يحكى أن جحا مر بمقبرة في قرية فسأل أحد سكانها بعجب: لم يموت سكان هذه القرية في سن مبكرة. فهذا كتب على قبره أنه عاش شهرا، وهذا شهرين وذاك سنة؟ فأجابه القروي لأن العمر يقاس في هذه القرية بأيام السعادة لا بسنين العمر الفعلية. فأجاب جحا إذا مت هنا فاكتبوا على قبري: هذا فلان من بطن أمه إلى القبر.
وهكذا وفي رحلة البحث عن السعادة قد يجد البعض ضالته المنشودة ويقضي البعض الآخر في سعي محموم للعثور على هذه الضالة دون جدوى- كسراب بقيعة يحسبه الظمآن ماءا حتى إذا جاءه لم يجده شيئا-

فما هي السعادة؟
يفرق هادفيلد عالم النفس البريطاني في كتابه (تحليل النفس والخلق) بين ثلاث: (اللذة) و(السرور) و(السعادة)
فاللذة هي الصبغة الوجدانية التي تصاحب التعبير الانفعالي عن أية غريزة، فهي ممارسة الغريزة دون بعد أخلاقي، وهي تعجز عن إرضاء الفكرة السيكولوجية في تحقيق الذات.
أما السعادة فهي الحالة الوجدانية التي تصاحب التعبير والتوافق بين (جميع) الغرائز، ولا تتوقف على التعبير عن الذات بل في تحقيق الذات.
وهكذا فإن مبدأ (اللذة) موجود في (السعادة) ولكنه لا يحققها، واللذة تشجع إلى سيطرة غريزة واحدة تلك التي تميل إلى تفكيك الذات وتؤدي بالنهاية إلى الشقاء عوضا عن السعادة، وأحيانا إلى الانتحار؛ فالحصول على ثروة طائلة قد يرضي غريزة التملك، ولكن قد نفاجأ بإحصائيات ميشيل أرجايل التي اعتمدت (205) مرجعا لـ (191) ممن فازوا باليانصيب ا لـ (161000) جنيه بأن ليس هناك تغير يذكر في مشاعر السعادة عندهم، في مشعر واضح إلى اللغز الغامض في تحصيل السعادة، وكريستينا بنت أوناسيس لم تمنعها ثروتها الطائلة من الانتحار غما وكآبة.
و(الشهرة) أيضا لها بريقها الأخاذ الذي يأخذ بألباب الكثيرين فيسعون لها كمصدر للسعادة، ولكن اعتلاء صهوة الشهرة لم يمنع (داليدا) المغنية الإيطالية الشهيرة من الانتحار، وكذلك الممثلة الأمريكية الجميلة ذات الأصل الألماني( رومي شنايدر) من ملاقاة المصير ذاته.
ويخيل أحيانا لمهووسي السلطة بأن إشباع هذه اللذة سوف يملؤهم سعادة، مثل وزير المالية الفرنسي (فوكيه) في زمن ملك الشمس لويس الرابع عشر ولكن هذا الهوس كلفه قضاء حياته في زنزانة إفرادية في جبال الألب.
وإذا كانت (اللذة Lust) طائر يسعى للسعادة بجناح واحد، فإن (السرور Pleasure) بدوره يختلف عن (السعادة Happiness)، فالسرور هو الصبغة الوجدانية التي تصاحب التعبير عن أية غريزة من الغرائز ضمن إطارها المعنوي والأخلاقي، وهو قد يحمل صفة الانطلاق والنشوة، ولكنه عابر، في حين أن السعادة قد تكون أقل غلوا، ولكنها أكثر ثباتا؛ فالسعادة حالة دائمة.
وكثير من الأمهات يتحملن فظاعة العيش في ظل زواج تعيس، لأن غريزة الأمومة وبقائهن مع أولادهن يحقق لديهن شعورا عظيما بالسرور، ولكن هذا السرور مهما عظم لا يخلق من الأم المضحية quot;إنسانه سعيدةquot;
وهكذا فإن السعادة أرقى أخلاقيا من اللذة وأعم وأشمل من السرور.
وإذا كان الإطار الأخلاقي يأتي محجما للذة كي يمنحها التوازن والتناسق، إلا أنه لا ينبغي أن يغلو ليصل إلى مرحلة الزهد، وعمر رضي الله عنه قد خفق الرجل الزاهد بالدرة قائلا: لا تمت علينا ديننا أماتك الله!!
و هنا يخلص (هادفيلد) إلى أن التقوى التي تؤدي إلى الشقاء لا يمكن اعتبارها مثلا أعلى للسعادة طه ما أنزلنا عليك القرآن لتشقى..
فالأخلاق قد جعلت إطارا كي يبرز جمالية الفطرة ويدعها تأخذ مجراها المتوازن ولكنه لا يخنقها بكبت مبدأ اللذة، ومادام الجسد في صراع مع الروح، والروح في صراع مع الجسد، فإن الصراع لا يمكن أن يفرز أي شعور بالسعادة.
وفي الحديث الشريف أصوم وأفطر، وأصلي وأنام، وأتزوج النساء فمن رغب عن سنتي فليس مني.
وفي تلخيص لصفات الرجل السعيد جاء أنهquot; ا لرجل الذي لا كبت عندهquot; والذي يحقق غرائزه كلها، طموحه في المهنة، ميله للجنس في الزواج، غريزته الدفاعية عن معتقده، رغبته في التعبير في كلامه أو كتابته أو رسمه أو....
عندما قرأت يوما هذه التعريف عن السعادة ساءلت نفسي ما هو حظ الإنسان العربي منها؟
والبعض يعتقد أن السعادة لباس يستطيع أن يحيكه بمغزله...هكذا أكدت لي (د. مورغان) مدرسة علم النفس في إحدى جامعات نيويورك، التي كانت معي على متن المركب المسافر عبر نهر النيل من أسوان إلى القاهرة.
أضافت وهي تعب جرعة كبيرة من قهوتها الصباحية: الإنسان يصنع قدره بنفسه.
أجبتها وأنا أحدق في الفص الماسي الكبير الذي يزين بنصرها وأتنشق رائحة عطرها الفاخر:
كيف يمكنك أن تقدمي النصح لهؤلاء الفلاحين الذين يعيشون في الأكواخ- وبعضهم لا يزال نائما إلى جوار جاموسته- أن يغيروا من قدرهم؟؟
ومع أن (د. مورغان) قد لزمت حينها الصمت، إلا أنني أعرف حقا أن الإنسان يمكن أن يعيش سعيدا في كوخ متواضع، كما قالت الشاعرة:
لبيت تخفق الأرواح فيه أحب إلي من قصر منيف
ولبس عباءة وتقر عيني أحب إلي من لبس الهفوف

