كما العادة في كل صيف، كان موسم أصيلة الثقافي الدولي حدثا أستثنائيا وسط الصحراء العربية الشاسعة التي باتت هذه المدينة المغربية الصغيرة من واحاتها القليلة. كانت أصيلة مرة أخرى وفية لثقافة الحياة ولتراثها المرتبط بكل ما له علاقة بالذوق والثقافة والفن الراقي والموسيقى والحرية والأنفتاح والتسامح في أطارها الخلاب والبسيط في آن. مرة أخرى تفوقت أصيلة على أصيلة في الذكرى الثلاثين لموسمها الثقافي. مرة أخرى كان خيار الندوات موفقا بفضل رئيس البلدية السيد محمد بن عيسى، وزير الخارجية السابق للملكة المغربية، الرجل الحريص على الطابع الأصيل للمدينة المطلة على المحيط الأطلسي. كان موسم أصيلة هذه السنة أمتدادا لتاريخه، أي كان أمتدادا للحوار الثقافي مع عالم يجهله العرب عموما هو أميركا الوسطى والجنوبية. وليس صدفة أن تكون المكسيك أختارت بوابة أصيلة ليقدم فنانوها عروضا موسيقية وكي تعرض بعضا من حضارتها في باحات المدينة القديمة. وليس صدفة أن تكون أسبانيا التي هي على مرمى حجر من أصيلة أختارت المدينة المغربية لتؤكد العلاقة الخاصة مع المغرب وشمال أفريقيا على الرغم من التجاذبات التي مرت بها هذه العلاقة في السنوات الأخيرة. فقد حضر مجددا ألى أصيلة هذه السنة وزير الخارجية الأسباني ميغيل أنخيل موراتينوس مغتنما فرصة موسمها لتكثيف الحضور الثقافي لبلاده في المغرب وذلك من خلال شمال المملكة حيث يتكلم كثيرون اللغة الأسبانية. وتلا موراتينوس رسالة من رئيس الوزراء خوسيه رودريغيز ثاباتيرو عن quot;تحالف الحضاراتquot;. وكان متوقعا مجيء ثاباتيرو بنفسه ألى أصيلة لولا أن ظروفا عائلية طارئة منعته من ذلك. وأجرى موراتينوس الذي كان يرافقه وفد كبير ومهم محادثات في طنجة القريبة من أصيلة مع السيد الطيب الفاسي الفهري وزير الخارجية المغربي في شأن التعاون المغربي ndash; الأسباني. ورافقت أسبانيا الرسمية نشاطات أخرى في أصيلة عندما شارك برناردينو ليون الأمين العام لرئاسة الوزراء في الندوة المخصصة للأعلام المكتوب وكانت بشراكة مع quot;جريدة الشرق الأوسطquot;، جريدة العرب الدولية.
أستضاف موسم أصيلة 2008 ندوتين تناولتا الأعلام. الأولى بشراكة quot;الشرق الأوسطquot; التي تحتفل أيضا بالذكرى الثلاثين لصدورها والأخرى بشراكة محطة quot;العربيةquot; الفضائية. ولا شك أن خيار quot;الشرق الأوسطquot; بالدخول في مناسبة عيدها الثلاثين في شراكة مع موسم اصيلة ورعاية ندوة عن الأعلام المكتوب ومستقبله، كان خيارا ذكيا نظرا ألى ألبعد الحضاري لموسم أصيلة وأرتباطه بثقافة الأنفتاح البعيدة عن أي نوع من أنواع التزمت ومواجهته التخلف بكل أشكاله. وأعلن المسؤولون عن quot;الشرق الأوسطquot; في أصيلة عن خطوات ملموسة لتطوير الصحيفة وتكريس أستقلاليتها من ناحية الفصل بين الجهاز التحريري من جهة والجهات الأدارية التنفيذية من جهة أخرى. وفي هذا السياق، كشف الأمير فيصل بن سلمان بن عبد العزيز رئيس مجلس أدارة quot;المجموعة السعودية للأبحاث والتسويقquot; من أصيلة عن تشكيل مجلس أمناء يتولى تقويم الأداء التحريري للمطبوعات الصادرة عن المجموعة، على رأسها quot;الشرق الأوسطquot;. وفسر الدكتور عزّام الدخيل رئيس مجلس الأدارة في quot;الشرق الأوسطquot; هذه الخطوة بقوله في الجلسة الختامية للندوة أن أنشاء مجلس الأمناء quot;سيمنح رؤساء التحرير حصانة خاصة أزاء أي تدخل في مهامهم التحريريةquot;.
