واقع فلسطيني قائم لسنوات طويلة

استقرت الأوضاع الأمنية بشكل واضح وملموس في قطاع غزة لصالح حركة حماس، بعد نجاح انقلابها العسكري المحكم الذي قادته بشجاعة ودهاء كبيرين، لم نشهد نسبة بسيطة منها في مواجهتها لجيش الاحتلال الإسرائيلي، وقد استحق هذا الانقلاب الناجح صفة ( النصر الإلهي ) و ( التحرير الثاني ) للقطاع حسب الناطقين الرسميين باسم الحركة، حيث أوضحوا لنا نحن الجماهير الغفورة الغفيرة، أن التحرير الأول للقطاع كان عام 2005 من الاحتلال الإسرائيلي، والتحرير الثاني من عملاء إسرائيل وخونة حركة فتح والسلطة الفلسطينية وزعيمهم محمد دحلان. أهم المظاهر التي رافقت هذا التحرير الثاني والأخير:
أولا: السيطرة الكاملة على كافة المقرات الأمنية والإدارية والتنظيمية للسلطة الفلسطينية وحركة فتح مع تخريب للمقرات وعبث بمحتوياتها، بما فيها منزلي الرئيسين ياسر عرفات ومحمود عباس، وكأنها مقرات ومكاتب للاحتلال الإسرائيلي في داخل إسرائيل، لأنها أساسا لو كانت تابعة للاحتلال في القطاع فلا يجوز تخريبها بعد تحريرها لأنها ستكون ملك للشعب أو للجهة التي أنجزت مهمة التحرير.
ثانيا: القتل والإعدام المتعمد لبعض قيادات حركة فتح كما حصل في إعدام سميح المدهون بشكل غير مسبوق وسط فرح عارم في أوساط حماس ما زال يتفاعل هذا الفرح ويعبر عن نفسه في وسائل إعلام الحركة الورقية والإليكترونية والفضائية، والدليل على ذلك ذكر نموذج واحد من هذا الإعلام، وهو الخبر الذي نشرته الصفحة الخاصة ب تلفزيون الأقصى على الرابط التالي: www.aqsatv.ps.new/news_print.asp?id=1096

فقد جاء الخبر المنشور يوم الرابع عشر من يونيو الماضي تحت عنوان: ( مقتل العميل المجرم سميح المدهون في مدينة غزة والذي أهدر دمه اليوم من قبل رئيس رابطة علماء فلسطين )، وهذا العنوان يبشر ببداية الخير الذي سينتشر في إمارة حماس وهو فتاوي التكفير وهدر الدم، استنساخا دقيقا لتجربتي طالبان في أفعانستان والمحاكم الإسلامية في الصومال. وقد جاء في مطلع البيان الإيماني: ( تمكنت كتائب الشهيد عز الدين القسام الذراع العسكري لحركة حماس من قتل وتصفية العميل المجرم سميح المدهون والذي مارس الحراب والفساد وحرق منازل الآمنين، وذلك بعد أن قامت بمحاصرته في برج مشتهى في حي تل الإسلام بمدينة غزة. وأفادت مصادر خاصة.. على أن كتائب القسام تمكنت أيضا من محاصرة المجرم منصور شلايل في البرج نفسه، يذكر أن العالم الدكتور مروان أبو دبس رئيس رابطة علماء فلسطين قد أهدر دم المدعو المدهون وذلك في أعقاب ممارسته أعمال الحرابة والسطو على منازل الآمنين )، تماما مثل عمل المحاكم الإسلامية في الصومال وسابقا طالبان في أفغانستان. ومن المعروف ووزع بيانات وصورا أنه تم قتل جمال شلايل وقذف جثته من الطابق الثامن عشر في البرج نفسه، بينما حتى اليوم وبعد ما يزيد على عام مازال الجندي الإسرائيلي المحظوظ المدلل ( جلعاد شاليت ) الذي خطف في الرابع والعشرين من يونيو لعام 2006 حيا يرزق ويعامل باحترام، ومن حين إلى آخر ترسل كتائب عزالدين القسام الحماسية التأكيدات بأنه حيّ وصحته جيده ويعامل بكرامة وإنسانية، وأعلن قبل ساعات أن ( جيش الإسلام ) قام بتسليم الجندي جلعاد لحركة حماس، وهذا ما يبشر بقرب الإفراج عنه، كما تمّ في مسرحية إطلاق الصحفي البريطاني جونستون الذي قالت حماس أنها حررته من جيش الإسلام، والإفراج عن جلعاد سيكون رسالة حسن النية الثانية من حماس. تصوروا هذا الزمن الفلسطيني المدهش في روعته من خلال المقارنة بين كيف يعامل الفلسطيني شقيقه وجاره وابن عمه وكيف يعامل جندي جيش الاحتلال؟.
ثالثا: تقوم حركة فتح في الضفة الغربية أيضا بحملة تطهير ضد أعضاء حركة حماس، تشمل اعتقالات وطرد وسجن لوزراء وأعضاء مجلس تشريعي وأساتذة جامعات، وحرق ونهب محلات تجارية تابعة لحماسيين. وقد وصل التصعيد إقالة الرئيس عباس لحكومة حماس برئاسة الشيخ أبو العبد ( إسماعيل هنية )، ورفض أبو العبد للقرار مستمرا في مسئولياته في غزة فقط، إذ أعلن محمود عباس تشكيل حكومة طوارىء برئاسة وزير المالية السابق سلام فياض، وحسب مفهوم فتح والسلطة الفلسطينية فهي حكومة طوارىء لكل المناطق الفلسطينية في القطاع والضفة، ولكنها لا تمارس صلاحياتها ( إن وجدت ) إلا في الضفة، في حين رفضت حماس هذه الحكومة ووصفتها بأنها غير شرعية، وأصدرت كتائب القسام الحماسية بيانا وصفت فيه سلام فياض بأنه خائن وأهدرت دمه، وردّت كتائب شهداء الأقصى الفتحاوية محذرة ومهددة الحماسيين من المساس بسلام فياض.
وفي مجال الرد على الاتهامات باتهامات مقابلة والشتائم بشتائم أكثر وساخة، فلسان إعلام فتح ليس أقصر من لسان إعلام حماس، فاللسانان يستعملان نفس معجون الأسنان، وكمثال للتسلية فقط، هذا نموذج مما جاء في ملتقى الشباب الفتحاوي على الرابط التالي: www.fatehnews.net
وتحت عنوان ( إنهم قوم عاثوا في الأرض بغيا فاذبحوهم )، ورد تقديم قيادات حماس كالتالي: (مغول العصر قاطعوهم: مشعل الفتنة خالد مشعل، الفاسق القرعن ( لا أعرف ما معناها ) سعيد صيام، المجرم محمود الزهار، الزنديق الأكبر إسماعيل هنية، الجرد الكبير أسامة حمدان، الكذاب الأول سامي أبو زهري ). وختمت هذه التوصيفات بدعاء ( الله يحرقهم كلهم وما يخلي ولا حمساوي ).

