في فترة جد قصيرة بكل المقاييس. الأولى، اليابان، ها هي الآن القوة الاقتصادية الثانية في العالم، بعد أمريكا. وأما ألمانيا، فقد صارت القاطرة الاقتصادية والتكنولوجية التي تجرّ من ورائها القارّة الأوروبية بأكملها.

عملاقان بل معجزتان اقتصاديتان، بزغتا من رماد الهزيمة، كطائر العنقاء في الأسطورة. اليابان بلد بلا موارد طبيعية تقريباً. أي بلد فقير إلا من عبقرية مواطنية ومن نظامه السياسي. وألمانيا بلد غني بموارده الطبيعية ولكنه الأغنى بموارده البشرية في المقام الأول.

فلمَ لا يمشي العراق على ذات الطريق؟ وما الذي ينقصه حقاً؟ لا ينقصه نظرياً شيء، لكي يكون في عداد هاتين الدولتين. فلديه من الموارد، وهو كنزُ العالم، ما يفوق اليابان وربما حتى ألمانيا. لكن الأهم ينقصه، وهو الموارد البشرية والطاقات البشرية التي تُوظف التوظيف الصحيح والمثمر في مؤسسات الدولة. العراق تنقصه هذه : المؤسسة. وينقصه هذا : النظام.

والحق، لكي لا نذهب بعيداً، أنّ جذر الاثنين : المؤسسة والنظام السياسي، يكمن هناك في الثقافة. في النمط الحضاري. في المنظومة الفكرية. حيث هنا يكمن الخلل، وهنا تكمن المعوّقات، بل المستحيلات !

فبما أنّ العراق جزء من تركيبة المنطقة، وجزء من الثقافة العربية، وجزء من منظومتها الشاملة.. بما أنه كذلك، وسيبقى كذلك، فإنّ المشوار أمامه جد طويل. فهذه المنظومة تحمل جرثومة موتها وتأخرها ووحشيتها في دمها.

وما لم تحكم العراق الآن وفي المستقبل، قوى تحمل مشروعاً مغايراً عن مشاريع الماضي، قوى ديمقراطية وعلمانية حقيقية، قوى محكومة بمنظومة قيم المستقبل لا الماضي، فإنه، العراق، سيظل يرواح في أمراضه المزمنة إلى أجل غير معلوم. شأنه في ذلك شأن جميع دول المحيط.

إنّ حارث الضاري لا يختلف في شيء عن صدام حسين. وإن مقتدى الصدر لا يختلف في شيء عن صدام حسين. وعلى ذلك قِس. هؤلاء مثل الرجل المقبور : ضيقو الأفق، ولا يستحقون أن يكونوا مراجعَ لأي شيء وفي أي شيء. صدام ذهب إلى مصيره المحتوم. ولا نتمنى للعراق أمثال صدام يستولون على الشارع وكراسي الحكومة، لُيعيدوا إنتاج الديكتاتور من جديد.

ما سمعته من الفرقاء السنة والشيعة، تعقيباً على حدث شنق صدام، لا يتجاوز منطقة الثأر والانتقام، في كل حال. وإني لأستغرب ذلك، وإن كنتُ أتفهمه. أستغرب أن تحكم البلد الكبير، عقلياتٌ ضيقة محكومة بقيم صحراوية بائدة من هذا النوع. قيم عشائرية، بدوية لا تبني دولاً، وإنما تلحق بالدول المزيد من التصحر والجفاف.

وهو الأمر الذي فعله صدام بامتياز في العراق، فأرجع البلد عقوداً إلى الوراء. ثمة خطر حقيقي ساحق أن تُعاد نفس الأسطوانة المشروخة، بصوت مقتدى الصدر أو الحكيم أو الضاري أو المالكي أو القاعدة هذه المرة.

مات الديكتاتور ودُفن في التراب أخيراً. والسؤال الأهم والأجدى : متى يموت ميراثه ومتى يموت أشباهه ونظراؤه، فلا يُعاد إنتاج التخلّف والترييف في العراق؟

إن العراق الذي أسس دولته قبل ثمانية عقود، يستحق طرازاً من القادة المدنيين والمدينيين، من القادة المثقفين والإنسانيين، من ذوي الرؤى والرؤيا، من ذوي الاجتهادات والتخصصات، من ذوي الكفاءات، تكون مراجعهم كلها على الأرض، وليس في مكان مجهول. هذا هو العراق الذي نريده بعد ذهاب الطاغية : عراق علماني يتولى الأمور فيه مثقفون ونخب مدنية، وأبداً.. ليس مراجع دينية بدوية ريفية من أيّ نوعٍ كان !