ينبغي الاعتراف بدايةً بأن في الحداثة قيمتين: قيمة أيديولوجية، وقيمة تحديثية تهدف إلى ترسيخ ثورة ثقافية شاملة لا تعالج القضايا السياسية والاقتصادية والاجتماعية والفكرية والثقافية من خلال تصور تاريخاني محض، إنما عبر نظرة معاصرة تستلهم قيم الحياة المعاصرة في التطور العلمي والعقلي الذي مزّق كثيراً من المسلَّمات والبدهيات والقَبْليّات.
القيمة الأيديولوجية للحداثة ذات أثر سلبي بالنسبة لثقافتنا، وهي من القيم المرفوضة نظراً لحساسيتها داخل نظام الثقافة العربية؛ بسبب تجاورها أو تداخلها مع الخطاب: الاستعماري، والإلحادي، واللاعقلاني، والنقدي. وهذه الخطابات مهمشة تماماً في الثقافة العربية؛ بسبب ما تنطوي عليه من حساسية تصيب الأفكار واالثقافة المقدسة في الصميم، وهو ما لا يمكن أن تسمح به المؤسسة الدينية ذات النفوذ القوي في العالم الإسلامي كله.
بيد أنّ الشيء الذي لابد من الإشارة إليه، هو أنّ في الحداثة، كونها نزعة فكرية إنسانية، قيمة تتخطى حدود الأيديولوجيا، بل تسعى إلى بناء قيم جديدة تأخذ بنظر الاعتبار متطلبات الإنسان المعاصرة، وحاجته إلى التواصل والمثاقفة، وبناء هويته التاريخية الخاصة، لا العيش على ميراث الأسلاف. والفكرة الأخيرة ألَّبتْ عدداً كبيراً من المؤرخين والمفكرين والمؤمنين بالقيم المطلقة للماضي، لمناهضة مشروع الحداثة العربية. بيد أنّ مشروع الحداثة الأوروبية حينما طُرِح، إنما طُرِح متلازماً مع مشروع كبير للتنمية على مختلف الصعد، وهذا ما افتقرت إليه الحداثة العربية، التي كانت في تقديري حداثة استهلاكية قبل أنْ تكون حداثة تنمية إنتاجية مدروسة، وحداثة تغيير المجتمعات العربية والإسلامية عموماً، ونفض غبار التخلف عن عاتقها. وإذا فهمنا الحداثة فهماً ناضجاً، يراعي ملازمتها لبرامج التنمية الستراتيجية، فإنها ستكون عوناً كبيراً لنجاح حكم إسلامي معاصر، لا يرفض نموذج الحداثة بوجهه الإيجابي.
وقد عالج محمد خاتمي، هذه العلاقة في كتاباته وحواراته، من خلال نظرة فلسفية أكثر منها واقعية، تستقرئ المشكلات المزمنة في هذه النظرية.
إنّ تَصَوُّر خاتمي عن الحداثة [يكاد ينحصر مفهوم الحداثة عنده بالحداثة السياسية الخاصة بنظرية الحكم على الرغم من توجيه كلامه وجهة شمولية في مناقشة هذا المفهوم] يكتسب قيمة مضاعفة، فهو رجل دولة شغل سابقاً مركز رئيس الجمهورية الإسلامية الإيرانية، ورجل سياسة مثير للجدل يقود (التيار الإصلاحي) بإيران وينتقد بشدة سياسة الرئيس محمود أحمدي نجاد المدعوم من قبل (التيار المحافظ) الذي يتزعمه رجال الدين الأكثر تزمتاً ممن ساهموا في قيام الثورة الإسلامية في إيران، ويتزعمه فكرياً الفيلسوف الإيراني آية الله الشيخ محمد تقي مصباح اليزدي. وعلاوة على تخصص خاتمي الأكاديمي الذي ترك بصماته على كلّ أفكاره وكتاباته في التأسيس التقليدي لأفكاره عبر نطاق واسع من المفاهيم والإشكاليات التاريخية. ولأن الرجل ضليع بالفكر السياسي الإسلامي، وبالنظريات الغربية في الفكر والسياسة والاجتماع والاقتصاد، فإنّ أفكاره حول الحداثة تصبّ في لبّ الإشكالية الحضارية الشهيرة: الشرق والغرب، التي تحولت الآن في ظل تحولات تاريخية معقدة إلى: الإسلام والغرب، مع ملاحظة أن أمريكا تحوز على حصة الأسد في مفهوم الغرب كما تفهمه الحركات الإسلامية الراديكالية المعاصرة.
