عراقي- إسرائيلي في معهد الدراسات الأسيوية والإفريقية (SOAS) بجامعة لندن- 3
يهود العراق ndash; ذكريات وشجون (الحلقة 34)
أهدي هذا الفصل من ذكرياتي إلى الأمير تركي الفيصل الذي أعلن (إيلاف، 21.1.2008) بشجاعة ما أسرّه لي بوجل نزار العراقي، في لندن عام 1963.
تسلمت ذات يوم من عام 1963 دعوة من جمعية المناظرة بين الطلبة في جامعة لندن، وكانت المناظرة هذه المرة quot;حول الصراع العربي الإسرائيليquot;. اشترك في هذه المناظرة طلبة
يهودي عراقي إسرائيلي في معهد الدراسات الأسيوية والإفريقية |
سيداتي وسادتي: إن إسرائيل دولة لاجئين مضطهدين من بقايا المحرقة النازية الغاشمة الهمجية. وليس لليهود مكان آخر يلجئون إليه سوى وطنهم التاريخي، والبلاد العربية واسعة شاسعة تحتاج إلى مثقفين فلسطينيين وأيد عاملة. لقد وافق مجلس الأمن على قرار التقسيم ورفضه العرب، ولم يمر يوم على إعلان قيام الدولة الوليدة حتى زحفت سبعة جيوش جرارة لتدميرها، ثم غلبت الفئة القليلة الفئة الكثيرة، فعلى العرب أن يتحملوا نتيجة الحرب التي بادروا إليها لتدمير إسرائيل وإلقائها في البحر. ثم انتقم العرب من إسرائيل بطرد يهود البلاد العربية وعددهم يفوق بكثير عدد اللاجئين الفلسطينيين الذين فروا منها بتشجيع قادة الجيوش العربية وصادروا أموالهم وممتلكاتهم التي تقيّم بالمليارات من الجنيهات الإسترلينية، وطرد اليهود أملا في أن تنهار إسرائيل بسبب ضائقتها المالية والاقتصادية، لقد كان تبادل سكان وممتلكات بين المعسكرين المتناحرين، وإسرائيل تمد يد السلام إلى جميع الدول العربية، فانتهزوا هذه الفرصة السانحة يا سادة لإحلال السلام!
صفق أنصار إسرائيل لهذه الجملة واسمع العرب ومناصروهم ضحك سخرية وقرعوا الأرض بأرجلهم احتجاجا على اقتراحه الفاشل.
واصل كوهين خطابه: للبلاد العربية أراض واسعة ودول تحتاج إلى علماء وأيد عاملة ويهود إسرائيل أقلية ضئيلة ولكنها مفيدة للدول العربية من حيث الأطباء والعلماء وخبراء الصناعة والزراعة والطب.
قاطعه نزار بأسلوبه الإنكليزي الذي تشوبه رطانة عربية وهو يلفظ حرف الراء الذي يبلعه الإنكليز كحرف عربي بذبذبات طويلة، ويقلب حرف quot;التاءquot; إلى quot;طاءquot; عربية مفخمة وشعره الأسود كـالغـُـدَاف الأسحم يلمع بدهن البريل كريم ورائحة عطر الليوانطة تفوح من وجهه الحليق الوسيم وصوته يدوي في القاعة بحماس مثير:
يا أيها اليهود المغتصبون لأولى القبلتين وثالث الحرمين! إن ما اغتصب بالقوة يعاد بالقوة quot;وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة ومن رباط الخيلquot;، والله وتالله وبالله، سوف لا ترون منا سلاما بل جهادا أبد الدهر، لماذا نطلب مساعدة أعدائنا الإسرائيليين، فإننا نستطيع طلب المساعدات من الدول الغربية والشرقية. أقول لكم بأننا نسعى إلى تدمير هذه الدولة المزعومة المغتصبة، فإذا تعبت دولة عربية فستبادر دولة عربية أخرى لإنجاز ما نرمي إليه وما عجز هتلر عن القيام به!
صاح الكثير من الحاضرين مقاطعين: إخرس، إخرس، يجب أن تخجل من هذا الكلام العنصري النازي.
واصل نزار خطابه دون اعتذار: سنواصل جهادنا، فإذا تعبت مصر سيأتي الأردن وإذا تعب الأردن فستأتي سوريا وإذا تعبت سوريا فستأتي لبنان ثم تليها أ ُسْـد العراق البواسل وهكذا دواليك.
