مشكلة النص الديني، أي نص ديني، أنه متعالٍ على الواقع. أي يقع بالضرورة خارج الشرط البشري. فإذا جاء بشرٌ وجعلوه مرجعاً أوحدَ لهم، في كل شؤون الحياة، الصغيرة منها والكبيرة، السياسي منها والاجتماعي وحتى الاقتصادي، تكون حينها الطامةُ، والطامةُ الكبرى لا غير.
فبما أنّ هذا النص، بطبيعته، غير مُحايثٍ لنا، فإنه سيبقى طوبى ومِثالاً. ومن يؤمن بهما : الطوبى والمثال، ويحاول فرضهما قسراً على الواقع، سيتعذّب طويلاً، وسيُعذّبُ من حوله طويلاً، قبل أن يفهم استحالة تحويل الواقع إلى مثالٍ، والطوبى إلى واقع تاريخي.

إنّ مشكلة النص الديني أنه لا زمني، فيما نحن زمنيون. لذلك، أفضل لنا أن نغترب عن هذا النص، ولا نغترب عن واقعنا وتاريخنا _ إن كان لا بد من الخيار والاختيار، وإن كان لا بد من حتمية quot; إمّا.. أو quot;. بيد أنّ الأمر ليس كذلك، ولم يكن كذلك دائماً. فثمة خيار ثالث هو الأسلم والأحكم : أن نتعامل مع النص الديني، كحاجة إيمانية لا سياسية. حاجة تلبي النزوع الإنساني، منذ استوطن الإنسان هذا الكوكب الجميل، وشعر بخوفه من المخفي والمجهول. حينها يكون النص الديني، الأرضي منه والسماوي، مجلبة لبعض العزاء أو كله، في رحلة البشر التاريخيين نحو موتهم [ موتهم الذي يعونه، هم وحدهم دوناً عن كل الكائنات الأخرى، والذي يبدأ ما إن تخرج من أفواههم صرخةُ الميلاد الأولى ]

ومع أنّ الكلام أعلاه صار في عداد البديهيات عند معظم شعوب الكوكب، إلا أنه ما يزال غريباً على أسماعنا وأفهامنا، نحن العرب والمسلمين المعاصرين، في العموم.

هم هناك فهموا وظيفة النص الديني، كحاجة وجودية لهم. وتعاملوا معه من هذا المنطلق. تاركين شؤون الحياة للعقل وللاجتهاد العقلي. طبعاً لم يصلوا إلى هذا النوع من الفهم ببساطة ويسر، بل حدث العكس تماماً : احتاجت أوروبا، على سبيل المثال، إلى قرون من الأهوال، لتعرف أنه أكرم لبشرها، وأكرم لدينها المسيحي، أن يُفصل الدين عن السياسة. احترماً للدين وإنجاحاً للسياسة معاً. أما نحن هنا فلم نفهم تجربة أوربا، ورفضناها، مصرين على تدخّل الدين في كل تفصيل من تفاصيل الحياة، وعلى عدم الفصل بينهما. فالإسلام لدينا، وحسب تأويلنا، هو دين ودولة، لا دين فقط. يقول بذلك الإخوان المسلمون، كأعرض تيار سياسي عربي، ويقول به سواهم أيضاً. فما الذي سيحدث ؟ ماذا سيحدث لو وصل هؤلاء إلى سدة الحكم ؟ سيكررون على الأرجح، تجارب غيرهم من الشعوب. وسنقع في أهوال ربما لا يتصور مقدار رعبها أحد.

وهذا الكلام ليس نظرياً فحسب، بل هو مجرّب عندنا، في غير بلد عربي وإسلامي. وأخيراً نحن جرّبناه ها هنا في فلسطين. فحين فازت حركة الإخوان المسلمون في بلادنا، حاول بعض رموزها أسلمة السياسة والاجتماع والفكر والاقتصاد [ بل وصل بهم الشطط أخيراً إلى الفلكلور ! ] لكنهم فشلوا وخاب مسعاهم، لألف سبب وسبب. بيد أنهم لم يسكتوا، وحاولوا أسلمة الوزارات التي أخذوها، بتحبيذ أن تلبس الموظفات غير المتحجبات الحجاب، توطئة للبس النقاب في المستقبل، حين يُمكّن لهم. ولم يحرزوا ههنا أيضاً كبير نجاح، ذلك أنّ المجتمع الفلسطيني برمته، كان قد سبقهم إلى لبس الحجاب والنقاب.

