الحوار بين الثقافات بات اليوم العنوان الأبرز للكثير من المؤتمرات والندوات التي تُعقَد هنا وهناك، لمواجهة أطروحة quot;صدام الحضاراتquot;. و أصبح عنوانه quot;الشعارquot; أو quot;الكليشيهquot; الذي يمكن وضعه في معظم المنتديات الفكرية، لدرجة أنه استُهلِك وأفرغ من مضمونه ومحتواه في كثير من quot; الحواراتquot; التي أضحت عبارة عن quot;شجاراتquot;.

و يأخذ الحوار الحضاري بكل أبعاده وأشكاله البعد الأساسي في عملية فهم التاريخ فهماquot; واعياquot;، على اعتبار أنه ذاكرة الأمم ومخزون تراث التراكم الحضاري وهو الوسط الكرونولوجي الذي عبره تمت الإنجازات الحضارية.
وعندما أعود في ذاكرتي أحداث ومجريات الحلقات الحوارية التي كنت أشارك فيها أواسط التسعينيات أجد عمق الخطأ الفكري والمنهجي الذي كنا نرتكبه كأطراف متحاورة وكنا نستحق لقب quot; أغبياء quot; بجدارة، لأن مرتكزات quot; الحوار quot; ومنطلقاته دوغمائية عقائدية بحتة، فقد كنا ننتمي لطوائف متعددة كل طرف ينظر للآخر على انه quot; شرّ quot; يجب أن يقتلع او أن quot; يُطوع quot;....فالمحاورين quot; الاكارم quot; كانوا يتحاورون من خلف السياج،والخطأ في هذه الحالة مركّب لسببين الأول أن المنطلقات الحوارية هي نصوص quot; مقدسة quot; وبالتالي فهي تُفرض بشكل غير قابل للنقاش أصلا، الأمر الثاني والأخطر هو أنها تطرح على أنها إلزامية وحتمية بحق الآخر، وبالتالي فالأطراف تخرج من الحوار اشد عداءا وأكثر انغلاقًا.
لذلك هناك أمرين لا بد من أن نتنبه لهما في تاريخنا الثقافي قبل البدء بأي حوار إذا أردنا حوارًا.
أولهما : انه كسائر تواريخ الحضارات هو تراكم مستمر وسيرورة مستمرة.
ثانيهما : أن الثقافة التاريخية في ديناميكيتها تفرض نقد الموروث على الصعيد الأيديولوجي.
والأمر الثاني مهم جدا لأنه يحتّم الدخول في تفسير النصوص ( المقدسة ) التي تؤسس لمأسسة الدين و تجليه في جماعات، في الوقت التي تتجه فيه البحوث الحضارية لاعتبار التنوع غنىquot; و مجالا إنسانياquot; للإبداع، لابد من التوجه للتأكيد على أن الترابط والتواصل علاوة على التساند إذا اقتضى الأمر بين الحضارات والثقافات للأمم المختلفة.
وإنني على إيمان أن المشاركة والتواصل الفعال في الأفعال الحضارية والدراسية على المستوى المحلي والإقليمي والعالمي هي الطريقة المجدية لمواجهة تاريخية سلطة المرجعية في الطروحات الاقتصادية والثقافية والاقتصادية.

ولعل الأمثلة التاريخية عن التواصل والتفاعل كثيرة جدا، فقد اطلع الإغريق القدماء على ما عند المصريين والبابليين واخذوا عنهم، واطلع المسلمون على ما عند الإغريق والرومان و الهنود والفرس..واخذوا عنهم، واطلع الأوروبيون في عصورهم الوسطى و أوائل نهضتهم على ما عند المسلمين والإغريق والرومان..واخذوا عنهم، ولولا ذلك ما قامت حضارات واستمرت المعارف والعلوم والثقافات، وإذا كان ذلك حال العصور السابقة فكيف بعصرنا الذي تفجرت فيه العلوم وتكنولوجيا المعلومات ووسائل الاتصال من أقمار صناعية وفضائيات....؟! وهل تستطيع أمة أن تحصن ذاتها وثقافتها إذا انعزلت وانطوت على ذاتها بدعوى الخوف على ثقافتها من الثقافات الأخرى ؟

واليوم أستطيع أن أجادل و أقول أن موجة من التغيير آخذة في الحدوث، وان تحولا- شئنا أم أبينا ndash; بدأ يعم كل أنحاء الكرة الأرضية في كافة المرافق الاجتماعية والثقافية، وباعتقادي هذه الفترة أحوج ما نحتاجه فيها إلى الحوار الفاعل لإيجاد عولمة توافقية تساهم كل الحضارات في صياغة ملامحها، وتكمن أهمية مشاركة الجميع في توفير الظروف المناسبة لنجاحها والخيار الأفضل -بنظري ndash; هو الأخذ بالتوافق كوسيلة وحيدة لتحقيق الانسجام بين الحضارات، بين الدول المتقدمة والنامية لتحقيق التنمية المطلوبة والتي لابد منها لأنها هي الوحيدة التي توفر الظروف النفسية والاجتماعية و....للاستقرار و التعاون من اجل البناء....

