تمرّ منطقة الشرق الأوسط حالياً بواحدة من أدقّ مراحلها السياسية والاجتماعية والثقافية. فقد أصبح (الدين) اللعبة السياسية الجديدة المكشوفة في هذه المنطقة الملتهبة من العالم. ويجب أن لا نتوهم بأن هذه النقلة نتيجةً لتطور المنظومة الفكرية للإسلام من الناحية الدينية الخالصة، إنما هي نقلة سياسية أفقية تتخذ من من أسوأ الأفكار المتطرفة والمتخلفة مرجعية أساسية لها. ولكي نبحث المسألة في حدود الموضوعية، يقتضي ذلك أن نعرف حقيقة أساسية وهي أن هذا التشكل الإسلامي الجديد هو في الواقع امتصاص لمختلف الخيبات السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية التي حدثت في المنطقة متزامنةً مع المرحلة الكولونيالية حتى الوقت الحاضر. وما النجاح الذي تحرزه حالياً الحركات الإسلامية في توسيع قوتها سوى مؤشر على استمرار تفكك المجتمع العربي الذي يستجيب لآثار هذه الخيبات. والمجتمعان: العربي، والإسلامي، ارتقيا إلى مرتبة التفاعل والتعاطي مع التوجهات السياسية الجديدة التي تتخذ من (الإسلام) أيديولوجيا مؤثرة في شعوبٍ خذلها النظام الدكتاتوري طوال عقود عديدة. إنه مخاض ينذر بتغيرات لا يمكن التنبؤ بها نظراً لتعقيدات الموقف.
في وسط التغيرات الهائلة التي يمرّ بها العالم، يقف الشرق الأوسط كمثل خاصرة تتأثر بكل ما يحيط بها. التغيرات الروسية الجديدة الطامحة إلى انتزاع حصة من النفوذ على العالم، والتي صدمت القوى الكبرى والصغرى معاً في معالجة المشكلة الجورجية، كان لها تأثير في أكثر موضوعات الشرق حساسية كالمعضلة الإيرانية التي أظن أنها تتجاوز الملف النووي لتشمل عموم السياسة الإيرانية في الخليج والعالمين: العربي، والإسلامي، إذ ترى إيران أنها الأحقّ في قيادة العالم الإسلامي، وتتحرك بموجب خطوات سياسية ناجحة لولا الأسلوب الخطابي العنيف للرئيس نجاد. ومع ذلك فقد حققت السياسة الخارجية الإيرانية بقيادة ثعلب الدبلوماسية الإيرانية (متكي) نجاحاً دولياً في صراعها مع الولايات المتحدة في المقام الأول. ومن اللافت أن الخاسر الأكبر في المشكلة الجورجية، هو الولايات المتحدة التي مارست دور الحليف لجورجيا، لكنها وقفت مكتوفة الأيدي حيال الهجوم الروسي المباغت. وخسرت شيئاً آخر، هو أنها نقلت رسائل سريعة إلى أعداء أمريكا كإيران وسورية لترميم تحالفهما مع الدب الروسي الناهض. ومع أن الشرق الأوسط تمزقه الآن التناحرات المذهبية والإثنية، لكنه استجاب سريعاً لهذا التغير في السياسة الدولية من خلال زيارات خاطفة لمسؤولين من المملكة العربية السعودية وإسرائيل وإيران وسورية وتركيا. وباستثناء إسرائيل التي ذهبت إلى موسكو لهدف آخر، فإن القادة العرب والإيرانيين أرادوا أن ينقلوا رسالة إلى الولايات المتحدة مضمونها يُلْمِح إلى الأخطاء التي ارتكبتها أمريكا في الانفراد بقيادة العالم.
وفي الوقت الذي تنجح فيه السياسة الإيرانية في استثمار قصور النظام السياسي العربي في معالجة ملفات ساخنة ومركزية كملف القضية الفلسطينية، والعراق، ولبنان، والسودان، فإن العالم العربي يمرّ بمرحلة تزداد غموضاً يوماً بعد آخر، فالوضع في مصر يتجه إلى مستقبل غير مقروء، لكنه يفصح من ناحية أخرى عن تنامي الصراع المستقبلي حول السلطة. وفي ظني، أن انجلاء الصراع لصالح الحركات الإسلامية في هذا البلد بصرف النظر عن مسمياتها، ستكون له نتائج وتداعيات خطيرة جداً، وربما سيمثل سقوط آخر معقل من معاقل الحكم العربي غير الديني. إن الشارع المصري ذا الحساسية الدينية والقومية، بات يستجيب سريعاً للمشاريع والمقترحات والأفكار والشعارات الإسلامية، نظراً لفشل مشروع الدولة ذات المؤسسات الدكتاتورية. وعلى الرغم من التحالف القوي بين نظام الرئيس مبارك وجهاز المخابرات والأمن والمؤسسة العسكرية وبعض رجالات الاقتصاد، إلا أن ذلك التحالف سرعان ما سينهار في حالة استلام (جمال مبارك) السلطة نظراً لتضخم مشاكل النظام، ولتزايد نمو الحركات الإسلامية. ولم يكن وضع النظام أفضل مع التيارات الأخرى من ليبراليين ويساريين وقوميين وتكنوقراط. ويتربص الوضع المتأزم بين الأقباط والمسلمين بالفرصة المتاحة لتفجّر الصراع على نحو أوسع.
