quot;عندما لا يفقد العقل دوره في أتون عنف الحروب المحموم ، تبقى سبل التواصل قادرة على اختراق حدود الأديان والإثنيات والسياسات لأن طريق المعرفة الكونية الحرّة لا تنفصل عن الحب والمشاركة...quot;
لا شك في أن المشاعر الدينية الإلغائية، هي الوقود الأمثل للحروب وديمومتها، وهي غالبًا ما تعود من حِراكها العشوائي بين أهل الأديان المتنوعة لتتحرك بعنف أشد داخل الدين الواحد و الطائفة الواحدة.
إن المشهد الإقليمي والعالمي الراهن، المتكوِّن من معطيات ملموسة ومنفتحة الدلالة على احتمالات مستقبلية قاسية وموجعة، ينذر ربما بحروب أكثر دموية وأشدُّ فتكًا كما يدل على حضور لاهوتي قويّ بها، وأن عملية مناقشة ملابسات الأوضاع، ليس كافياً لتفادي المخاطر المحدقة بالإنسانية؛ ولا سبيل إلى النجاة من تداعيات الذاكرة المجرَّحة إلا بقطعها من دون عنف، لأن العنف سيساهم في إعادة تأسيسها وتأجيجها من جديد.
إن ذاكرة شعوب المنطقة وذاكراتها مثخنة بالجراح العميقة بحيث يبدو من المستحيل والمتعذر قطعها ، لذلك فإنه من واجبنا العمل الدؤوب على تنقيتها على الأقل.
ولكن كيف يبدو الخطاب السياسي بعد 11 سبتمبر؟؟
إن المحلل لخطاب المحافظين الجدد في أعقاب الحادي عشر من سبتمبر، يجد أن مستوى الخطاب أقام صراعًا سياسيًّا وعسكريًّا على موجبات دينية! مع العلم أن الشأن الديني لا يشكل للساسة الأمريكيين أكثر من لاحقة تبريرية لسلوكم وسياستهم!؟ إذن، من الذي هيأ لهم هذه الفرصة؟ ومن الذي فتح باب حضور اللاهوتي في الخطاب السياسي؟؟ وهل كان الخطاب تأسيسيًّا أم مجرد كاشف لبُنى مُوِّهت لفترات متلاحقة؟؟
كل الدلالات والشهادات، تشير إلى أن ذاكرة quot;الحروب الصليبيةquot; ليست حاضرة في ذاكرة الشعب الأميركي ووعيه، وأن الدين لايدخل كمكوّن في رؤيتهم للعالم، وأن من استحضر الخطاب اللاهوتي واشتغل على تعميمه على الرأي العام كمؤثر هم في واقع الحال مثقفون و أكاديميون علمانيون، فالدين يُستخدم عادة في المفاصل التاريخية التي تحتاج الى وقود للحروب، لأنه يمنح السياسي المبرر لاحداث الدمار والعنف، من دون أن يكون لآثاره الكارثية مانعاً في إظهار الغبطة بالغلبة، فتصبح عندها quot;الحربquot; quot;حربًا مقدّسةquot; ، ويصير عندها النصر quot;نصرًا إلهيًّاquot;!!
أما الواقع العربي والإسلامي فقد واجه تحدّيات جسيمة بعد الحادي عشر من أيلول وأصبح من الضروري و الملحّ الإجابة عن سؤال: هل إن المسلمين المعاصرين ما زالوا مصرِّين على تقسيم العالم دارين دار حربٍ ودار إسلام؟؟ وهو السؤال الذي مازال حتى الآن ينتظر جوابًا لا لبس فيه من قبل الفقهاء وفتوى واضحة مُجمع عليها، والأخذ في الاعتبار عمق التأثير العلمي وتأثير ثورة الاتصالات في أنماط العلائق البشرية، وفي فتح الوعي البشري على ضرورة وإمكان تجاوز الأنماط الساكنة في الوعي المفارق بين الأقوام والأديان..
إن أوجه الشبه كبيرة جدًّا بين تعصب أولئك الأصوليين المسلمين كالقاعدة وطالبان حيث يقتصر التحصيل العلمي في مدارسهم على النصوص الدينية، وبين العجرفة التي تطبع أفعال بعض الساسة الغربيين لا سيما المحافظين الجدد وأقوالهم وأفكارهم، والمتمثِّلة بوثوقهم التام بأن في حوزتهم الحلَّ لمشكلات البشرية برمَّتها، وأن على الأمم الانقياد التام لهم.
الواقع أن العقل الديني الأصولي، سواء أكان يهودياً أم مسيحياً أم إسلامياً، يعتبر أن الصيغ والتشكيلات التي مكَّنته من الوقوف على أصول الدين وأركانه تطابقتْ مع هذه الأركان وتلك الأصول، بحيث استنفدتْها وحلَّت محلَّها بعدما اقتصرت هذه الأركان وتلك الأصول، برأي هذا العقل، عليها. علمًا أن التشكيلات هذه هي في الحقيقة صيغ وتشكيلات تاريخية وثقافية عارضة، ارتبطت بمكان وزمان معينين.
