لم يختر أحد في البلاد العربية والإسلامية دينه. كلهم على دين آبائهم يولدون. وكأن دين الآباء قدر لا يمكن الفكاك منه، فهم مكروهون مجبرون لا يملكون في بلادنا حق الاختيار وحرية التغيير، سواء أعجبهم هذا الدين ووافق ضمائرهم، أم لم يعجبهم، ولم يوافق ضمائرهم.
وإذا كانت بعض المذاهب والديانات في المنطقة العربية قد خرق أتباعها هذا العرف الديني وفتحوا كوة في الجدار الأصم، دون أن ينالهم أي مكروه، فإنما ذلك بسبب افتقاد هذه الأديان لقوة القانون الذي يحميها من التسرب، ويمنع تابعيها من الانسحاب منها، أو التحول لدين آخر. وبسبب عدم امتلاكها نصوصا دينية تمنع الملحقين بها، من حق اختيار وتبديل ديانتهم، أو تعاقبهم بسبب ممارسة هذا الحق وهذه الحرية.
وحده دين الإسلام ما زال منيعا، عصيا على من يرغب من أتباعه في ممارسة حقه وحريته في الانسحاب منه، أو اختيار ديانة أخرى تتوافق مع قناعاته، مستندا في رفضه هذا إلى قوة القانون الوضعي، وإلى حروب الخليفة الأول ضد القبائل التي رفضت دفع الزكاة، وضد القبائل التي ارتدت عن الإسلام، كسابقة يمكن الاقتداء بها والبناء عليها. ومستندا أيضا إلى حديث- لا آيات قرآنية- منسوب للرسول يحرم على المسلم أن يعلن انسحابه من ديانته، أو تبديلها بدين آخر، ويحكم عليه بالموت إن فعل.
لم يكن موقف القبائل التي رفضت دفع الزكاة موقفا معاديا للإسلام، بل موقفا رافضا أن تتحكم قريش بالأموال التي يدفعونها على سبيل الزكاة، وقد شهدوا جميعا حين هاجمهم خالد بن الوليد: أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله. ولم يقتل من الأسرى، سوى مالك بن نويرة وبعض رفاقه، بسبب جمال زوجته ليلى، ورغبة خالد بن الوليد فيها، فقد كانت ليلى بنت المنهال أم تميم زوجة مالك من أشهر نساء العرب بجمالها لاسيما جمال العينين والساقين. وقد أنكر عمر بن الخطاب على خالد بن الوليد قتله مالك بن نويرة، وبناء خالد بليلى زوجة مالك في نفس الليلة التي قتله فيها. وألح على أبي بكر الصديق بعزله وقال: quot;عدو الله عدا على امرئ مسلم فقتله ثم نزا على امرأتهquot; (نزا الذكر على الأنثى= سفدها).
و حين دخل خالد المسجد في المدينة بعد عودته و كان قد غرز في عمامته أسهما كنوع من الفخر والغرور quot;قام عمر فانتزع الأسهم من عمامته فحطمها ثم قال: quot;أرثأ (أحمق، قليل الفطنة) قتلتَ امرأً مسلما ثم نزوت على امرأته والله لأرجمنك بأحجاركquot; الطبري 3/280
لقد كان لردة القبائل التي حدثت مباشرة بعد وفاة الرسول، وهددت حياة الدولة الإسلامية الوليدة التي تتزعمها قريش، والتي كانت في طور التأسيس، ويقضي عليها أي تخلخل في صفوفها، كان لها أثرا كبيرا في ظهور هذا الحديث، لحماية وتثبيت أركان هذه الدولة الإسلامية الناشئة، هذا أولا، ولتبرير هذه الحرب ثانيا، ولقطع الطريق في المستقبل على كل من تسول له نفسه إعادة الكرة والانقلاب على الدولة.
إن تمرد تلك القبائل (المرتدة) كان في أكثره تعبيرا عن رفض هذه القبائل الخضوع لأي رجل آخر غير الرسول الذي توفاه الله، ورفضا لرئاسة قريش وسيادتها عليهم، ولولا رغبة قريش في توسيع نفوذها وسيادتها باقي القبائل، لما كانت هذه الحرب. فالأمر سياسي أكثر مما هو ديني.
إن الظروف التي كانت قائمة قد تغيرت الآن، والأسباب التي كانت تستدعي اللجوء والاستناد إلى هذا الحديث لم تعد موجودة حاليا، فالدولة الإسلامية قامت وانتهت، وإن كان ثمة انسحابات من الدين الإسلامي، أو ارتدادات، فهي فردية لا جماعية، ومحصورة في إطار ضيق جدا، وأسبابها في أغلب الأحيان شخصية.
