إضافة إلى التهم، متنوعة الأشكال والألوان، التي عادة ما تنال أي جماعة تنادي بأفكار quot;تقدميةquot; في بر مصر وأرض العرب، فعادة ما يسارع أعداء الفكرة إلى التنويه ـ من باب التحقير والتهوين ـ بأن تلك الجماعة (التي هي بحكم التعريف خارجة عن quot;إجماعquot; الأمة و quot;صحيحquot; الرأي) ليست سوى قلة قليلة وحفنة صغيرة لا يزيد أعضاؤها عن عدد ركاب حافلة quot;ميكروباسquot;.
لكن ما حدث مع quot;المؤتمر الوطني الأول لمناهضة التمييز الدينيquot;، الذي عقدته جماعة quot;مصريون ضد التمييز الدينيquot; (التي يرأسها د. م. محمد منير مجاهد) يومي 11 و12 أبريل في القاهرة، قد أثبت ـ على الأقل ـ أن مناصري فكر المجموعة وفكرة المؤتمر يزيدون عددا عن ركاب عشرين من حافلات quot;الميكروباسquot; ـ وهذا إنجاز لا ينبغي لأحد أن يقلل من أهميته! وفيه بصيص أمل بأن هناك من الشرفاء في مصر من باتوا يرفضون القبول بالأمر الواقع المليء بالظلم.
***
وبعد هذا، لنا عدد من الملاحظات المبدئية على هذا المؤتمر وحوله:
1ـ ما جرى صباح الجمعة 11 أبريل داخل وأمام نقابة الصحفيين، حيث كان من المقرر (منذ شهرين على الأقل) عقد المؤتمر المذكور، يلخص بتركيز شديد مأزق مصر الحالي. ففي البداية هناك quot;اختطاف واغتصابquot; نقابة، يفترض أن يكون أعضاؤها حملة أقلام، وليس جنازير أو quot;شومquot;، بواسطة مجموعة من أعضائها (يقال ستة أفراد) رفعت شعار الاستنفار والتهييج التقليدي: quot;وا إسلاماهquot;. وهناك، ثانيا، عجز النقيب عن quot;إقناعquot; المجموعة البلطجية بالسماح بعقد المؤتمر، ورفضه اللجوء إلى الإجراءات القانونية الواجب إتباعها في مثل هذه الظروف لفرض الشرعية، واضطراره إلى إلغاء موافقته السابقة على استضافة المؤتمر مما يعني (على الأقل!) انتصار العنف والابتزاز. وهناك، ثالثا، دور الدولة وquot;الأجهزةquot; التي نظن ـ وليس كل الظن إثما ـ بأنها لم تكن بعيدة إطلاقا عما جرى، وأنها في إصرارها على منع عقد المؤتمر (إذ يناقش موضوع quot;التمييز الدينيquot; الذي تنكر الدولة أنه موجود أصلا برغم كونه يمثل ممارسات وسياسات مستقرة من قبل أجهزة الدولة كافة)، لجأت فقط لبعض حيل التذاكي لكي لا تتعرى صورتها تماما ـ وفعلت ذلك في إطار تكتيكات التحالف والتنافس مع جماعات الفاشية الدينية.
2ـ إصرار أعضاء جماعة quot;مصريون ضد التمييز الدينيquot; على عقد مؤتمرهم في نفس اليوم حتى لو كان على quot;الرصيفquot;، كان عنصرا أساسيا من عناصر نجاح المؤتمر إذ بين أن لهم قضية يتمسكون بها ولا يخضعون في سبيلها لابتزاز. كما أن عرض حزب quot;التجمعquot; لاستضافة المؤتمر فورا كان دليلا ناصعا على أن هذا الحزب هو الوحيد (نكرر الوحيد) في مصر الذي له مواقف فعلية وواقعية (وليست كلامية) في شأن المساواة بين المواطنين بغض النظر عن الدين أو الجنس أو العرق.
3ـ برغم الضغط وضياع الوقت الذي سببه تغيير مكان المؤتمر، وبرغم قلة الإمكانيات بصفة عامة، فقد جاء المؤتمر أفضل تنظيما من مؤتمر quot;المواطنةquot; الذي عقده quot;المجلس القومي لحقوق الإنسانquot; بأحد الفنادق ذات quot;الخمسة نجومquot; في نوفمبر 2007. هذا من ناحية quot;الشكلquot;: أما عن quot;الموضوعquot;، ففي رأيينا أن المؤتمر الأخير قد تفوق على سابقه بكثير، إذ تعرّض لمشكلات quot;شائكةquot; بجدية وشجاعة وموضوعية افتقدها إلى حد كبير الآخر الذي بدا متكلسا وحريصا على quot;توازنات واعتباراتquot; معينة أكثر بكثير من حرصه على إحراز تقدم في موضوع quot;المواطنةquot;.
