على وقع أحداث جورجيا، بات مشروعا طرح أسئلة من نوع هل تغيّر التوازن العالمي؟ هل في الأمكان القول أن روسيا أستعادت، وضع القوة العظمى على غرار ما كان عليه الأتحاد السوفياتي قبل أنهياره في العام 1992 من القرن الماضي وأن في أستطاعتها التصرف من منطلق أن لديها مناطق نفوذ خاصة بها في العالم؟ ولكن يبقى السؤال الأساسي هل ما نشهده حاليا قوة روسية أم ضعفا أميركيا؟ الجواب ألقرب ألى الواقع، قد يكون أن هناك ضعفا أميركيا ظهر من خلال أحداث عدة في أماكن مختلفة من العالم. هناك في المقابل رغبة روسية في أستغلال الضعف الأميركي ألى أبعد حدود والرد على ما تعتبره موسكو تحديات أميركية لا مبرر لها في مناطق نفوذ تقليدية لها، خصوصا في البلدان المجاورة للأراضي الروسية.
لا يزال من المبكر القول أن العالم عاد ألى أيام الحرب الباردة وأن هناك قطبين يتنافسان على النفوذ فيه. لا تزال الولايات المتحدة القوة العظمى الوحيدة في العالم ولا تزال روسيا تحاول أستعادة مكانة معينة أفتقدتها منذ ما قبل عقدين وتعتقد أن الظروف مواتية لتحقيق بعض من طموحاتها.
يفترض في من يفكر حاليا في أن روسيا باتت قادرة على منافسة الولايات المتحدة أو على قاب قوسين من ذلك، أن يتذكر أمرين. الأول أن الأتحاد السوفياتي أنهار لأسباب أقتصادية أولا وأخيرا. سقط الأتحاد السوفياتي لأنه كان عملاقا عسكريا يقف على ساقين ضعيفتين. من كشف الضعف السوفياتي كان رونالد ريغان الذي أمتدت رئاسته بين العامين 1981 و1988 من القرن الماضي. تحدث ريغان بعيد توليه الرئاسة عن quot;أمبراطورية الشرquot; ثم أدخل الأتحاد السوفياتي في لعبة سباق التسلح عندما أعلن عن مشروع quot;حرب النجومquot; الذي يستهدف من الناحية النظرية بناء شبكة دفاعية في الجو تحمي الأراضي الأميركية من الصواريخ العابرة للقارات. فشل الأتحاد السوفياتي في مجاراة الولايات في سباق التسلح لأسباب أقتصادية أولا. لم يستطع ميخائيل غورباتشوف الذي خلف العجوز قسطنطين تشيرننكو في العام 1985 وصار الأمين العام للجنة المركزية للحزب الشيوعي السوفياتي سوى الوقوف موقف المتفرج من عملية تفتت النظام من داخل. أدرك متأخرا أن الخلل اقتصادي وأن اصلاح النظام صعب للغاية، بل مستحيل. أطلق شعاري quot;غلاسنوستquot; وquot;بريسترويكاquot; وترجمتهما التقريبية quot;الشفافيةquot; وquot;أعادة بناء الأسس التي يقوم عليها النظامquot;، لكنه أكتشف أن الخلل بنيوي وأن العلة أعمق بكثير مما يعتقد خصوصا بعد أنهيار جدار برلين في تشرين الثاني- نوفمبر 1989. قبل ذلك، وقع حدث في غاية الأهمية تمثل في سقوط النظام الماركسي في ما كان يسمّى اليمن الجنوبية نتيجة فقدان الأتحاد السوفياتي القدرة على التحكم باللعبة السياسية والتجاذبات داخل البلد. حصل ذلك في الثالث عشر من كانون الثاني- يناير 1986. لم تجد موسكو بدّا من اللجوء ألى البحرية البريطانية لأخراج رعاياها من عدن. وتولى يخت الملكة، وكان أسمه quot;بريتانياquot; نقل المواطنين السوفيات ألى شاطئ الأمان. تبين في حينه أن عبارة الزعيم الصيني الراحل ماو تسي تونغ عن أن quot;الأمبريالية نمر من ورقquot; تنطبق على الأتحاد السوفياتي وليس على الدول الرأسمالية على رأسها الولايات المتحدة.
أما الأمر الثاني الذي يفترض في أن يتذكره أولئك الذين يعتقدون أن روسيا أستعادت قدرتها على منافسة الولايات المتحدة، فهو أن حجم الأقتصاد الأميركي، على الرغم من أرتفاع أسعار النفط الذي يصب في مصلحة روسيا، يفوق حجم الأقتصاد الروسي بست عشرة مرة تقريبا. أستنادا الى مجلة quot;ايكونوميستquot; الجدية يبلغ حجم الأقتصاد الأميركي 12 ألف مليار (بليون) و417 مليون دولار في حين أن حجم الأقتصاد الروسي في السنة 2008 هو 764 مليار (بليون) دولار! وتأتي روسيا خلف كل من اليابان وألمانيا والصين وبريطانيا وفرنسا وأيطاليا وأسبانيا وكندا والهند والبرازيل وكوريا الجنوبية والمكسيك. وتتقدم روسيا في حجم أقتصادها على اوستراليا وهولندا وسويسرا وتركيا... نعم حجم الأقتصاد للبلد الصغير الذي أسمه سويسرا أكبر من حجم الأقتصاد التركي.