وبمقربة من مصر، يتخذ الصراع في الأراضي الفلسطينية وجهة أخرى، فبعد أن كان صراعاً فلسطينياً إسرائيلياً محضاً، انقلب إلى صراع بين كتلتين: إسلامية أصولية بقيادة حماس، وليبرالية منفتحة على الغرب بقيادة فتح. وتراقب إسرائيل بعين الريبة والحذر الشديد العلاقة المتينة بين حماس وإيران، إذ يجمعهما خطاب إسلامي متشدد، يدعو إلى تدمير إسرائيل، ويتخذ من هذا هدفاً مستقبلياً. ولأن حماس موجودة بالحكم على نحو شرعي بعد فوزها بالانتخابات، فإن نجاح عملية السلام لا يمكن أن تحظى بالنجاح من دون إشراكها بطريقة فاعلة لاكتساب موافقتها على بنود اتفاقية السلام المزمعة. وهكذا، يقف الرئيس محمود عباس من دون إجماع جماهيري يخوله التصديق على تلك الاتفاقية التي طال التفاوض حولها. وقد أصبحت حماس شوكة في خاصرة الاستراتيجية الأمريكية الإسرائيلية المشتركة التي مورست منذ منتصف عقد السبعينيات، والقائمة على محاولة تجزئة الصراع العربي الإسرائيلي ومن ثم بحث الملفات كل ملف بشكل مستقلّ عن الآخر. ومن هنا فقد ساهمت حماس في إفشال هذه الاستراتيجية السياسية، لتنقل إلى الأمريكان والإسرائيليين رسالة مفادها: لا سلام من دون تسوية إقليمية ولاسيما مع الدول المؤثرة كسورية ولبنان وإيران. وفي ظل هذا الجو، تبدو السياسة الإسرائيلية في حيرة من أمرها، ولذا حاولت الدخول مع سورية في مفاوضات يمكن أن نسميها: مفاوضات جسّ النبض. كلاهما يريد أن يجسّ نبض الآخر، لكن أهداف الجسّ مختلفة بين الطرفين.
ونظراً لتخوّف السياسة الإسرائيلية من التغيرات الشرق أوسطية المتلاحقة، فقد اقترحتْ اسم (تسيبي ليفني) التي تمسك تكتيك الدبلوماسية بيد ومكر المخابرات بيد أخرى، لتكون واجهة الحكومة الإسرائيلية بدلاً من اولمرت. ويبدو أن إسرائيل قرأت الوضع في الشرق على أنه يحتاج إلى نمط من المكر يمكنه التعرّف على الأبواب الخلفية أو الممرات السرية للسياسات الجديدة المتنامية في الشرق الأوسط، ولاشك في أن معرفة تحركات الجماعات والحركات الإسلامية وكذلك السياسات ذات التوجه الإسلامي هو من أولويات السياسة الإسرائيلية في هذه المرحلة.
ولا يمكن توصيف الصراع في لبنان على أنه صراع مناصب بقدر ما هو صراع من أجل صوغ نظرية للحكم تتشيد على معايير إسلامية. حزب الله، الأقوى في الساحة اللبنانية، كرر مراراً إيمانه وسعيه الدائم إلى تطبيق (ولاية الفقيه) في لبنان، على حين تحاول بعض الأطراف السنية السعي إلى التضامن مع الأنظمة السياسية في المنطقة التي بدأت تنظر إلى حزب الله نظرة طائفية. ويبدو الوضع هناك على قدر من الصعوبة نظراً لتدخل إقليمي واضح تشترك فيه بالدرجة الأولى إيران والسعودية وسورية.
والديمقراطية بالعراق ليست سوى ديمقراطية دينية سيئة، فالأطراف التي تشترك في الحكم أو تتطلع إلى ذلك إنما هي مكونات دينية عدا الأكراد الذين يقودهم حزبان يقدمان الشعارات القومية على الشعارات الدينية. وكرد فعل على هذا التحول في السياسة العراقية من نظام علماني دكتاتوري عسكري إلى نظام ديني، فقد نشطت حركة الإفتاء في المملكة العربية السعودية بالتزامن مع ذلك؛ لترميم قوة المؤسسة الدينية هناك، واستعداداً لمواجهة محتملة مفتوحة مع الفكر الديني الآخر المختلف مذهبياً. وقد استثمر الإعلام الجديد من فضائيات وانترنت ليكون أداة هذا الصراع المذهبي/السياسي. ومن هنا فإن البرامج الدينية التي تُقدَّم في الفضائيات لم تكن تلبية لحاجة المسلم الصرفة، إنما ثمة رسائل سياسية ومذهبية تمرَّر من خلالها. وهكذا انفجرت مقدمات الصراع السنيّ الشيعيّ، عبر الفتاوى والملاسنات المذهبية.
إن الوضع السياسي في المنطقة، الذي استطاعت إيران أن تضع يدها على أهمّ المناطق الساخنة فيه، بات يتجه إلى التحالفات السياسية أكثر من ذي قبل. وحالياً، ثمة أربعة أطراف تمسك بقوةٍ خيوط الصراع الشرق أوسطي، وهي إيران وسورية وحزب الله وحركة حماس. بمعنى أن الولايات المتحدة وإسرائيل، صارا لا يحسبان حساباً لمصر أو السعودية بقدر ما يحسبان إلى هذه الأطراف الأربعة. ولأن ثلاثة من هذه الأطراف تتحرك بموجب استراتيجية دينية محضة، والطرف الرابع حليف قوي تربطه علاقات متينة مع الحركات الإسلامية، فإن سياسة الولايات المتحدة في المنطقة تواجه مشاكل وتعقيدات تزداد يوماً بعد آخر.
[email protected]