من بدل دينه فاقتلوه
ذلك هو الحديث الذي ينسبونه للنبي، ويستندون إليه في إنزال عقوبة الموت في المسلم الذي ينسحب من دينه الذي أورث له. ولا يوجد في القرآن الكريم ما يسند هذا الحديث المنسوب للنبي، كما لا يوجد في المصحف أيضا أي حد أو قصاص يمكن إنزاله بالمرتد. بل على العكس من ذلك فإن القرآن الكريم يقول- إلا إن كانت هذه الآيات قد نُسخت وأُبطل العمل بها: (لا إكراه في الدين قد تبين الرشد من الغيndash; البقرة 256) ويقول: (فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفرndash; الكهف 29) ويقول: (ولو شاء ربك لآمن من في الأرض كلهم جميعا أفأنت تكره الناس حتى يكونوا مؤمنينndash; يونس 99) ويقول: (يا أيها الذين آمنوا عليكم أنفسكم لا يضركم من ضل إذا اهتديتم إلى الله مرجعكم جميعا فينبئكم بما كنتم تعملون- المائدة 105) ويقول: (ولا يحزنك الذين يسرعون في الكفر إنهم لن يضروا الله شيئاndash; آل عمران 176) ويقول: (إن الذين اشتروا الكفر بالإيمان لن يضروا الله شيئا ولهم عذاب أليم- آل عمران 177) ويقول: (ومن كفر فلا يحزنك كفره إلينا مرجعهم فننبئهم بما عملوا إن الله عليم بذات الصدورndash; لقمان 23) ويقول: (من يرتد منكم عن دينه فسوف يأتي الله بقوم يحبهم ويحبونهndash; المائدة 54) ويقول: (إن الذين كفروا بعد إيمانهم ثم ازدادوا كفرا لن تُقبل توبتهم وأولئك هم الضالونndash; آل عمران 90) ويقول: (.... ومن يرتد منكم عن دينه فيمت وهو كافر فأولئك حبطت أعمالهم في الدنيا والآخرة وأولئك أصحاب النارndash; البقرة 217). فهل نُسخت هذه الآيات وأُبطل العمل بها؟ وهل هناك أوامر وأحكام أقوى وأعظم وأصدق من أوامر وأحكام القرآن الكريم، الذي أعطى الحرية كل الحرية للناس والمسلمين أن يختاروا بين الكفر والإيمان دون أي عقوبة من السلطات البشرية، سوى عقوبة الآخرة الذي اختص بها الله وحده لا شريك له.
لقد منع النبي أحدا من المسلمين أن يدوّن أقواله، كي لا يتم الخلط بين كلامه وكلام الله، لأنه بشري أرضي، وكلام الله سماوي إلهي، وجميع الأحاديث المنسوبة للنبي كُتبت بعد أكثر من مائتي عام على وفاته، أي أنها كُتبت قيلا عن قال، واعتمادا على الذاكرة والنقل الشفهي. ولا يمكن للذاكرة الشعبية أن تحفظ عبر العصور بدقة متناهية عشرات الآلاف من الأحاديث لمدة مائتي عام كما لفظها الرسول دون زيادة أو نقصان أو نسيان، إلا إذا كانت هذه الأحاديث مدونة ومكتوبة. وهي لم تكن مدونة ولا مكتوبة.
ولأن أحاديث الرسول لم تكن مدونة، فقد اختلفوا فيما بينهم عليها (دون أن يتهم أحدهم الآخر بضعف إيمانه، أو خروجه عن الإسلام الصحيح) اختلف من هم ألصق الناس قاطبة بالرسول، ولم يكن قد مرَّ على وفاته سوى أيام معدودة، فكيف إذن مائتي عام؟! لقد قال بنو هاشم في مبايعة الصديق أن النبي أوصى في مناسبات عدة، وخاصة في خطبة الغدير أن يكون صهره وابن عمه علي بن أبي طالب خليفته من بعده، لكن أبا بكر الصديق وعمر بن الخطاب ورفاقهما الأبرار من كبار الصحابة لم يقبلوا هذا الكلام. ولو لم يختلفوا على صحة نسب هذا الحديث- الوصية، إلى الرسول، لأطاعوا النبي وبايعوا عليا، أو لبايع الهاشميون وفاطمة أبا بكر الصديق!.
عندما قالت ابنة الرسول فاطمة إن والدها قد نحلها (فدك) وطالبت بحصتها من غنائم خيبر باعتبارها ابنة الرسول، و(سهم الخمس لله وللرسول ولذوي القربى) احتج عليها الصديق بحديث للرسول يقول فيه إن الأنبياء لا يورثون. فردت عليه بآيات من سورة مريم تروي ما قاله زكريا حين نادى ربه راجيا أن يهبه ولدا يرثه ويرث آل يعقوب (قال رب إني وهن العظم مني واشتعل الرأس شيبا ولم أكن بدعائك رب شقيا وإن خفت الموالي من ورائي وكانت امرأتي عاقرا فهب لي من لدنك ولدا يرثني ويرث من آل يعقوب واجعله رب رضيا- سورة مريم 4-6) لكن الصديق طالبها بشهود يؤيدون صحة ادعائها بأن الرسول قد نحلها ما نحلها! ومن أين لفاطمة شهود على الأحاديث التي جرت بينها وبين أبيها سوى أم أيمن القريبة من الرسول، والتي شهدت بصحة ذلك، فطالبها الصديق بشاهد تكون شهادته مقبولة شرعا، فشهادة أم أيمن نصف شهادة لأنها امرأة.