ماذا يعني ذلك كله؟ يعني أن روسيا قادرة على المناورة في مناطق قريبة منها مثل جورجيا معتمدة على الأخطاء التي ترتكبها أدارة أميركية في آخر أيامها ورئيس جورجيا ميخائيل سكاشفيلي الذي أساء التصرف، بل تصرف برعونة، عندما أعتقد أن العالم quot;الحرquot; سيهب لنجدته بمجرد أن تقدم روسيا على تحرك عسكري في أتجاه الأراضي الجورجية. حتى الآن، لا يزال كبار المسؤولين الأميركيين يؤكدون أن لا مجال لأي عمل ذي طابع عسكري للرد على التصرف الروسي. واكتفت الأدارة الأميركية بتصعيد لهجتها وبتوقيع أتفاق مع بولندا في شأن quot;الدرع الصاروخيةquot; التي يعترض الروس عليها.
ليست روسيا وحدها التي تحاول الأستفادة من الضعف الأميركي في الأشهر الأخيرة من أدارة بوش الأبن. أيران تحاول ذلك ومعها النظام السوري. لم تكن quot;غزوة بيروتquot; الأخيرة التي نفذها quot;حزب اللهquot; في أيار- الماضي سوى جانب من المحاولات الهادفة ألى أستغلال هذا الضعف وفرض واقع سياسي جديد في لبنان مبني على تغيير في التوازنات الداخلية. لم ينجح المحور الأيراني- السوري في ذلك كليا بعدما تبين أن لبنان يفاوم وأن اللبنانيين الشرفاء على أستعداد للمقاومة وأنهم لم يراهنوا يوما على الأدارة الأميركية ولا على غيرها في معركة الحرية والسيادة والأستقلال التي لا تزال مستمرة. وأذا كانت زيارة الرئيس بشار الأخيرة لروسيا تعني شيئا، فأنها تعني أن المقارنة بين روسيا وجورجيا من جهة وبين سوريا ولبنان من جهة أخرى ليست في محلها وهي مبينية على حسابات خاطئة ليست في مصلحة سوريا والسوريين ولا لبنان واللبنانيين، خصوصا متى نظرنا عن قرب ألى المشاكل الداخلية التي تعاني منها سوريا وفي مقدمها المشاكل الأقتصادية والأجتماعية، فضلا بالطبع عن مشكلة النظام في حد ذاته والعائدة الى طبيعة تكوينه. انها مشاكل لا يمكن حلها عن طريق أخذ لبنان رهينة، تارة عن طريق الأستفادة من الحرب الباردة وطورا عن طريق صفقة مع الأميركيين بعد أنهيار الأتحاد السوفياتي ودائما عبر التلويح لأسرائيل بأن أي نظام آخر في دمشق سيكون أسوأ من النظام الحالي بالنسبة أليها. على العكس من ذلك، أن التعاطي مع الأرقام والواقع، يمكن أن يعفي النظام السوري من متابعة لعبة الأبتزاز التي سترتد عليه عاجلا أم آجلا.
لا تزال الولايات المتحدة، على الرغم من غرقها في الوحول العراقية وعلى الرغم مما تواجهه في أفغانستان وما ستواجهه من مشاكل ضخمة في باكستان قريبا، القوة العظمى الوحيدة في العالم. ولا تزال قادرة على ممارسة ضغوط على دولة مثل روسيا، لا بد أنها تدرك أن ثمة حدودا معينة لا تستطيع تجاوزها. من لديه أدنى شك في ذلك، يستطيع أن يطرح على نفسه السؤال الآتي: مع من تريد روسيا عقد صفقة في شأن مناطق نفوذها في البلقان والقوقاز؟ مع من يريد النظامان الأيراني والسوري التفاهم في شأن ضمان مستقبلهما والنفوذ الأقليمي الذي يحلمان به؟ أليس مع الولايات المتحدة وليس مع غيرها؟ أليس مع quot;الشيطان الأكبرquot; الذي لا يتوقف عن أرتكاب الأخطاء... من منطلق أنه قادر دائما على أستيعاب نتائجها. من قال أنه ستقوم قيامة لأميركا بعد هزيمة فيتنام في نيسان- أبريل من العام 1975؟ هل روسيا أقوى من الأتحاد السوفياتي كي تنتصر على الولايات المتحدة؟ أم يعتقد النظام السوري أنه قادر على صنع الفارق وأن يقدم لروسيا ما تحتاجه كي تستعيد وضع القوة العظمى؟ هناك مثل فرنسي يقول: أن المزحات القصيرة هي أفضل المزحات. الأمل أن تكون المزحة الأخيرة قصيرة ألى أبعد حدود وذلك من باب الحرص على سوريا العربية والشعب السوري الشقيق لا أكثر.