وسوف يتيح لنا موقف خاتمي من الحداثة، أن نضع أيدينا على وجهة النظر الخارجة من عباءة المؤسسة السياسية الرسمية حيال هذا المفهوم المختلَف فيه. وفي غضون ذلك، نضع أيدينا أيضاً على آثار الفلسفة الإيرانية التي صاغت نظرية الحكم الإسلامي بطريقة روحانية ذات جذور إشراقية، لا يفتأ محمد خاتمي يستنير بأنوارها. ومن هنا فإنّ المحاكمة التي تستند إلى معطيات الواقع في تقييم أفكار خاتمي الخاصة بموضوع الحداثة، ستصطدم بجدار سميك من التناقض، فهذه الأفكار لا تودّ أن تصغي للمتغيرات السياسية على أرض الواقع، بل تستمرّ في ممارسة نظرية بوسع المرء أن يصفها بأنها نظرية تاريخية، ومن هنا فإنّ المراقب للتطورات السياسية في داخل إيران سوف يلاحظ تذمراً من الكبت على الحريات العامة، ومن قيادة البلاد نحو أزمات دولية لا تخدم مصالح الجمهورية الإسلامية. ولعل أبرز صور هذا التذمر تجلى في صفوف طلاب الجامعة الذين أضربوا عن الدوام واصطداموا بالسلطة خلال حكم الرئيس خاتمي. ولذلك فإن الرئيس الحالي نجاد، الذي كان في بداية الثورة زعيماً طلابياً، يعطي اهتماماً كبيراً للشريحة الطلابية، إذ طلب من سكرتيره الشخصي أن ينظم له بين فترة وأخرى لقاءً معهم، وذات مرة دوّن في يومياته السياسية كيف نسى نفسه في أثناء الحديث معهم لساعات عديدة، مما اضطره أن يتأخر عن التزام من التزاماته السياسية الداخلية. هذه الشريحة، ذات وعي بضرورة تطوير الممارسة الديمقراطية في البلاد، ونظام الحكم الإيراني يسعى إلى خلق جيل يفهم الديمقراطية عبر رؤية إسلامية لا رؤية غربية.
لا شكّ في أنّ تصورات محمد خاتمي لا تتمرد تماماً على الأفق التاريخي للجدل الفكري الإسلامي الذي يتناول أية ظاهرة ذات خلفية غربية تشغل حيزاً في بلاد الإسلام، ولذلك سوف تقفز تصوراته مباشرة إلى محاججة سياسية لمنطق الحداثة لا تتورع في إخفاء نزوعها إلى إثارة هذا المشكل من منظور حضاري وثقافي. فقد لا تستجيب الحداثة كونها مفهوماً فلسفياً وتاريخياً يتعلق بالتاريخ الأوروبي، إلى إعادة إثارة موضوع الحكم الإسلامي في الوقت الراهن، إلا أنّ الإلحاح الشديد على هذا الطرح المزدوج للمفهوم، نابع من وضع سيكولوجي شرقي بصورة عامة، تجاه كلّ موضوع غربي، فالمخيال الشرقي والغربي كذلك مشبعان بذخيرة من الصراع الثقافي المحتدم بدءاً من الإسلام كدين مزاحِم للمسيحية، ومن ابن رشد كفيلسوف مؤلِّب للرأي العام الأوروبي من خلال تبنّيه مقولات أرسطو المستفزة للفكر الكنسي الأوروبي في ذلك الوقت. وعقدة ابن رشد بالنسبة للأوروبيين، تناظر عقدة الشرقيين من مفهوم الحداثة، فالأوروبيون اعتقدوا أنّ هذا الفيلسوف العربي المسلم إنما يدمر الأسس التقليدية للفكر الأوروبي ويسعى هو ومناصروه إلى تحديثه ليكون صالحاً لقضايا العصر. وعندما شاعت أفكار ابن رشد في الجامعات الأوروبية، وجد الأوروبيون أنّ هذه الأفكار عبارة عن (حداثة) جاءت من خارج الحدود، وهو ما لا يمكن قبوله على الرغم من قدرته على اختراق آفاق الثقافة الأوروبية. وهذا يشبه تماماً، ما يجري لمفهوم الحداثة المنقول من تجربة أوروبية صرفة، إلى تجربة شرقية أخرى، فعلى الرغم من أنه مفهوم رائج وله مريدون كثر في الثقافة العربية، إلا أنه يُرْفَض هو الآخر بصورة مستمرة لا لشيء سوى لأنه مفهوم جاء إلينا بقطار أوروبي.
