كثيرا ما نقرأ آراء وتقديرات مختلفة عن مصير المشروع الأمريكي لنشر الديمقراطية في البلدان العربية والإسلامية؛ البعض يرى أنه لا يمكن إعطاء تقييم حاسم في هذا الشأن، وآخرون يتحدثون عن الفشل، وثمة آراء بين بين.
لا شك في أن الإدارة الأمريكية، التي طرحت المشروع بعد 11 سبتمبر، كانت تقدر أن أنظمة الاستبداد، والفساد، وأن الفقر والبطالة، تغذي نزعات التطرف والعنف، التي وصلت أقصاها في 11 سبتمبر، وأن هذه الأخطار تهدد مصالح الأمن القومي الأمريكي؛ وبعبارة لقد طرح المشروع كجزء من سياسة مكافحة الإرهاب وحماية الأمن القومي. إن هذا لا يعني أن المشروع، لكونه أمريكيا وبدافع مصالح الأمن القومي للولايات المتحدة، لم يكن يلتقي في الوقت نفسه مع طموح وأهداف القوى الديمقراطية الليبرالية، وسائر قوى الاعتدال والانفتاح، في المنطقة العربية.
إن نقطة الضوء هذه لأنه، مثلا، وبصدد حرب إسقاط صدام، قرأنا وسمعنا الكثير بأن الحرب كانت بدافع الطمع في النفط، لا حبا في عيون الشعب العراقي. نعم، لم تكن بسبب هذا الحب، ولكن حرب سقوط صدام كانت، في الوقت نفسه، لصالح شعبنا، ولم يكن ممكنا التخلص من ذلك النظام الفاشي الدموي بدون قوة عسكرية خارجية كبرى ذات مصلحة في إسقاطه، وإن من المؤلم جدا أن سوء التخطيط، وسوء إجراءات السنة الأولى، ساعدت على نشوء الوضع العراقي الحالي، الذي هو بالعكس مما كنا ننتظره.
إن الديمقراطية كانت، ولا تزال، هدف التيارات والقوى التقدمية والعلمانية العربية، وإنه يجب الترحيب بكل خطوة في هذا الاتجاه. هذا صحيح، وصحيح، أيضا، أن مفهوم الديمقراطية نفسه كان، ولا يزال، خاضعا لعدة اجتهادات وآراء.
لقد كانت هناك تيارات تقدمية ترفع شعار 'لا حرية لأعداء الشعب'، وهو شعار ستاليني كان يستخدم لتبرير تصفية كل مخالف لستالين، وكل من يعتبره منافسا له؛ وهناك من يفهمون الديمقراطية كخيمة يمكن أن تضم أيضا الأحزاب المتطرفة، سياسيا كانت أو دينيا، أي أن تضم أعداء الديمقراطية الحقيقية. أما العديد من الأحزاب والأنظمة العربية، فهي ما بين إجراء انتخابات شكلية في وضع تقييد الحريات، وما بين من يعتبرون الديمقراطية بدعة، وبالنسبة للراحل عبد الناصر، فقد طرح شعار العدالة الاجتماعية قبل الديمقراطية، وقد حقق نظامه كثيرا من الإصلاحات الاجتماعية الهامة لصالح الجماهير، ولكنه أيضا دشن قيام أول نظام للحزب الواحد، والقائد الواحد، وكانت النتائج أن قسما من ذلك التقدم المصري تراجع للوراء، وأن النظام دخل حرب الهزيمة في 5 حزيران.
بالعودة للمشروع الأمريكي، ففي رأينا أن عيبه الرئيس والكبير هو حصر الديمقراطية في إجراء انتخابات حرة، وذلك مهما كانت الظروف، وأيا كانت العقليات والثقافة السياسية السائدة في هذه الدولة أو تلك.