4ـ الازدحام الشديد للبرنامج المعد للمؤتمر، وهو ما كان موضع انتقادات من اطلعوا عليه لأسباب بديهية، كان في حقيقته يشي بتخوف باطني من تراجع عدد من المتحدثين، بسبب quot;حساباتquot; معينة هنا أو نتيجة quot;ضغوطquot; هناك. لكن، وبرغم بعض الارتباك الطبيعي الذي حدث في الجلسة الافتتاحية، كانت مشاركة 26 متحدثا ذكرهم البرنامج، مقابل اثنين فقط تخلفا بدون إبداء عذر، أمرا لافتا للانتباه؛ إذ يندر أن يحدث هذا في مؤتمر quot;عاديquot; في مصر، ناهيك عن أن يكون مصحوبا بضجة ومحاولات تشويه متعمد قبل وأثناء عقده. وهذا في حد ذاته نجاح باهر لكل المشاركين، وإن كان الثمن الذي دفع في سبيل ذلك هو الاختصار الشديد في الوقت المخصص للمتحدثين وللمداخلات...
5ـ في جلسة خاصة هدفها إيضاح مواقف الأحزاب والقوى السياسية إزاء quot;التمييز الدينيquot;، شارك quot;التجمعquot; (أمينة النقاش، نائب الرئيس) و quot;الجبهة الديموقراطيةquot; (أسامة الغزالي حرب، الرئيس) و quot;الغدquot; (إيهاب الخولي، الرئيس) و quot;الوطني الديموقراطيquot; (جهاد عودة، عضو لجنة السياسات) و quot;الدستوريquot; (ممدوح رمزي، نائب الرئيس). وباستثناء quot;الوطنيquot; الذي قدم تصورا نظريا عاما عن المواطنة (ليس له علاقة بمواقف الحزب نفسه!) فإن باقي الأحزاب كانت واضحة في كلامها حول الموضوع. وقد كانت دعوة حزب التجمع للالتفاف حول quot;العَلمانيةquot;، بعد تنقية مفهومها من الصورة السلبية والمشوهة التي ارتبطت بها، دعوة شجاعة تبين أن هناك من باتوا يدركون أن العَلمانية هي شرط للديموقراطية ولإقامة الدولة الحديثة في مصر كما في غيرها.
من ناحية أخرى، كان لافتا للنظر غياب رئيس حزب quot;الوفدquot; (بدون اعتذار، حسبما نعلم)، إضافة إلى قيام جريدته بنشر أخبار كاذبة وتشويهية حول المؤتمر، وهي أمور مستغربة من حزب مازال يتشدق (أحيانا!) بالليبرالية والمساواة!
6ـ تعليقات بعض الحضور (مثل أحدهم الذي يحمل لقب quot;دكتورquot; ويعمل quot;باحثاquot; بأحد مراكز البحث quot;العلميquot;) بأن التمييز هو أمر طبيعي، بل واجب، بين أتباع الدين الحق وأتباع الديانات الباطلة، جاءت كلحظات فكاهية ترويحية في مؤتمر تغلبت عليه الجدية، وكانت بالطبع مثار تندر معظم الحاضرين. لكن لا ينبغي لأحد أن يهون من كون مثل هذا الكلام يعبر عن رؤية يتبناها قطاع هام من المجتمع والرأي العام والدولة بأفرعها التنفيذية والتشريعية والقضائية. ومن ناحية أخرى، كان غياب معظم quot;أقباط الأمنquot; عن المؤتمر مدعاة للارتياح..