معظم الموضوعات التي يطرقها محمد خاتمي كالديمقراطية والحكم والحرية والحداثة والتنمية والحضارة والدين والتراث، لا يقف عندها بوصفها موضوعات مجرّدة تخصّ النظرة الإسلامية وحدها، بل يرتكز في معالجتها على المقارنة مع النموذج الغربي. وهذا يؤكد بإلحاح كبير، أن المشاكل التي تضرب بجرانها في الممارسة السياسية لم تعد من قبيل المشاكل الداخلية الخاصة. بتعبير آخر، أصبح العالم المعاصر يتعاطى المؤثرات من كلّ حدبٍ وصوب. ولأن محمد خاتمي، ينطلق من واقع سياسي متأزم في الداخل وفي الخارج، فإنه يمضي قدماً في تقديم تصوّر يستند فيه إلى (مقدمات منطقية) أكثر منها (مقدمات واقعية)، ولذا سوف تشغل حيزاً لكونها أفكاراً براقة، وبريقها الجذاب آتٍ من لغتها المنطقية والتاريخية الصافية. وفي ظني، أن محمود أحمدي نجاد قد فطن إلى هذه الناحية في خطاب خاتمي فلعب على وتر التصورات الجماهيرية الإيرانية ذات الحساسية الثورية، وحاول أن يعيد صياغة مطالب تلك الجماهير عبر خطابه المتشدد والمتطلع إلى معالجة الملفات الداخلية والخارجية بحماسة الثوري لا بمنطق العقلاني أو الفيلسوف.
ينفي خاتمي، في محاضرة ألقاها في كلية الحقوق والعلوم السياسية والإدارية بالجامعة اللبنانية في الخامس من ديسمبر (كانون الأول) 1996، التلازم المنطقي بين (الحداثة والتنمية)، يقول: هناك من يزعم أن الشعوب محكومة بالتخلف والتعاسة، وبالتالي بالفناء، إلا إذا قبلت بالتنمية وانصاعت لجميع متطلباتها، وبما أن التنمية هي حصيلة الحداثة، فليس أمامنا طريق آخر يؤدي إلى النجاح والسعادة غير اعتناق الحداثة والتحضّر بالحضارة الحديثة [ص56]. وحجته في هذا النفي قائمة على: إنّ حكماً كهذا يصحّ إذا ما اعتبرنا أن الحضارة الغربية التي هي مواطن التنمية هي آخر الحضارات البشرية، فحيئذ سنقول بأنه ليس أمام الإنسان من سبيل غير الاستسلام أمام مرحلة من مراحل تكامل الحياة الاجتماعية[ص56]. وهذا، في ظنّي، يعود إلى لون من التفكير غير الواقعي الذي آثر كثير من مفكري الإسلام الاختباء وراءه، ففي الوقت الذي تستند فيه فرضية من يؤمنون بالتلازم المنطقي بين الحداثة والتنمية إلى الواقع والتجربة التاريخية، فإن نقض الدكتور خاتمي لهذا الزعم قائم على حجة عاطفية أكثر منها عقلانية، لأنه لا يريد أن يعترف بأن الحضارة الغربية التي هي موطن التنمية والحداثة هي آخر الحضارات. وعلى الرغم من أن المسألة لا تتعلق بـ (آخِر) أو (ما قبل الآخِر) فإنّ النظرة العقلانية تؤكد أنّ الحضارة الغربية التي نجحت في تطبيق نموذج (الحداثة والتنمية) هي آخر الحضارات التي لا زالت تفاجئ العالم والدول العربية والإسلامية بمزيدٍ من الحداثة والتنمية. الحداثة الغربية اكتسبت الآن دلالة أخرى، ولا يمكن مقارنتها بالحداثة الكلاسيكية، وكذلك مفهوم التنمية. الثقافة الغربية، وهذه ميزتها، أنها لا تستقر على الدلالة التي في المفاهيم التي تنتجها. تستبدل الدلالة تارة، وتستبدل المفهوم تارة أخرى، بخلاف الثقافة الإسلامية التي تتمسك بمفوماتها تمسكاً غريباً، إذ ظل مفهوم الإسلام على سبيل المال محافظاً على دلالته منذ أكثر من 1400 سنة. وهكذا فيما يتعلق بسائر المفاهيم الإسلامية، ومن ضمنها مفهوم الحكم، إذ لا يتعدى الخلافة إن شرّقت أو غرّبت في المذاهب الإسلامية، أو الفتاوى، أو التيارات السياسية ذات الأيديولوجية المبنية على الفكر الإسلامي.