إن الانتخابات وحريتها هي، كما كتبنا مرارا، مستلزم رئيسي للديمقراطية، ولا يمكن اعتبار نظام ما ديمقراطيا إن زيف الانتخابات، أو أجراها تحت سياط القهر، والابتزاز، والإغراء، وتأجيج المشاعر الدينية.
إن الإشكالية لا تتوقف عند هذا الحد وحسب، فثمة فرق بين حرية الصناديق الانتخابية، وبين الانتخابات الحرة كخطوة كبرى نحو قيام نظام ديمقراطي، فعندما تسود بين الجماهير أفكار قوى التطرف السياسي، أو الديني، فإن أكثر الانتخابات حرية ستؤدي لقيام نظام استبدادي جديد، سافرا كان أو مقنعا، واستبدادا سياسيا كان أو دينيا.
إن العراق مثل واضح لهذه المفارقة، فإن نتائج انتخابين أديا لقيام نظام حكم الشريعة، الذي يضطهد المرأة، ويحرم الموسيقى، والنحت، والفنون الأخرى، ويعتبر غير المسلمين مواطنين من الدرجة الدنيا؛ وبهذه المناسبة، نعبر عن أقوى استنكار وإدانة لاغتيال الفقيد مطران الكنيسة الكلدانية في الموصل، الذي كنا، في مقالنا الأخير، قد أدنا عملية خطفه الجبان، والمروع.
لنأخذ بعض الأمثلة عن وجوب أخذ الظروف والأوضاع الملموسة بالحسبان الدقيق، قبل المطالبة بالانتخابات.
إننا نرى أن أية انتخابات اليوم، حتى لو كانت حرة تماما، تجري اليوم في مصر، حيث تسود الشارع معتقدات وأفكار ومفاهيم الإخوانيين، والتي يغذيها أحيانا تساهل السلطات أو مجاراتها، ستكون على الأرجح لصالح قوى التطرف، وذلك في أكبر بلد عربي، وستكون زخما هائلا لجميع قوى التطرف في البلدان العربية، والإسلامية، وهي القوى التي ظهرت، وتظهر، من بينها شبكات الإرهاب، التي تهدد البشرية في كل القارات، وتهدد مصالح الأمن القومي الأمريكي بالذات. نعم، إن نظام مبارك ليس بالنظام الديمقراطي، والأقباط مهددون هناك، والمعارضة تقمع من حين لحين قانونيا، والمشايخ يتدخلون، بتساهل من الحكومة، في شؤون الإنتاج الفكري، والأدبي، والفني. إنه نظام عليه أن يجري إصلاحات سياسية حقيقية، وجذرية، قبل فوات الأوان؛ وإذ نقول هذا، فإن سقوطه في أيدي الإخوان سيشكل كارثة لمصر والمنطقة، إذ أن هذا النظام لا يزال يمثل لدرجة ما عامل توازن واعتدال في المنطقة العربية، وإن أول المستفيدين من سقوطه ستكون إيران بمشروعها النووي العسكري.
هناك أيضا أمثلة كون بضعة نواب إسلاميين في برلمان الكويت يحاولون من وقت لآخر التضييق على هامش حرية الرأي، والتعبير، والصحافة، كما يستطيعون تنظيم حملة تشويش مغرضة ضد هذا الوزير أو ذاك؛ وفي البحرين أيضا يقوم الإسلاميون بتحركات صاخبة، ضد حرية الصحافة، وإن الشيعة منهم مدعومون إيرانيا، إذ، كما هو معروف، أن إيران خميني ورثت أطماع الشاه في البحرين، وكل الخليج. تصوروا لو كان البرلمان تحت سيطرة هؤلاء أو أولئك، فأي مكسب للديمقراطية ولشعبي البلدين!؟ وأي استقرار سيكون في الخليج؟!