واليوم تشهد الساحة العالمية لحظات مفصلية مهمة في كل أنحاء الأرض دون استثناء وخصوصا في المشهد العراقي والمشهد الفلسطيني والمشهد اللبناني.

فلبنان اليوم يشهد حِرَاكًا سياسيًا و quot;حوارًاquot; بين القوى quot;السياسية quot; المتنافرة والمحتوى quot;الطوائفي quot;، وإننا نأمل أن يكون هذا الحوار تجسيدًا حقيقياً و جديداً لوعي مغاير لدى اللبنانيين، من حيث علاقتهم بأصولهم الثقافية وخصوصياتهم المتنوعة، إن في الدين أو الطائفة أو العرق، ولكنّ عمليّة صياغة المفاهيم الحقيقية تعود الى مؤسسي الثقافة، ومنتجي الإبداع الفكري من quot;الفلاسفة والعلماءquot;، لا إلى quot;الساسةquot; وquot;ملوك الطوائفquot; وquot;أرباب الكراسي quot; بأنهم دخلوا ما يسمى بالحوار لحماية quot; مقدسهم quot; الفكري من جهة ولحماية مصالحهم الدنيوية فأين الحوار الحقيقي ؟؟؟؟؟
فالفلاسفة المبدعين هم الذين يستطيعون أن يساهموا بشكل فاعل في إطلاق الأفكار، وخلق النقاشات الجادّة، التي من شأنها أن تؤدي الى تجديد فعلي في الفلسفة السياسية،والى إعادة النظر في منظومة المفاهيم المتعلقة بالحقوق الأساسية للأفراد، وهم الأقدر على التفكير في اللامفكر فيه و المسكوت عنه في اللاوعي المجتمعي.

وإذا كان لبنان هبة التنوع و الاختلاف، من حيث تركيبته الطائفية المتعددة والفريدة؛فإن أحوج ما نحتاجه هو إتقان لغة الحوار، القائم على التمرُّس بسياسة الاعتراف ب quot;الآخر quot; من جهة، و على اعتباره مساويًا من حيث الحقوق والحريّات من جهة أخرى، لأن طرح مفهوم quot;التعدديةquot; التي هي أساس الحوار، لا تعني فقط الإقرار بالاختلاف والتنوع والتعدد داخل المجتمع الواحد، وإنما ينبغي أن تتخطى ذلك في مفهومها؛ بحيث تَقبل الآخر بوصفه مختلفا عنها بخصوصياته و تعتبره موازيًا ومكافئًا لها من حيث الحقوق الأساسية، وذلك من خلال فتحquot; الهوية الفرديةquot; على كينونتها المجتمعية، وأبعادها الثقافية، بحيث تُطرَح الهوية بمعناها المركّب التعددي، فيصبح quot; الآخرquot; رافداً لها يُغني ثقافتها، أو الوجه الآخر الذي تدفنه وتخفيه ولا تعترف به، أو الهدف الذي تتمنى الوصول إليه ولا تقدر عليه، ويُصبح كل ما يحمل هذا الآخر من مخزون حضاري ممكن أن يدخل ويمتزج مع الهوية فيغيرها ويطورها أو لا يطورها، وهنا لا يعود نفي الآخر جزء من منظومة بناء الهوية بل يصبح الآخر موجود قائم داخل كينونة الذات.
فعلى كافة أطياف الشعب العراقي واطياف الشعب اللبناني أن يكونوا على درجة من الوعي لتشكيل وحدة حضارية ذات فسيفساء ثقافية متعددة للعيش بسلام وينبغي على إدارات الدول quot; الأقوى quot; أن تعي أن العالم لا يقبل عولمة السيطرة والتقلب والأحادية... لأنها ستفشل بالتأكيد، فالتعددية مطلوبة في مجال الثقافات والحضارات لأنها تغني التجربة الإنسانية، والحوار هو أداتها لتحقيق منظومة اوموجانية system) homogeneous) للعيش في ظل صياغة عادلة توفر للجميع الحقوق القانونية والإنسانية.....لتحقيق الأمن والسلام.


كاتبة لبنانية
[email protected]
http://marwa-kreidieh.maktoobblog.com