الأهم من كل هذا، هو أنّ حماس، بتسييسها للدين، جلبت لنا حصاراً سياسياً واقتصادياً فادحاً، كان يمكن لها ألا تجلبه، لو تعاملت بحنكة السياسي الدنيوي لا الديني المسيّس. لكن أنى لحماس ألا تفعل ما فعلته، وهي المؤمنة بعدم جواز فصل الدين عن السياسة ؟
إنّ مشكلة المتأسلمين الحاليين، أنهم جعلوا من النص الديني أيديولوجيا. وراحوا، في أكبر عملية تزوير وتلفيق تاريخية، يفتشون عن الماضي، لإعادة إحيائه وتلبيسه على جسد الحاضر. لقد أدلجوا المقدس، وأنزلوه لكي يحاكم كل تصرف وسلوك ورأي على الأرض. بينما الحياة على الأرض، وفي عالمنا الثالث بالذات، لا تحتمل هذا النوع من التحويل الكارثي. فما بالك ببلادٍ تعيش ما زالت تحت احتلال ؟

إنّ لدينا ألف مشكلة ومشكلة. وآخر شيء نحتاجه هو تحويل الدين إلى أيدولوجيا. فالدين حين يؤدلَج، يثقل حامله بالاغتراب والاستلاب، فلا يعود هذا الحامل البشري سوياً، ولا يعود قادراً ولا مهيئاً لقراءة وفهم مجريات وتعقيدات الحياة والدنيا من حوله.
إنه فقط يدخل زمن العماء. يضيع في صغائر الأمور، ولا يهتم بكبائرها. فعقله دخلَ القالب الإسمنتي، وهيهات له من خروج !
أي حدث معه ما يحدث غالباً مع كل من يعتنق أيدولوجيا، سيان كانت دينية أو دنيوية، فلا يعود يرى إلا من خلال عينها العوراء، وفي أحايين كثيرة : العمياء.

النص الديني مغترب بطبيعته عن الواقع. وحامل النص الديني مغترب عن الواقع بالنتيجة والضرورة. فهل هذا هو حقاً ما تحتاجه شعوبنا الرازحة في التخلف والعطالة منذ دهور؟

هل هذا هو حقاً ما نحتاج، نحن الجوعى والغرقى والعائشين حياتنا عالّة على غيرنا من الشعوب ؟
إننا مرضى هذا العالم. وبدل البحث عن علاج، يذهب بعضنا إلى مزيد من المرض، فيُسيّس الدين، ويجعله أدلوجة له ولغيره من الناس. وكأنّ في ذلك، يكمن الحلّ. مع أننا نعرف، ومن خلال التجربة والبرهان، أنّ في ذلك تكمن فقط المشكلة.

لذا لن نمل ولن نتراجع، ولو قلناها وقالها غيرنا للمرة المليون لا الألف، بأنه يجب فصل الدين عن الدولة : فصل المقدس عن الدنيوي. وعدم الخلط والتخليط بينهما. ففي ذلك مصيبتنا وبلوانا. ويكفينا ما فينا من المصائب والبلايا.

ولكي نبدأ في هذه المهمة التاريخية، الأصعب والأوعر، لا بد من إشاعة ثقافة التنوير، وتعزيز تيارات العقلانية في المجتمع المدني. بحضّ الناس على التفتيش في حاضرهم ومستقبلهم لا العكس. فالماضي مضى وانقضى، ولا جدوى من إعادة إحيائه وتلبيسه على جسد الحاضر. فليست هذه العملية سوى ضرب من التزوير والتلفيق.

من هنا نبدأ : فصل المقدس عن الأرضي. ومحاولة إفهام الناس أنّ عملية الفصل هذه، بالتوازي مع عمليات أخرى، هي لتحقيق مصالحهم الحيوية، أولاً وأخيراً.
أجل : إنّ مطلب الفصل هذا ضروري ضرورة الأكسجين للحياة.
ضروري لعرب اليوم، أكثر من أي وقت مضى.
وإلا فالمزيد من المرض : المزيد من السواد : المزيد من الموات، وصولاً ربما إلى الموت الجماعي عينه وذاته !