حتى هزيمة يونيو 1967 كانت مصر تصدّر الثقافة والفنون والتجارب الحضارية للمنطقة، حتى استحقت عن جدارة الريادة بما يعرف بـ quot;القوة الناعمةquot;، وهنا ننبه إلى أن المجتمعات والبشر كالنخيل لا تثمر بين عشية وضحاها، فما حصدناه في الخمسينات والستينات زرعه الآباء في الثلاثينات والأربعينات، وبالتالي لم يكن لمشروع العسكر وانقلابهم أدنى فضل في هذه الريادة، بل على العكس كان عبئاً عليها، وامتطاها ليصدر الانقلابات العسكرية والاستبداد إلى عدة بلدان وشعوب أخرى في المنطقة .
أما ما نجنيه اليوم فهو ما زرعه العسكر، الذين حولوا مؤسسات الدولة إلى quot;ثكناتquot; لا تملك قرارها، وجعل رجالات الأمة مجرد سكرتارية ليس لهم قرار بالأساس، ولعل ما نسب لوزير بارز أطيح به في ترتيبات التخلص من الحرس القديم كان معبراً تماماً، إذ دافع عن نفسه حين حاصرته الصحافة قائلاً quot;نحن لم نكن أكثر من سكرتارية ننفذ توجيهات الرئيسquot;، وبعده قال آخر quot;السياسة الخارجية يصنعها الرئيس وننفذهاquot;.
هذه الصيغة تشخص بدقة حالنا الراهن، فقد تحولت مصر بفعل احتكار السلطة بيد شخص واحد إلى كيان هشّ، يعاني ضموراً في الرأس وتورماً بالأطراف، ولعل المشهد الدبلوماسي هو المثال الصارخ لتردي أحوالنا، فالدبلوماسية المصرية التي طالما كانت اللاعب والمحرك الأكبر لأي ترتيبات سياسية بالمنطقة، أصبحت مجرد quot;متعهد مؤتمراتquot; يقتصر دورها على إرضاء الزبائن وترتيب المراسم، دون أدنى مساهمة فعلية في أجندة هذه المؤتمرات، أو تأثير يذكر على أطرافها، ففضلاً عن اللاعبين الدوليين الذين لا يسمح المرء لطموحه بمنافستهم، فهناك لاعبون إقليميون يضطلعون بأدوار باتت القاهرة تتوارى أمامها خجلاً .
ولا مفر هنا من الاعتراف بأن القرار الإقليمي أصبح الآن بيد السعودية، إذ جمعت الفرقاء الفلسطينيين، ثم السودانيين وتشاد، وقبلها تدخلت لحل أزمة لوكيربي مع ليبيا، ناهيك عن هيمنتها على وسائل الإعلام الأكثر تأثيراً، وبالتالي فرضت أجندتها الثقافية على الجميع، وفي سبيل تحقيق هذا استغلت أدواتها باقتدار، فاستخدمت المرجعية الدينية والاقتصاد المزدهر والكفاءات، ومع ذلك لا يمكن لأي مراقب أن يصف وزير الخارجية سعود الفيصل بأنه مجرد سكرتير الملك، إذ تبقى quot;المقامات محفوظةquot;، فالاحترام لا يعني الانسحاق، لهذا سحبت البساط من تحت أقدام مصر، التي أخشى أنها لم تعد تملك سوى المكابرة والكذب والتباهي بمجد بائد، لا يبدو أننا على حالنا الراهن نستحقه، بعد أن تولى أمرنا الأسوأ والأقل كفاءة، والأكثر فساداً واستبداداً، بينما يجري تهميش كل من تفوح منه رائحة الكفاءة أو الموهبة.
وليت الأمر توقف عند حدود السعودية، بل رأينا ليبيا تتصدى لحل أزمة دارفور، بينما يعرف الجميع أن quot;العقيدة الدبلوماسيةquot; المصرية تتعامل مع السودان باعتبارها quot;قضية داخليةquot; ومنطقة محظورة على أي دولة عربية أو أفريقية، وكان مخزياً ومحزناً ألا يصبح بوسع مصر سوى إيفاد وزير خارجيتها ورئيس مخابراتها للخرطوم، وتعمم وسائل الإعلام الحكومية خبراً سخيفاً يستهل بعبارة مفادها أن الرجلين quot;يحملان رسالة من مبارك لأخيه البشيرquot;، فأي استخفاف هذا بكبار رجال الدولة حتى يجري تصويرهم كأنهم سعاة بريد ينقلون الرسائل، وليس مقبولاً هنا أن يزعم quot;المبرراتيةquot; بأنها مقتضيات اللغة الدبلوماسية وعدم الإفصاح عن طبيعة هذه المهام الحساسة وغيرها من المبررات الممجوجة، لكننا لم نسمع بأن رايس كلما ذهبت في مهمة خارجية أنها تحمل رسالة من بوش، وهذا بالطبع لا ينتقص من قدر الرئيس، لكنه ينتقص من قدر الوطن أن نختزله في شخص أوحد، وأن نحول كل من سواه إلى مجرد سكرتارية وسعاة .
ورغم استضافة مصر لمؤتمري العراق واضطلاعها بمهام خدمية وترتيبات إدارية وأمنية لرعاية الوفود المشاركة وافتتاح وزير خارجيتها للمؤتمر لاعتبارات البروتوكول، لكن أحداً لن يصدق أن لدى مصر أوراقاً ذات قيمة في المسألة العراقية، مقارنة بأوراق إيران أو سورية أو السعودية ناهيك عن أميركا، والسبب ببساطة هو ذاته السبب الذي حمل الفلسطينيين إلى مكة، وجمع السودانيين وجيراننا الأفارقة في quot;سرتquot;، وهو أن هناك من أحال مصر على التقاعد، وأفقدها حيويتها، وأضاع زمام المبادرة من يديها، وأضعف قدرتها على الإبداع والحضور الفاعل حتى في القضايا التي تمس مصالح شعبها بشكل مباشر .
وبعيداً عن الأكاذيب الحكومية التي تمارس حتى أعلى المستويات، والتي يبدو أننا مجبرون على تصديقها، وإلا أصبحنا quot;خونة وحاقدينquot; فإن مصر التي سخرت كل طاقاتها لمعضلة التوريث، ومحاولات الالتفاف على الإصلاح السياسي، وتمرير حزمة من القوانين المريبة بطريقة عبثية، لابد أن يتراجع دورها ويتقزم لدرجة تقبل معها دور متعهد الأفراح والمآتم والمؤتمرات، في quot;فراشة شرم الشيخquot; لصاحبها الأوحد إياه.
[email protected]