قبل أسابيع قليلة، اتصل بي هاتفيا مندوب فضائية عراقية لإجراء مقابلة تلفزيونية. سألته عن موضوع الندوة، فقال quot;هو عن تجربتك في الحركة الشيوعية، وخلافات اللجنة المركزية، والقيادة المركزية..quot; استوقفته في الحال، وأجبت نصا بأنني أرفض ندوة محورها هذا الموضوع، وذلك أولا، لأنه موضوع لا يدخل في هموم العراقيين اليوم، حيث هناك عشرات المشاكل الكبرى، التي يواجهونها، ويعانون منها، هم والبلاد، فأي جمهور عراقي يمكن أن يهتم بمثل هذا الموضوع، وهو أمام تفجيرات يومية، ومشاكل الخدمات، والفساد المستشري على كل الأصعدة، بينما الملايين تعاني من البطالة والفقر؟ وهناك الأزمات المتتالية بين القيادات الحاكمة، سواء عن كركوك، أو مشروع فيدرالية الجنوب، وغير ذلك من معضلات. إن الموضوع الذي تقترحونه يخص اهتمام فريق من مؤرخي تاريخ الحركة الشيوعية، ومكانه هو الدراسات، والكتب، وليس الندوات التلفزيونية. ثانيا، هذا موضوع أشبع الحديث عنه حتى التخمة، وثمة عشرات، وعشرات، من الشهادات، والدراسات، والمؤلفات، متروك لمن يهمهم من المختصين مستقبلا أن يغربلوها، ويمحصوها، للتوصل لنقاط تحليل مشتركة. ورغم إلحاحه، والتأكيد بأن الندوة تجري ضمن برنامج شهادات عن تاريخنا الحديث، فقد أكدت على موقفي، وقلت إنني على استعداد لحضور ندوة عن الوضع العراقي الراهن، وملاحظاتي عنه.
هل يعني هذا أنه ليس مفيدا العودة لبعض محطات تاريخنا السياسي، والاجتماعي، الحديث؟
كلا، فالمهم استعراض محطات عامة، تخص العراق كله، والمجتمع، والنظر فيما إذا كنا قد سرنا للأمام، وأين، أم تراجعنا؟ هل استفادت القيادات السياسية، والاجتماعية، والدينية، والثقافية، العراقية من دروس تجارب أمس؟
إن المقصود محطات تمثل ظواهر عامة، يمكن التوقف عندها لمقارنة الحاضر بالماضي، وأعتقد أن أفضل من قام بمجهود كهذا هو المفكر، والباحث الفذ علي الوردي، في مجلدات كتابه quot;لمحات اجتماعية من تاريخ العراق الحديث.quot; الوردي لم يؤرخ للأحداث كمؤرخي التاريخ، أمثال عباس العزاوي في مجلداته عن تاريخ العراق خلال قرون الاحتلال العثماني، أو مثل عبد الرزاق الحسني في مجلداته عن تاريخ الوزارات العراقية. الوردي استعرض التاريخ من وجهة نظر عالم اجتماعي، رابطا بالماضي بما وقع بعده.
إن من المفيد حقا، ومن المهم، أن نتوقف، مثلا، عند تطور وضع المرأة، أو عن رجال الدين والسياسة، ماضيا وحاضرا، أو النظرة للأقليات الدينية، أو عن الطائفية أمس ويومنا.
فمن هذا يمكن تكوين صورة بين مجتمعنا أمس، ومجتمعنا اليوم.
فيما يخص دور رجال الدين، فقد كفٍّروا في القرن التاسع عشر كل منجزات الحضارة الحديثة، وحتى الصحف، ثم جرفهم تيار الحضارة رغما عنهم، فاضطروا للقبول على مضض، ومنهم من أدخل أبناءه المدارس الحديثة، التي كانت تعتبر حراما في نظرهم. كان أهم ما يشغلهم، كما يكتب الوردي، التفريق بين الحلال والحرام، وبين الطاهر والنجس، وهذه موضوعات لا تزال تجتر، مع فارق ملحوظ، وهو أن معظم الفتاوى، في العالمين العربي والإسلامي، صارت تتمحور حول موضوع المرأة والجنس. في البداية كانوا يقاومون بقوة فتح مدارس للبنات، ومن الأحداث، أنه لما أراد والي بغداد العثماني في 1908 تأسيس مدرسة للبنات في بغداد، وعرض الأمر على مجلس أعيان العاصمة، عارض الغالبية الساحقة خوفا على quot;عفةquot; البنات، وعندما وجدوا أن القرار إلزامي، اشترطوا أن تكون بناية المدرسة في حارة لا تطل على السوق، وأن تكون عالية مرتفعة لكيلا يطل الجيران، وأن لا تكون فيها نافذة تطل على الحارة، وهنا قال الشاعر الزهاوي، عضو المجلس، متهكماً، لا مكان أفضل من منارة quot;سوق الغزلquot;، وهي أعلى منارة في جانب الرصافة1
لقد شارك رجال الدين في السياسة مع بداية الاحتلال البريطاني، وأصدروا الفتاوى للجهاد مع الدولة العثمانية التي احتلت العراق لأربعة قرون. وفي العشرينات، أصدرت المراجع الشيعية فتاوى ضد المشاركة في الانتخابات، وضد التوظف في دوائر الدولة، وكانت النتيجة تهميش دور الشيعة في الدولة. أما ما عدا ذلك، فقد ابتعد رجال الدين عن الخوض في تفاصيل السياسة، ولم يطالبوا بنظام إسلامي. لقد كان لرجال الدين حرمتهم، ومكانتهم، ودورهم الأخلاقي، والروحي، وكانت لقليل منهم أحيانا وجهات نظر سياسية، يعبرون عنها كمواطنين، ولكنهم لم يكونوا يطالبون بتسلم السلطة، او احتراف العمل السياسي، ومن حسن حظ العراق أنه لم تكن في تلك العهود أحزاب سياسية، تتخذ الدين ورقة لتسلم السلطة.