قاطع العرب وأنصارهم كلام نزار وهو يهدر كالأسد الهصور بالتصفيق الحاد وبالهتاف المتحمس: عاشت فلسطين الجريحة، عربية مستقلة، عاش المجاهدون الأبطال الأشاوس. وأنشد آخرون بجوقة حماسية:
تل أبيب، سوف تصلى باللهيب / واليهود سيكونوا لها الوقود.
قاطع عريف الحفل هدير نزار وهوسة الهتافات الحماسية، وقال: نحن لسنا في مظاهرة وبدون هتافات وشعارات. أثم نزار خطابه الحماسي بقوله: سنواصل جهادنا ضد المحتلين الغاصبين وأنهاه: quot;نصر من الله وفتح قريبquot;، ردد العرب مؤمنين علي قوله: quot;آمين آمين، يا ربّ العالمينquot;.
وبعد جهد جهيد ساد الهدوء القاعة بعد أن طلب رئيس الحفل الإنكليزي التصويت مَنْ مِنَ المتناظرين فاز على غريمه وطلب من أنصار كل فريق أن يهتفوا بصوت مرتفع quot;هايquot;. هتف أنصار إسرائيل فكان هتافهم فاترا، ثم هتف أنصار العرب فكان هتافهم عاليا باهرا. أعلن العريف انتصار الخطيب العراقي رغم لهجته الحماسية ورطانته الأجنبية. اقبل الطلاب العرب على نزار يحملونه على أكتافهم وهم يهتفون بشعارات قومية معادية: فلتسقط إسرائيل، عاشت فلسطين عربية، حرة، مستقلة!!!
وفي اليوم التالي وجدت نفسي وجها لوجه مع نزار ووجه متهلل من نصر البارحة وقد زاد بريق عينيه نضارة ولمعان شعره بريقا من البريل كريم. قال بلهجة المنتصر: quot;أشلون ورّمناتكم البارحة؟quot;. قلت له وقد تعبتُ من كل هذه المناقشات التي quot;ما اتطّعم خبزquot;، ولكني quot;عراقي ما ينطي غلبهquot; وقلت له: ليش هي بالحكي، رجّال اليعبي بالسلة رقي! ترى عند الامتحان يكرم المرء أو يهان. بس عاد مناقشات، خلينا انصير أصحاب!
وجم نزار وفكر مليا ثم وافق على اقتراحي وتغيرت لهجته العدائية فجأة وأصبحت ودود متسامحة وقال هامسا:
-سامي، عندي مشكلة بلكت تساعدني بيها، يقولون أنت تفهم بالنسوان؟
أذهلتني المفاجأة، ماذا جرى لهذا الأسد الهصور، لعل دليلة المحتالة أوقعته في حبائلها وجزت quot;قصايبهquot; (جدائل شعره)، فأجبته بإنكار:
-لا يا بوي، آني شمفهمني بيهن. بس الله يفتهمهن، وفضها وياهم ابآيتين كريمتين: quot;إن كيدكن عظيمquot; وquot;إن ربي بكيدهن عليم!quot;.
-صدق الله العظيم! صدق الله العظيم! لا بلى حلكك، والله حكيك ليلو. على جرح القلب.
-نزار قلي الصدق! اكتويت بنارهن الكـَبْرى!
-آني وقعت ويّاها وقعة سودا.
- أشلون يعني؟
-حبيت وحدة إنكليزية بربوكة ملعونة.
واختنقت الكلمات في حنجرته واغرورقت الدموع في عينيه ثم أجهش بالبكاء.
-آني أنجبرتْ بيها، أجرت إلها بيت وأثـثـتـه، وسكنا سوى، بعد اسبوع اسبوعين صارت اتقول من الصبح للعصر: جـِـيب وجـِـيب، جـِـيب وجـِـيب!. أتداينت وارهنت كل شي على مودها بس درضيها! والتالي بدت قوانه جديدة، تعال انسافر لأمريكا و تعال انسافر لأمريكا! ليش متسمع لي كلمة! وين تشوف مثلي، شوف اشلون صدر عندي، شوف اشلون زرور عندي، شوف شلون فرة طيـ... عندي، ما أسوى تاخذني الأمريكا.
-آني أعرفها الهل حكاية، يعني مثل نار جهنم ما تشبع، كل يوم تصيح quot;هل من مزيد!quot;
-والله حكيك حلو، ليلو، قلي بالله، أنت مسلم لو يهودي!
-أيهودي عراقي من إسرائيل.
-ها، بس منين تعرف كل هاي الآيات القرآنية وتجيبها على جرح القلب!
-مو آني أدْرست بمدرسة السعدون وتالي ادرست بالجامعة أدب عربي وقاري القرآن الكريم عدة مرات.
-زين ليش ما صرت مسلم؟
-الله يهدي من يشاء!
