لبنان فكرة. لبنان صيغة عيش مشترك. لبنان فكر ديموقراطي. لبنان على تماس مع الحضارة. لبنان على تماس مع العالم. اللبناني حر . اللبناني غير مدجّن. لبنان ليس بعثيا ولا علاقة له من قريب أو بعيد باحزاب متخلفة من هذا النوع. لذلك يرفض لبنان الأستسلام. ولذلك، يتأكّد في الذكرى الثالثة والثلاثين للحرب التي يتعرّض لها لبنان أن الوطن الصغير لا يزال يقاوم وأن المحاولات الهادفة ألى تفتيته ستتحطم على صخرة الصمود الذي يظهره المجتمع اللبناني بكل فئاته. من كان يتصوّر أن بيروت ستعود لؤلؤة شاطئ المتوسط في خلال سنوات قليلة؟ من كان يتصور بعد كل ما تعرّضت له المدينة أن الهجمة عليها ستتجدد من أجل أخضاع لبنان وأظهاره في مظهر البلد الذي يحتاج بأستمرار ألى وصاية؟ ولكن، من كان يتصوّر بكل أسف أن لبنانيين سيلعبون هذه المرة الدور الذي لعبته المنظمات الفلسطينية الموالية للنظام السوري، على رأسها quot;القيادة العامةquot;، في منتصف السبعينات وبداية الثمانينات بالنسبة ألى تعطيل قلب لبنان... أي بيروت؟ من يتصور مثلا أن في أستطاعة ميشال عون القائد السابق للجيش اللبناني، الذي يدّعي الدفاع عن حقوق المسيحيين فيما هو في الحقيقة يتاجر بهم، سيلعب دور الأداة لدى quot;حزب اللهquot; الأيراني ويعتدي على الأملاك الخاصة والعامة في وسط بيروت خدمة لأهداف النظام السوري؟
ثلاثة وثلاثون عاما ولبنان يقاوم. ثلاثة وثلاثون عاما ولبنان الحضاري والديموقراطي يقاوم النظام السوري الذي أعتبر دائما أن الأنتصار عليه بديل من الأنتصار على أسرائيل وأن لا دور له في المنطقة سوى على حساب لبنان. ثلاثة وثلاثون عاما والهجمة على بيروت مستمرة بهدف واضح يتمثل في نشر البؤس في لبنان وتهجير اللبنانيين من أرضهم لتكريس لبنان quot;ساحةquot; لا أكثر. لو لم يكن الأمر كذلك، لكان لبنان عرف الراحة منذ فترة طويلة، أي منذ اليوم الذي تم التوصل فيه ألى أتفاق الطائف في العام 1989 وأنتخاب رينيه معوّض رئيسا للجمهورية. لكن الهجمة أستمرت وأستخدم النظام السوري كل ما لديه من وسائل ضغط وترهيب للأنقلاب على الطائف بدءا باغتيال رينيه معوض وأنتهاء بأستخدام ميشال عون بالطريقة المناسبة كي يسهل عليه الدخول ألى قصر بعبدا ووزارة الدفاع للمرة الأولى في تاريخ العلاقة بين البلدين منذ أستقلالهما. في غضون ذلك، نجح هذا النظام في أيجاد بديل من الوجود الفلسطيني المسلح عبر وجود أيراني يجسّده quot;حزب اللهquot; الذي ليس سوى لواء في quot;الحرس الثوريquot; بعناصر لبنانية.