إن الديمقراطية كل متلازم، وقيامها يتطلب توفر عدة مستلزمات، منها حرية الانتخابات، ولكن منها أيضا توفر الحد الأدنى من ثقافة سياسية متفتحة، تؤمن بالرأي الآخر، والحوار، وتحترم حرية العقيدة، وحرية التعبير. إنها تستلزم سيادة حد معقول من فكر الحرية، والتسامح، وعقيدة 'الدين لله والوطن للجميع'، كما تتطلب وجود نسبة لا بأس بها من المتعلمين في البلد.
إن من المصائب العربية أنه حتى نسبة عالية من المثقفين مصابة بالانغلاق، ولا تؤمن بالآخر، وتتهم الليبرالية بالبضاعة الغربية المستوردة، وتتعاطف مع التطرف الإسلامي، سواء في بلدانها، أو في الغرب عندما تقوم قوى التطرف الإسلامي بتهديد حريات العقيدة، والتعبير، وتحارب الفنانين والمفكرين الغربيين الذين تعتبرهم أعداء الإسلام، والمسلمين.
إن الديمقراطية الليبرالية تؤمن بأن الفرد ليس مجرد بيدق في المجموع، بل أن لكل فرد كيانه الخاص، وشخصيته، وكرامته، وتفكيره المستقل، ومن هنا، جاء الإعلان الدولي لحقوق الإنسان، أي حقوق المواطنة، والمواطن، في حرية المعتقد، والتعبير، والتحرك السياسي، واحترام الجنس الآخر، وتحريم كل أشكال التمييز، دينيا كان، أو مذهبيا، أو عرقيا، أو بين الجنسين.
إن الأيديولوجية الشمولية، بكل تياراتها، هي التي تعمل على تذويب دور المواطن في المجموع، أي ذوبانه في الدولة وسياساتها، إن هذا مثلا هو خطأ المثقفين العرب اليوم بمقاطعة معرض الكتب الإسرائيلية في باريس، من منطلق أن كل مثقف إسرائيلي يمثل سياسة إسرائيل، أو هو صهيوني متطرف، مع أن بين الكتاب الإسرائيليين كثيرين من دعاة السلام، والذين يدينون التطرف الصهيوني، والمعارضين، في مواقف عدة، لسياسات الحكومات الإسرائيلية، ومن ذلك الاستيطان. هنا نذكّر بأن المظاهرات الأولى الحاشدة، بل الوحيدة، في المنطقة، ضد مجازر شبرا وشتيلا كانت في تل أبيب، وأن أساتذة ومدافعين عن حقوق الإنسان في إسرائيل هم الذين فضحوا المجازر، وأصدروا في ذلك تقريرا معروفا.
لقد لاحظ عدد من المثقفين اللبراليين، وسائر دعاة الإصلاح الديمقراطي، تراجعا تاما للفكر العربي، والثقافة العربية، وعلى كل المستويات، بالمقارنة مع العقود الأولى من القرن الماضي، بل وحتى بعقد قبلها، وهذا ما سبق أن كرسنا له مقال 'مأزق الفكر العربي' قبل أكثر من ست سنوات، وتحدثنا عن الأسباب، وضربنا أمثلة كثيرة عن ذلك، ودور التراجع الفكري العربي الملحوظ في زيادة تخلف المجتمع، وشحن الشارع بأفكار الكراهية، ورفض الآخر، وتكفير غير المسلمين، وحصر كل الأمور ما بين حلال وحرام، ويحمل كثيرون من المسلمين معهم للغرب كل هذا الإرث لينفجر عند فريق منهم في عمليات إرهابية، يذهب المدنيون ضحاياها، بينما يصمت عنها الأكثرية، أو يبررونها بذرائع سياسية تتبدل حسب المواسم!
ما الخلاصة إذن في رأينا؟
إن من السابق لأوانه الحديث عن انهيار مشروع نشر الديمقراطية، ولكن العراقيل أمامه كبرى وكثيرة جدا، وإن أغلب التقديرات التي اطلعنا عليها تميل للشك في النجاح، وذلك على ضوء ما جرى طوال السنوات من عمر المشروع المذكور.