-ألله يهديك للاسلام، الله يهديك للاسلام، آمين يا رب العالمين!
- دكول أش صار ويا هل سختجية؟
-قبل ثلث تشهر، فزيت من نومي، أشو ما شايفها يمي بالجرباية. قمت من الفراش حافي وبالشعفة أدور عليها، وما اشوف إلأ ظرف من فتحة البريد بالباب مدلي بوزه مثل الواوي، وقع قلبي وفتحته وإيدي ترجف. وعمت عين اللي شافت هيج مكتوب. الكحبة كتبت: لا تحزن، آني مسافرة لأمريكا ويا صديقي الجديد تشن تشو الأمريكي- الصيني الأصل، ما صدقت عيوني وداخ راسي، وبعد ما وعيت اشصار، اصفقتلك الصوت: لا! لا ميصير، ويلي يابا، شلون مصيبة، شردت مني للديار الغريبة! وصرت أبكي والطم، وشقيت هدومي، وأصيح رجعوها إلي، دخيل الله، ردوها وجيبوها إلي يا ولاد الحلال! أجوا الجيران وأخذوني للمستشفى، صار عندي انهيار عصبي، ضربوني أبر ونيموني اسبوع، وبعدني لسه أحن وأون !
-ألله يساعدك على هل صدمة!
-سامي! انت تفتهم بالنسوان، أبوس إيدك، بس قل لي هاي اشافت أبهل المدندح الشبر ونص أبو الشعر الأسود المسرسح عبالك مال الشادي، وعيونه العوره الفسفس جنها (كأنها) الجردغ المايل (عمامة نسائية تلبس مائلة)، وِجّه مصفرج وابدفعه يموت. متكللي الخاطر الله، هاي اشحبت بيه! آني عراقي ومتربّي على تمر البربن، شلون تعوفني وتركض ورا هل ابو الجردغ المايل ال أبدفعة يتكوّم ويموت؟
-مو إنت كلت هاي تريد اتسافر الأمريكا، أنت ما قبلتْ، شافت إلها غير واحد، شردت وياه!
-ها، والله ليها الحكاية الكلتها راس!
-ولك نزار، أنت لازم تفرح، أتكيف!
-وليش!
-ما خلصت من هذا الجردام، هاي بنت حرام ورادت فلوسك، ولو تتزوجها كان مو بس فلست إلا كان طلـّعت لك كرون، كان اقبلت أيسموك أبو كرون! لا تخاف، هاي راح تتزوجه الأبو الجردغ المايل، تاخذ إلها quot;جرين كاردquot; واتالي أتضربه بألف كاله وقندره وتحطه يطق إيد إب إيد ويموت بالحسرة.
-والله الحق وياك، يعني ألله خلصني من ورطة، والله منا وغادي لا زم أكيف وأفرح.
-طبعا لازم اتكيف وتفرح، خلصت منها.
-سامي، والله أنت أمحيرني، هسه انت باول سنة دكتوراه واهيج تفتهم، لعاد لو تصير دكتور تمام اشلون وياك؟ والله من هاي أغلبتونا أنتو اليهود الكواويد! أي العفو، بس إذا هيجي كل اليهود مثلك، اشلون راح نكدر عليكم ونغلبكم؟
-نزار، أنت ما تعرف الإيد الما تكدر اتعضها بوسها.
-والله تمام، ما إلها حل بس السلام. بس سامي، بالله عليك لا تقول لصحابنا العرب آني هيج كلتلك، ترى والله يقتلوني، ويصير دمي ابرقبتك!
-ما تعتمد عليّ؟ آني من اليوم على حكاية السلام الكلتها صاموط لا موط، الله وكيلك، ما راح أحد يعرف بيها!
ومنذ ذلك اليوم أصبحنا صديقين حميمين، ويحييني بابتسامة وجلة خفية وهو بين الطلبة العرب وإن كان يتظاهر بأنه ما زال يحترم تحذيرات أصدقائه من quot;الإسرائيلي المشبوه!quot;.
(يتبع، نكبة فلسطين والعراق - 35)
مبشّرة أورشليم، في 1/1/ 2008
العنوان الألكتروني: [email protected]
كتبت هذه الذكريات لتنشر في مجلة إيلاف،
جميع الحقوق محفوظة للمؤلف،
لا يجوز نشر هذه الذكريات بأية صورة كانت بدون اتفاقية وإذن خطي من المؤلف،
أ.د./ شموئيل (سامي) موريه
أية إعادة نشر من دون ذكر المصدر إيلاف تسبب ملاحقة قانونية
التعليقات