وقبل أن نناقش أفكار الدكتور محمد خاتمي، أودّ _ على سبيل المقارنة بين مفكري الإسلام ومفكري الغرب _ أن أنقل رأياً لـ (كارل بوبر) شخّص فيه إحدى خصائص الحضارة الأوربية بأنها الأكثر (نقداً لذاتها والأكثر ميلاً نحو الإصلاح من أية حضارة أخرى في العالم). وبالفعل فإن الحضارة العربية، على عكس الحضارة الأوروبية، ما زالت تطرح خارجاً كلّ نموذج يقدّم نقداً جذرياً لثقافتها التقليدية، ولا تتعامل معه بشيء من اللباقة المنهجية والفكرية، بل تسعى إلى تثبيت قواعد ثقافة تنافح عن نفسها باستمرار، نظير ما قام به الرعيل الأول من المفكرين والإصلاحيين الإسلاميين في نهاية القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين، إذ وقفوا ينافحون عن التراث والإسلام في صدامهما المستمر مع الحضارة الغربية وثقافتها. ولم تكن تلك المنافحة تقيم وزناً لطبيعة العلاقة القوية بين الحضارة الغربية وفكرة الحداثة على أنها علاقة فلسفية، تبيّن التحولات التي طرأت على الفكر الغربي والمجتمعات الغربية أيضاً. وإلى الآن، مازال ضحايا الاختلاف الفكري يقعون بين أشداق التكفير والنفي والقتل أحياناً، كنصر حامد أبو زيد والسيد القمني وعلي فودة وآخرين من ضحايا الإفتاء الإسلامي الجديد.
إنّ الحداثة هي التي أفضت إلى قيام مجتمع غربي ذي مزايا لا تتناقض مع فكرتها الأساسية، فكان أن أطلقت على هذا المجتمع تسميات من قبيل: مجتمع وسائل الإعلام، ومجتمع الاستعراض (جي ديبور) (Guy Debord)، أو المجتمع الاستهلاكي والمجتمع البيروقراطي للاستهلاك المنظم (هنري لوفيفر Henri Lefebvre)) أو المجتمع ما بعد الصناعي (دانييل بل Daniell Bell)).
بيد أن الأمر، يبدو غريباً في مجتمع كالمجتمع الإيراني، فشطر يأخذ بأسباب الحداثة التكنولوجية (امتلاك القدرة النووية والصناعية) وشطر آخر لازال يخضع لملاحقة (المحتسِب/ الرقيب الأخلاقي في الأسواق العامة)، شطر يعطي نفسه حق الفتوى بقتل الكتاب المنتقدين للإسلام كسلمان رشدي وشطر آخر يذهب إلى أن الإسلام يكفل حرية التعبير مهما كان نوعها ضمن حدود الدولة الإسلامية، فما بالك بمن يقطن خارج هذه الحدود كسلمان رشدي. هذا النموذج لا يتحدد بالجمهورية الإسلامية الإيرانية وحدها، بل في المملكة السعودية وبلدان الخليج الأخرى أيضاً، على سبيل المثال لا الحصر، إذ يعيش المرء وسط معطيات حضارية غريبة عنه، في الوقت الذي يمارس ثقافة أبعد ما تكون عن هذه المعطيات، مما حفز علماء الاجتماع إلى دراسة ظاهرة الانفصام الحضاري في هذه المجتمعات. وقد يكون هذا التناقض، هو الذي دفع مجلة (ماري كلير) في سنة 1988 إلى نشر مقال بعنوان (جزيرة العرب خلف الحجاب) تُجاوِر فيه بين وعاء الحداثة الأوروبية الذي تستقر فيه نساء شرقيات، مما يبدو مثيراً في نظر هذه المجلة الغربية: غالباً ما تأتي خبرة الغربيين بالحجاب من رؤيتهم زمراً من النساء القصيرات، البدينات، المتسربلات من الرأس إلى اخمص القدمين بنوع من الكتان الأسود الفاحم، وهنّ يطفن على مهل في متاجر المدن الكبرى، ومع أنّ هؤلاء يبدون بمثابة الشيء الشاذ والغريب وهن يركبن ويترجلن من سيارات الليموزين التي تراها متوقفة بانتظارهن أمام محلات (الماربل آرش لماركس وسبنسر) في لندن، إلا أنهنّ قد يكنّ في بلادهنّ ساحرات الجمال، وغامضات، وفاتنات، ومدهشات مثل نجد الصحراء القاحلة في شبه الجزيرة العربية [حريم الشرق وحريم الغرب، تصورات الرحالة الغربيين عن النساء في الشرق الأوسط ـ جودي مابرو ـ ترجمة ثائر ديب ـ مجلة وجهات نظر ـ العدد 36/2002].
على المستوى النظري يُحسِن الدكتور خاتمي إحكام فرضيته المتعلقة بالحداثة والحكم والمجتمع، لكنّ الحضارة التي تضع معطيات هذه الفرضية بمقابل متطلبات الواقع، سوف تنتهي إلى حصيلة من التناقضات التي لابدّ من إعادة النظر فيها.