والصحة تاج على رؤوس الأصحاء، وبفقدانها يتبخر القسم الأعظم من السعادة، ولكني عندما كنت أتلو القرآن تجويدا أمام معلمي الشيخ quot;شهيدquot; كانت قسماته تنضح بالسعادة رغم كف بصره وكبر سنه وضيق عيشه وفقدان زوجته.
بل إن الحياة بحد ذاتها قد تحقق شطرا من السعادة، مما دعا (أبيقور) الفيلسوف اليوناني إلى قوله عندما يحضر الموت فلن نكون موجودين، دعونا نغترف من ملذات الحياة.
ولكن الاستعداد للموت ومفارقة الحياة عند البعض لم ينتقص من سعادتهم، وأذكر عمتي الحاجة (كوثر) رحمها الله، أنها كانت تستعد للموت في حبور وحماس، وكأنها تستعد لرحلة إلى جزر الكاريبي: تأكدوا من غسل جثتي جيدا أعتقد أنه قد حان الأجل.
هكذا كانت تردد وعيناها تشعان بالسعادة ووجهها بالخشوع ثم تتمتم بصوت خافت اللهم ارحمنا وهي تتابع قضم حبات العنب في استمتاع عظيم.
لقد وضع علماء النفس شروطا وأوصافا للسعادة، ومع أن بعض الناس لم يستوفوا هذه الشروط، ولكنهم في غاية السعادة.
ويروى عن بعض الصوفية قولهم: quot;لو علم الملوك ما نحن فيه من السعادة لقاتلونا عليها بالسيوف؟quot;
ولدهشتي أن القرآن لم يأت على ذكر السعادة إلا في موضعين، ولم تطلق إلا على حال أهل الآخرة...
وأما الذين سعدوا ففي الجنة خالدين فيها
يوم يأت لا تكلم نفس إلا بإذنه فمنهم شقي وسعيد
أما ما يعادل لفظة السعادة كصفة إيجابية فقد كانت لفظة الرضا وأتت في صيغ مختلفة وفي عشرات المواضع.
والرضا لا يفرض شروطا كي يتحقق في الذات، بل إنه طاقة إيجابية مفرزة من الذات تتحدى الواقع والظروف
فإن أعطوا منها رضوا وإذا لم يعطوا منها إذا هم يسخطون التوبة 58
والإنسان أحيانا قد يستوفي شروط السعادة كلها ويبلغها، ولكن الموت يقض مضجعه فيتمنى طول الحياة.. حتى لا يفقد ما هو فيه من نعيم.
وهو يؤكد عمق معنى الرضا وتفوقه على السعادة..
يا أيتها النفس المطمئنة ارجعي إلى ربك راضية مرضية فادخلي في عبادي وادخلي جنتي
والرضا هنا علاقة متبادلة بين الإنسان الراضي و بين منبع الرضا ومصدره وهو وما يبعث على الإحساس بالطمأنينة..
أليست الطمأنينة هي الوجه الآخر للسعادة؟

أية إعادة نشر من دون ذكر المصدر إيلاف تسبب ملاحقة قانونيه