في ثلاثة وثلاثين عاما، لم يتغيّر شيء في عقل النظام السوري الذي لم يتوقف عن أرسال الأسلحة ألى لبنان وخلق بؤر أمنية فيه منذ ما قبل الثالث عشر من نيسان- أبريل 1975 وذلك من أجل أثبات أن الوطن الصغير في حاجة دائمة ألى الأخ الأكبر. من يتذكّر أنه في أيار- مايو من العام 1973، خاض الجيش معارك مع المقاومة الفلسطينية التي صارت دولة في قلب الدولة في لبنان. كانت النتيجة أن النظام السوري ردّ بأغلاق الحدود مع لبنان. ولم يعد فتح الحدود ألا بعد تأكده من أن الدولة داخل الدولة ستقوم وتتكرس على حساب الدولة اللبنانية. الهدف كان دائما الدولة اللبنانية. ولذلك تستمر المحاولات من أجل دك اسس الدولة في لبنان عبر تدمير مؤسساتها. من أجل ضرب مؤسسات الدولة اللبنانية والحؤول دون تفاهم بين اللبنانيين، أغتيل كمال جنبلاط في العام 1977. حصل ذلك، عندما وصل الزعيم الوطني الراحل ألى قناعة بأن لا مفر من تفاهم بين اللبنانيين. في كل مرة كان هناك أمل في تفاهم بين اللبنانيين، كانت ترتكب جريمة كبيرة. لم يتعرض أي لبناني للقتل ألاّ عندما كان هذا اللبناني نموذجا لرجل الوفاق أو عندما يلعب دورا في أعادة بناء مؤسسات الدولة والمحافظة عليها. لذلك أغتيل كثيرون بدءا بالرئيس المنتخب الشيخ بشير الجميل عندما صاروا وفاقيين. لم يتخلص السوريون من بشير الجميّل عندما كان يلعب من حيث يدري أو لا يدري دورا تقسيميا. قتلوه عندما صار هناك ألتفاف لبناني حوله. لم يتخلص السوريون من المفتي حسن خالد ألا لأنه كان يمثل في مرحلة ما بداية التحول الداخلي لدى السنة في أتجاه رفع شعار quot;لبنان أوّلاquot;. وسيأتي اليوم الذي يتبين فيه أن النظام السوري لم يكن بعيدا عن التخلص من الأمام موسى الصدر كونه رجل وفاق بين اللبنانيين وكونه أستوعب باكرا أهمية الصيغة اللبنانية ببعدها الحضاري بالنسبة ألى كل الطوائف اللبنانية في مقدمها الطائفة الشيعية. وسيظهر يوما أن الرئيس حسين الحسيني لم يبق رئيسا لمجلس النواب لأنه رجل وفاق وتوفيق بين اللبنانيين... وأن الرئيس صائب سلام، رحمه الله، لم يُهجّر من لبنان ألا لأنه كان رمزا لبنانيا يتجاوز الطوائف والمذاهب والمناطق وأن الرئيس تقي الدين الصلح ،رحمه الله، أغتيل سياسيا قبل سنوات عدة من وفاته كونه فوق الطوائف والمذاهب.
كان كافيا أن يكون رفيق الحريري رجل بناء وتنمية ووفاق بين اللبنانيين كي يُفجّر موكبه. جريمة رفيق الحريري أنه أعاد لبنان ألى خريطة المنطقة والعالم. لا تعبر كمية المتفجرات التي أستخدمت في أغتياله سوى عن كمية الحقد الذي يكنه النظام السوري لكل من يعمل من أجل لبنان... ومن أجل سوريا العربية في نهاية المطاف نظرا ألى أن الأزدهار اللبناني لا يمكن ألاّ أن تكون له أنعكاساته الأيجابية على سوريا والسوريين. والعكس صحيح.
منذ أغتيال رفيق الحريري، أستمر مسلسل الجرائم والتفجيرات. الهدف تغطية الجريمة بأخرى أكبر منها. لم يتغير شيء، بأستثناء أن النظام السوري سيكتشف أن سياسته اللبنانية القائمة على منع قيام دولة عبر التخلص من أي رمز للوفاق أو لمشروع تنمية وبناء سترتد عليه عاجلا أم آجلا.
ثلاثة وثلاثون عاما ولم يتغير شيء في السياسة السورية تجاه لبنان. لم يتغير شيء ألى حد أنه صار هناك فيتو سوري على قائد الجيش العماد ميشال سليمان بمجرد أنه صار مرشحا وفاقيا! نسي كبار المسؤولين في دمشق أمرا واحدا هو أنهم خرجوا عسكريا من لبنان. أخرجهم اللبنانيون. لن يتمكن quot;حزب اللهquot; من أعادتهم ألى الوطن الصغير. لن يعيدهم أليه أغلاق مجلس النواب. لن تعيدهم أداة مسيحية مهترئة أسمها ميشال عون. لن تعيدهم أليه كل التفجيرات والجرائم والحروب المفتعلة. ليس أمامهم سوى أنتظار المحكمة الدولية. لم يعد أمامهم غير خيار المحكمة. لم يعد الخيار بين لبنان والجولان الذي فضّلوا فيه لبنان في أستمرار!