إذن الواقع الفلسطيني:
أمام حكومة حماس التي تسيطر بشكل أحادي كامل على قطاع غزة دون وجود لحركة فتح أو السلطة الفلسطينية، وحكومة طوارىء في الضفة الغربية فقط ولا وجود أو تأثير لها في قطاع غزة، وكلتا الحكومتان لا يعترفان ببعض، وحركة فتح والسلطة الفلسطينية ترفضان أي حوار مع حماس إلا إذا أعادت الأمور كما كانت قبل انقلابها واعتذرت عن كافة أعمالها وتم تقديم المسؤولين فيها للمحاكمة، وكافة الدول العربية والأوربية والأمريكية وإسرائيل لا تعترف صراحة إلا بالسلطة الفلسطينية وحكومة الطوارىء، وبدأت تقديم المساعدات المالية لها مما سمح لها قبل أيام قليلة بصرف راتب شهر يونيو الماضي لكافة موظفي الضفة الغربية مستثنية أعضاء وكوادر حماس والمتعاطفين معها وحوالي ثلاثين ألف موظف عينتهم حكومة حماس في العام والنصف الماضيين، ومناشدة إسماعيل هنية للشعب في القطاع بالتظاهر ضد ممارسات فتح والسلطة الفلسطينية. وتترافق هذه الممارسات الانفصالية مع عدم وجود حدود مشتركة بين القطاع والضفة مما يجعل من المستحيل على عسكر فتح والسلطة أن يزحفوا لتدمير حماس وإنهاء انقلابها العسكري، وإسرائيل لن تسمح بذلك أساسا لأن هذا التشرذم جاء أفضل خدمة لاحتلالها، لذلك فالنتيجة كما أقرأها حسب المعطيات الفلسطينية السابقة هي ولسنوات طويلة: إمارة حماس في القطاع ودويلة فتح في الضفة الغربية ويا فرحتك يا إسرائيل ويا راحتك ياجيش الاحتلال، فلا حماس تجرؤ على محاربته وهي ترسل الإشارات الخفية والعلنية بذلك، وليس في قاموس السلطة سوى المفاوضات السياسية، وهذا الواقع يعني ( باي...باي..يا دولة فلسطينية ). وهو واقع محزن لا أتمناه ولا يتمناه أي فلسطيني ولكن الفلسطينيين أوصلوا أنفسهم لهذا الواقع فلا يعتبوا إلا على أنفسهم و أعمالهم.
[email protected]