تناولت جلسات ندوة quot;الأعلام في أفق القرن العشرينquot; محاور عدة من بينها quot;دور الصحافة العربية خارج الوطن العربي في تجسير هوة المعرفة بين العرب: الشرق الأوسط نموذجاquot; و quot;مصير الصحافة الورقية أمام الأعلام الألكتروني: الهوة الرقمية القائمة بين الشمال والجنوبquot;. ووفر المحور الأخير فرصة لمحمد بن عيسى كي يوجه، من موقعه كأمين عام لمنتدى أصيلة، دعوة ألى quot;أقامة صندوق عربي للقضاء على الهوة الرقميةquot;. كما وفر فرصة لمشاركين في الندوة لتوضيح أن الصحافة المكتوبة باقية حتى لو لم تعد هناك في المستقبل صحافة مطبوعة توزع بالطريقة التي توزع بها الآن الصحف والمجلات. فالبحث منكب حاليا على كيفية طبع الصحيفة الألكترونية أنطلاقا من الحاسوب الشخصي. أكثر من ذلك، هناك حاليا صحف كبيرة عدة في العالم، خصوصا في الولايات المتحدة، تنتج صحفا ألكترونية يختار رئيس التحرير فيها ومساعدوه مواد معينة للصحيفة اليومية التي ستطبع وتوزع في السوق تمهيدا لبيعها في الأكشاك أو المكتبات أو أرسالها ألى المشتركين.
المؤسف، في ضوء ما كشفته الندوة، أنه لم يظهر بعد وعي عربي للظاهرة الجديدة التي أسمها الصحيفة الألكترونية. هذه الصحيفة التي ستصبح عاجلا أم آجلا في أساس الصحيفة الورقية في حال بقيت على قيد الحياة بعد عشر سنوات أو عشرين سنة أو أكثر...
ما لم يبحث فيه المشاركون في الندوة في العمق، بعيدا عن التمويل والبحث في الصحافة كصناعة ومدى أستقلالها عن الجهة التي تمتلك القدرة على التحكم بالأعلانات والتمويل عموما، الأزمة الحقيقية التي يمر بها الأعلام العربي المكتوب حاليا. أنها ليست أزمة مرتبطة بالعقم الناجم عن ثقافة خريجي معظم الجامعات والمدارس العربية الذين تنتجهم البرامج التعليمية المتخلفة وترميهم في سوق العمل فحسب، بل أنها أزمة غياب الصحافيين أيضا. هناك كلام كثير عن الصحافة وصناعة الصحافة وأستقلالية الصحافة. وهناك مزج بين تحقيق بعض الصحف أرباحا بسبب الفورة النفطية من جهة والمستوى المهني للصحيفة من جهة أخرى. في المفابل لم يكن سوى كلام قليل عن الأنسان وأهمية الأنسان في صناعة الأعلام عموما.
كان موسم أصيلة 2008 في غاية الأهمية والفائدة بتحديده من حيث يدري أو لا يدري كون أزمة الصحافة العربية مرتبطة في هذه الأيام بغياب جيل جديد من الصحافيين. السؤال المطروح حقيقة، أنتهت الصحيفة الورقية أم لم تنته هو الآتي: ماذا ينفع أن تكون هناك صحف عربية ألكترونية أو ورقية ولا يكون هناك صحافيون؟