لقد آن الأوان ليفكر المسلمون بتحويل منهجي جذري فقهي مؤصَّل، أي غير بدْعي، في فكرة الجهاد؟؟ أي توجيهها إلى مداها الأبعد والأكبر في بناء الحياة والحرية، على منظومة من الأفكار والقيم المشتركة والمصالح المشتركة.
لا بد اليوم من استعداد المسلمين والعرب لتفادي استلحاقهم وارتهانهم في سياق العولمة المتعاظمة، من خلال تجديد شروط شراكتهم الفكرية والاجتماعية والتنموية في مشروع حضاري إنساني، يجدِّدون أصوله وفروعه في الإسلام والمسيحية، والحداثة أيضاً، مشفوعين في ذلك بالميل المتفاقم مسيحياً لإنهاء المطابقة بين الإيمان المسيحي وإغراءات التبشير؟
وإذا ما أردنا مدَّ الطموح إلى مداه فإن الحلَّ يكمن، في الضفة الأخرى، في إعادة قراءة مشرقية ملائمة ومتجددة للمسيحية، تُطلِق الشوق المسيحي إلى السموِّ وقبول الآخر. وحينئذٍ يمكننا أن ننتظر تصحيحاً مسيحياً للعقل اليهودي، من خلال قراءة مسيحية لليهودية، على موجب التوحيد المهجور من العقل اليهودي الراهن، علمًا أن المسلمين والمسيحيين واليهود في الأندلس استطاعوا، تحت مظلة التوحيد الجامع، أن يحرروا مساحة واسعة للشراكة في كل شيء، وكل معنى ومنجز.
عندها يمكن القول إن المسافة التي ضاعفتْها الحرب في أفغانستان والعراق، طولاً وعرضاً وعمقاً، بين الأديان والإثنيات يمكن الشغل عليها وإعادتها إلى حجمها الطبيعي، غير أن هناك صعوبة بالغة في ظل الأوضاع الحالية والخطاب السياسي الراهن، الحد من النمو والتمدد الصاروخي السرعة للمسافة بين المذاهب وداخل كل مذهب، والعراق اليوم خير شاهد على ذلك... فالإنقسامات الحاصلة تعيد إلى الأذهان الخوف من إنتاج quot;سايكسndash;بيكوquot; جديد على خارطة الانقسام الإثني ndash; والديني منه في الأساس. وبدلا من الخروج بالدولة الوطنية يصبح لدينا دول طائفية دينية وعرقية ومذهبية.. تتكفل بجعل الحروب الدورية وظيفتنا الوحيدة!
وحينئذٍ لا تعود دولة إسرائيل الكبرى بحاجة إلى جغرافيا، لأنها متحققة في الاجتماع غير المجتمع في ظلّ الانقسامات الحادّة، وعندها يتحقق حلم هرتزل الذي قال: quot;كل شعب ينقسم شعبين يصبح في قبضتنا.quot;
وهكذا، فالخطر المحدق بشعوب المنطقة كان، وما زال، مزدوجاً: فالعقل الميتافيزيقي الذي حَكَمَنا غلَّب فينا عقلاً دينياً أصولياً أسَرَنا، كما غلَّب علينا عقلاً حداثوياً استلبنا. إلا أن quot;في الخطر يتنامى الخلاصquot;، كما يقول الشاعر الألماني هولدرلن. وquot;الخلاصquot;، يكون quot;نهايةquot; وquot;نجاةquot;: نهاية عصر الميتافيزيقا، ونجاة بالولادة الجديدة من رحمها في عصر ما بعدها.
إن العقل الديني الأصولي يعتبر، أن الحقيقة هي وقف على الألوهة، ولا يحق للبشر أن يتطاولوا عليها، ولكن إذا اعتبرنا أن كنه الظاهرات وفهمها مرتبط بالدرجة الأولى بالتجربة العملية المتوقفة على ملكة الفهم والتحليل، فإن ذلك سيتيح صعود العقل العلمي من جديد ويفتح الأفق أمام قراءة quot;رشديةquot; جديدة ، فإبن رشد شبه مغيَّب في عالمنا الإسلامي، في حين أنه قد حَظِيَ باهتمام كبير في الغرب. وثمة مَن يراهن أخيراً، في الشرق والغرب على السواءلا سيما على مسلمي الغرب لحسم الصراع لمصلحة العقل العلمي.
باحثة في الأنتربولوجية
[email protected]
Marwa_kreidieh.maktoobblog.com
أية إعادة نشر من دون ذكر المصدر إيلاف تسبب ملاحقة قانونيه
التعليقات