7ـ تعامل الإعلام مع المؤتمر كان فرصة لفضح العورات والعاهات التي يعاني منها هو والمجتمع المصري. فبغض النظر عن قلة من العروض الإخبارية الأمينة، نجد، من ناحية، الإعلام quot;القوميquot; الذي تعمد تجاهل المؤتمر والتعتيم عليه كعادته في مثل هذه الأمور (مما يؤكد quot;الظنونquot; التي أشرنا إليها في (1) أعلاه)؛ ونجد الإعلام quot;المستقلquot; ذي التوجهات الخاصة، أو الذي يعمل لحساب quot;أجهزة خاصةquot;، الذي تعمد الكذب والتشويه بصورة يندى لها الجبين؛ ونجد أيضا التغطية التي تفتقر إلى الدقة، ليس عن رغبة أيديولوجية في التشويه بل فقط لأن إعلامنا (مثل أشياء كثيرة في حياتنا) أصبح يفتقر إلى أدنى درجات quot;المهنيةquot; في العمل، ويلجأ من باب الاستسهال إلى التسطيح والكلفتة.
8ـ حفل المؤتمر بعدد من الكلمات والأوراق الهامة عالية الجودة بصورة لافتة، تعاملت مع الموضوع من زوايا أكاديمية وتطبيقية؛ تاريخية وواقعية؛ رصدية وتحليلية ـ وهو ما يحتاج إلى عرض يضيق به هذا المكان. وكانت هناك أيضا الكلمات quot;عالية الأوكتينquot; مثل كلمة الدكتور سالم سلام، أستاذ الطب بجامعة المنيا (وهو بطل حقيقي، سبق أن استقال من منصبه كرئيس قسم طب الأطفال، احتجاجا على التمييز ضد طالبة قبطية) والتي فضح فيها أساليب التمييز الفادح. وكانت هناك الشهادات التي تدمي القلوب ممن يقاسون الأمرين في حياتهم بسبب التمييز الذي غالبا ما يتستر بالقانون. وكانت هناك مفاجأة عدد من الشباب الذين قرروا الخروج على quot;مسلماتquot; التفرقة عن طريق كسر الحواجز وبناء الجسور بين المختلفين دينيا.
9ـ ذكر د. فؤاد عبد المنعم رياض، عضو المجلس القومي لحقوق الإنسان، والقاضي السابق بالمحكمة الجنائية الدولية، في النص المكتوب لكلمته أمورا بالغة الأهمية، مثل أن [إهدار مبدأ المساواة وتكافؤ الفرص يُعدُّ جريمة في حق الوطن، وهي جريمة وخيمة العواقب] وأن [التمييز ضد أقلية معينة بشكل منهجي قد أصبح يشكل جريمة وفقًا للمواثيق الدولية تعرف باسم جريمة الاضطهاد persecution وتدخل ضمن الجرائم ضد الإنسانية فينص النظام الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية التي تم إنشاؤها وفقًا لاتفاقية روما 1998 (مادة 7، فقرة ح) أنه يعتبر جريمة ضد الإنسانية quot;أي اضطهاد منهجي لجماعة محددة من السكان لاسباب سياسية أو عرقية أو دينية أو ثقافيةquot;. وتختص المحكمة الجنائية الدولية بمحاكمة مرتكبي هذه الجرائم باعتبارها جرائم دولية نظرًا لأن ضحيتها هو الفرد باعتباره إنسانًا له حقوق لصيقة بهquot;].. وأيضا: [أن الأقباط لا يشاركون في الشأن المصري العام بالقدر الذي يتناسب مع وزنهم في الجماعة المصرية، ويرجع ذلك إلى عاملين، الأول هو عدم وجودهم غالب الأحيان في مواقعَ قيادية مسئولة، والثاني هو عدم تمثيلهم في المجالس النيابية بالعدد الذي يتفق مع نسبتهم في الجماعة المصرية. لذلك يجب تدارك هذا النقص بكافة الطرق وأولها طريق التشريع الذي يتمثل في النص على مبدأ التمييز الإيجابي Affirmative Action في المجالس النيابية وفي غيرها من المؤسسات بحيث يتعين وجود نسبة معينة من الأقباط في كافة هذه المؤسسات. وقد سبق إعمال هذا الأسلوب في عديد من الدول لتمكين الفئات التي لم تنل حظها من المشاركة لأسباب متعلقة بالجنس أو اللون. وذلك خلال فترة مؤقتة شرط أن تكون كافية كي يستقر في الوعي الجماعي قبول وأهمية مشاركة هذه الفئات في العمل العام].