وللتوضيح فقط، فقد ظل قادة قريش يتوارثون (فدك) حتى وصلت إلى الخليفة عمر بن عبد العزيز، فتنازل عنها إلى ورثة فاطمة، أحفاد الرسول.
لقد اختلف الصديق مع فاطمة بشأن ما قالت أن أبيها قد نحلها إياه. كما اختلف الخطاب والصديق مع علي وبني هاشم على قول منسوب للرسول بخلافة علي، وإذا كان الصديق لم يقبل ما قالته فاطمة نقلا عن أبيها الرسول، كما لم يقبل الفاروق والصديق ما قاله بنو هاشم بخصوص خلافة علي منقولا عن الرسول، الذي لم يكن قد مضى على وفاته سوى أيام معدودة. أي أن النسيان لم يكن قد فعل فعله في الأذهان بعد. فكيف يؤكد لنا رواة الأحاديث النبوية، المنقولة (عن..وعن.. وعن.. وعن.....الخ) دقة وصحة ما نقلوه من أحاديث ونسبوها للرسول، بعد مائتي عام على وفاته؟ كما لا يخفى على أحد أن أم المؤمنين عائشة قد رفضت عددا من الأحاديث التي نقلها أبو هريرة، وكثيرا ما صححت له ما كان ينسبه من أقوال للرسول، دون أن يعترض، أو يدافع عن قوة ذاكرته!
ألا يمكننا القول إذن أن الخلافات السياسية قد لعبت دورا كبيرا في اختلاق ما يساندها من أحاديث؟ كما لعبت الخلافات والتوجهات الدينية والمذاهب دورها أيضا في توليد الأحاديث التي تؤكد وجهة نظرها. ولهذا فإن بعض علماء المسلمين يطالبون بمطابقة هذه الأحاديث مع آيات القرآن الكريم، وحذف كل ما ليس له سندا فيها.
قالت الأعراب آمنا قل لم تؤمنوا ولكن قولوا أسلمنا ولما يدخل الإيمان في قلوبكم ndash; الحجرات 14
لن يخسر الإسلام والمسلمون شيئا إذا أعادوا التدقيق في صحة نسب هذا الحديث (من بدل دينه فاقتلوه) سوى المنافقين الذين يشكلون عبئا عليهم، ويشوهون صورة الإسلام والمسلمين، عن قصد أو غير قصد، بسلوكهم وأعمالهم وتعاملهم مع الناس. وعلى العكس من ذلك، فإن التخلص من شوائب الجسم ضرورة واجبة للحفاظ على الصحة والحياة السليمة الخالية من الأمراض. وسينسجم ذلك مع الأحكام الإلهية، وحرية الاعتقاد، وحقوق الإنسان، التي كرسها الله في آيات القرآن الكريم المشار إليها أعلاه. وسيفرض ذلك على رجال الدين، أن يكونوا أكثر قربا، وأكثر اهتماما بالإنسان الذي أهملوه باعتباره مجبرا على البقاء على دينه، كما سيفرض على المؤسسة الدينية أيضا إعادة بناء ذاتها، وتطوير نفسها، لتكون أكثر قدرة على التوائم مع إنسان هذا العصر، وإعادة تأهيله ليكون أقدر على مواجهة تحديات العصر ومشاكل الحياة.
إن بعض الناس يتظاهرون بما ليسوا فيه، ويجعلون من الدين وسيلة للتكسب وخداع الآخرين، أو غطاء يسترون به عوراتهم، ومقاصدهم الخبيثة. والملتزمون بأحكام وتعاليم أديانهم قلة قليلة. وأكثرية الناس لا تعرف من دياناتها سوى بعض الشعائر الدينية التي تمارسها، وغالبا ما تكون هذه الممارسة في المناسبات. وهي غير قادرة على معرفة أكثر من ذلك، بحكم ثقافتها أو مشاغلها أو بسبب عدم رغبتها واهتمامها. إلا من به رغبة أن يتعلم ويعلم، وهؤلاء قلة.
بقي أن نذكر أن المسلم بالوراثة إذا ارتد عن دين الإسلام يُقتل دون استتابة. أما من كان غير مسلم واعتنق الإسلام، ثم ارتد عنه، فإنه يستتاب ثلاثة أيام، فإن عاد إلى رشده، رحم نفسه وأنقذ رأسه.
التعليقات