واليوم؟ لقد أصبح كبار رجال الدين في العراق يتدخلون في كل تفاصيل الحياة السياسية، باتفاق مع الأحزاب الدينية الحاكمة. صار كبارهم يتدخلون في كل شيء من مشاكل الكهرباء، إلى الانتخابات العامة، إلى انتخابات المحافظات، وإلى مشروع الاتفاقية مع الولايات المتحدة، حتى يمكن القول بموضوعية أن ما يجري هو طبعة عراقية من دولة quot;ولاية الفقيهquot;.
أما المرأة، فهي الضحية الأولى للأحزاب الدينية الحاكمة، ومراجعهم، وهو موضوع قلنا، وقال غيرنا، الكثير جدا فيه.
لم تصدر في الماضي فتاوى بتكفير غير المسلمين، وهو ما ورثوه من العهد العثماني، وكان التعايش بين الأديان في وضع جيد، حتى أنه أقام أعيان بغداد، وساستها، وشعراؤها في أوائل العشرينات، احتفالا في المدرسة اليهودية ببغداد، ووقف الشاعر معروف الرصافي لينشد:
quot;رغم اختلاف الدين، سوف يظلنا وطن يوحد بيننا دستوره.quot;
وقال الشاعر الزهاوي:
quot;عاش النصارى، واليهود ببقعة، والمسلمون جميعهم إخواناquot;
وهنا قام الحشد كله يضج بالتصفيق.
أي مرجع ديني اليوم، أو مثقف إسلامي العقلية، وأي حزب ديني، يدعو لمثل تلك الدعوة التي تجعل الوطن خيمة الجميع، والولاء للوطن فوق كل ولاء آخر؟! وهل لنا التذكير بما يحل اليوم للمسيحيين، والصابئة المندائيين، وفرض السفور على غير المسلمات، وحرق الكنائس، ألخ. ألخ. ألخ؟؟
إن النخب السياسية، والدينية، والثقافية، يمكن أن تلعب دورا إيجابيا نافذا، أو سلبيا، أمام أمراض المجتمع، وظواهره السلبية: إما أن تكرسها، وتزيدها، وتعمقها، وإما أن تزيدها هولا على هول، كما تفعل اليوم، مع الأسف، غالبية القيادات السياسية، وفي المقدمة تغذية الطائفية التي مارسها صدام بعنف، ومثابرة.
الأحزاب الحاكمة اليوم لا تنطلق من منطلق أن العراق هو الأصل، وأنه خيمة تسع للجميع مع ضمان حقوق الجميع. إن الولاءات المذهبية، والدينية، والعرقية، والحزبية، تكاد تهمش تماما الولاء للوطن، والشعور بالمواطنة العراقية، أو كما ورد في مقالنا المنشور في 3 حزيران 2003، بعنوان quot;نعم، المواطنة هي الأساسquot;، مستعيرين ما ورد في مقال للكاتب محمد بن عبد اللطيف الشيخ.
تلخيصا، نكرر ما ورد في مقالنا في أيار 2005:
quot; كان العراق نموذجا للتعايش الجميل بين الأديان، والأقوام، والمذاهب، برمضان الكريم، ويوم عاشوراء، وتلاوة الحاج محمد عبد الوهاب للقرآن من دار الإذاعة، والمولد النبوي، وليالي شارع أبي نؤاس، والجميلات السافرات، وأغاني الحب الصادحة، والأفلام العربية، والهندية، والغربية، ومجالس الفاتحة على أرواح شهداء النضال في الجوامع، والقاعات، حيث تختلط وفود رجال الدين المسلمين، من شيعة، وسنة، وحاخامات، وقسس، وغيرهم، وكان العراق حتى الستينات كخلية نحل للنشاط الفني والأدبي والشعري، والفكري.quot;
والآن، فكيف كنا قبل صدام، وكيف نحن اليوم؟