لكن د. رياض أدهشنا ـ من ناحية أخرى ـ بقوله في كلمته الملقاة أن quot;الأقباط ليسوا أقليةquot; متخذا دليلا على ذلك مقولة السير كرومر الشهيرة. وهو كلام قد يصدر عن quot;سياسيquot; يهمه التمييع والتغطية على موضوع التمييز بأي شكل، أو قد يصدر بصورة عاطفية أثناء أحد لقاءت تقبيل اللحى، ولكن لا يمكن توقعه من أستاذ قانون دولي مرموق لأن التعريف الدولي للأقلية أمر لا يحتمل quot;الفصالquot;. وأيضا ذكر د. رياض أن [النظام الديموقراطي يرتكز على ركنين أساسين هما أن يكون الحكم للأغلبية وأن تحترم حقوق كافة الأقليات] بينما كان من الضروري أن يؤكد بوضوح، وهو الأستاذ المدقق، إلى كون quot;الأغلبيةquot; المشار إليها في عبارة quot;الحكم للأغلبيةquot; هي أغلبية quot;سياسيةquot; فقط لا غير.
10ـ جاء البيان الختامي للمؤتمر مطولا بعض الشيء، لكنه ابتعد عن الأساليب الإنشائية والتزم بالموضوعية العلمية وبالتحديد. وجاء على رأس التوصيات: [مطالبة مؤسسات الدولة بالقيام بدورها في تفعيل أسس دولة سيادة المواطنة والقانون (..) وفي تكريس مبدأ المساواة (..) كسياسة عامة تترجم واقعيا فيما يتخذ من قرارات إدارية ومشروعات قوانين].
ولكن كنا نتمنى التأني في التقدم بالتوصية التي تنص على [التوجه إلى خيرة خبرائنا القانونيين والحقوقيين للعمل على تعديل المادة الثانية من الدستور باستنباط مقاصد الشريعة الإسلامية، جنبا إلى جنب مع استلهام كافة القيم التي استقرت عليها الإنسانية والتي تضمنتها جميع الأديان والشرائع السماوية وغيرها من قيم حثت عليها مواثيق حقوق الإنسان وتوافق عليها العالم وأقرتها منظماته الدولية لجعلها هي المصدر الرئيسي للتشريع]
ومن بين أسباب اعتراضنا على تلك التوصية، بغض النظر عن كون تعديل أي مادة من الدستور ليس عملا يقوم به quot;الخبراءquot;، الذين يجب أن يقتصر دورهم على quot;صياغةquot; ما يستقر عليه المجتمع والقوى السياسية، هو أن أحد عيوب النص الحالي للمادة الثانية الغموض، إذ لا يوجد تعريف محدد لـ quot;مبادئ الشريعة الإسلاميةquot;، وإذا بالنص المقترح يزيد الأمر غموضا إذ يورد مجموعة من quot;المقاصدquot; والمبادئ التي تحتوي ـ مهما قيل ـ على تناقضات داخلية، ولا توجد آلية واضحة لتحديد أيها أولى بالمرجعية. أضف لذلك: من قال أن الدستور يجب أن يكون له مصدر رئيسي (أو quot;المصدر الرئيسيquot;) بينما لا تذكر دساتير العالم المتحضر سوى عدد من الأسس المنصوص عليها بالتحديد كالحرية والمساواة والعدالة، والالتزام بمواثيق حقوق الإنسان (التي تترجم تلك المبادئ بشكل محدد) وأيضا بفصل الدين عن الدولة. وبرغم يقيننا بحسن النوايا، نظن أنه كان الأجدر بموضوع هام كهذا أن ينال حقه من الدراسة المستفيضة قبل أن يعرض على المؤتمرين.
***
ختاما وبصفة عامة، لقد كان المؤتمر ناجحا بكل المعايير، ويزيد من وقع وطعم نجاحه كونه فاق كل التوقعات. بل يمكن الزعم أنه يمثل لحظة quot;تاريخيةquot; لم تعهد مصر مثيلا لها منذ عقود.
لكن هذا كله، من ناحية أخرى، يضع عبئا شديدا ومسئولية هائلة على المجموعة بسبب الارتفاع الناشئ في سقف التوقعات المستقبلية. لقد بدأت رحلة الألف ميل، ومن الضروري الاهتمام باستثمار النجاح واستمرار الزخم قبل أن يفتر الحماس (كما هي عادة المصريين)، مع مراعاة أهمية (بل حيوية) الحذر من كل القوى التي ترفض ما تسعى إليه المجموعة، وستحاول بكل الطرق quot;الشرعيةquot; وغير الشرعية أن تصيبها وأهدافها في مقتل.. ومن هنا مسئولية أن quot;تجاهدquot; المجموعة ورائدها بلا هوادة.