شكل مفهوم quot;السلطةquot; جزءًا كبيرًا من عقلية الانسان العربي، بكل ما يكتنزه هذا المفهوم ويرتبط به من عنف صريح ومقنع، وأصبح هذا المفهوم يسيطر على شتى التصورات والمسلكيات عند الشعوب التي لم يتبلور عندها مفهوم quot;الفردانية quot; والحق المدني وما ينبثق عنه من حق الفرد في تقرير خياراته؛ ذلك ان معظم التصورات بما فيها آراء بعض النخب، في الأعم الغالب، عبارة عن اعتقادات جاهزة منمّطة لا مكان لإعمال العقل فيها، وهي في أحسن الاحوال عاجزة عن عن تأسيس بنية أخلاقية قادرة على بلورة الحس الفردي، حيث نجد ان معظم الذين نادوا بزوال القمع في دولنا العربية يمارسون قمعًا أشد بأسًا وأشد تنكيلا، ونجد ان العديد من المتبجحين مستعدون لتقديم شعارات حول الحرية في حين أنهم يكرسون العبودية في مسلكيتهم اليومية!
فكيف يرى quot;الانسان العربي quot; السلطة؟ وما هي الدولة بالنسبة له؟ و ما هو quot;الفردquot; في الذهنية العربية؟؟
كيف يرى الفرد العربي علاقته بالدولة؟
يتجه سكان الدول الغربية عادة الى الاعتقاد أن ثمة رابط متين يشد الفرد تجاه دولته، التي تمثل له المؤسسة الرسمية المعنية بحفظ حقوقه وصيانتها، وهي المسؤولة عنه وعن سلامته و حاجاته الأساسية، وهي المعين له في أزماته، وهي التي تنظم له علاقته وتضمن له حقوقه مع دوائر المجتمع، بدءًا من الأسرة وصولا الى علاقات العمل، وتتبلور هذه العلاقة الايجابية المتناغمة من خلال عقد اجتماعي بين كلّ فرد والدولة، لذلك فالمواطن عندها يشعر بالأمان في التعاطي مع رموز دولته ومؤسستها و يجنح اليها كأول حلّ لأي مشكل يعترضه او ينتهك حقوقه، هكذا يمكن ان نلخص علاقة الفرد بالدولة في الانظمة الغربية فكيف الحال في الانظمة الاخرى ومنها العربية؟
طيلة أعوامٍ مضت وانا أحاول أن أفهم جوهر العلاقة الجدلية المعقدة في عالمنا العربي وعلاقة quot;الفرد بالسلطةquot; - ولا أقول بquot;الدولةquot; لان الانظمة القائمة لم ترق لأن تكون quot;دولاquot; بعد- علما ان هذه العلاقة تتشابك حولها معطيات كثيرة بالغة التعقيد، وتتدخل فيها العقائد والديانات والثقافات المتراكمة عبر عصور، ناهيك عن بنية الفكر المؤسس للممارسات ؛ محاولتي تلخصت برصد وجهة نظر الفرد العربي تجاه السلطة بدءًا من عامة الناس وصولا الى النخب الفكرية والسياسية والثقافية.
ويمكن ان يسجل المرء الملاحظات التالية:
السلطة في أذهانهم عامة الشعوب العربية، عبارة عن جهاز منفصل عنهم قائم بذاته لا علاقة لهم فيه في أحسن الأحوال، وبالمجمل فالعلاقة مبنية على التوتر والنفور، وغالبا ما تسعى الشعوب الى الوصول الى معادلة تسوية قائمة على ما مبدأ quot; ياحكومة انت بحالك وأنا بحاليquot;، وقد ساد توافق عند الافراد العاديين نساءًا ورجالا، على انه من الجيد والاسلم ان لا يتعاطى الفرد في اي امر يخص الشأن العام، وان يبتعد عن السياسية وأهلها قدر الإمكان! والغريب ان معظم العائلات العربية بتربيتها الراديكالية تتفاخر بأنها تربي أبنائها على الجهل التام بالسياسة والحقوق المدنية!
هذه صورة عامة تنطبق على معظم الشعوب العربية،أما في بعض الانظمة quot;الشموليةquot;، فالمشهد أشد سوادًا، وعلاقة الفرد بالسلطة أكثر توترًا، فالسلطة والدولة تتلخص من وجهة نظر الفرد بأنها عبارة عن جهاز قمع وتأديب، وهو جهاز حرّ بأن يفعل ما يشاء ساعة يشاء، وينتهك حقوق الفرد والجماعة ساعة يشاء، دون ان يعارضه أحد، ومن يتجرأ ويفتح فمه فسيلقى مصير من سبقه، وهي تتلخص في الاذهان برموز هي quot;الطاغية - الشرطة ndash; السجن ndash; البلطجة ndash; الفساد المالي quot;، لذلك فالسواد الاعظم من الشعب في هكذا نظام يلتزمون الصمت التام ويقفلون أفواههم، يشتمون سلطتهم سرًَا ويدعون للزعيم بطول العمرجهرًا!
اما في بعض الدول العربية الأخرى فإن السلطة في نظر المواطنين هي عبارة عن عائلة حاكمة quot; مقدسةquot; لا يجوز لغيرها مجرد التفكير في كل ما يتعلق بأمور البشر و لايُسئلون بأي شكل عما يفعلون! ومفهوم الدولة والحق المدني غائب كليًّا في أذهان الناس ناهيك عن مفهوم الفرد حيث الفرد لا يرى ذاته الا من خلال عصبيته القبلية!
ومن المفارقة ان أنظمة كهذه أدت الى نشوء يأسٍ شعبي عارمٍ من كل ما يحيط بها، والأشد خطورة من اليأس هو أن من يتبنى quot;تغيير هذه الانظمة quot; هم quot;الحركات الأصوليةquot; في حين ان الانتلجنسيا والنخب شُردت في شوارع الدول الاوروبية، فأي كارثة أشد تحيط بنا من ان نجد ان quot;الأصولياتquot; على رأس الثائرين من أجل الديموقراطية والحرية والحقوق؟ على الرغم من غياب القيم المدنية والحريات من عقيدة هذه الحركات!
quot;الفردانية quot; تكامل اجتماعي وعدالة سياسية:
يمكن للعاقل ان يلحظ الغياب شبه التام لمفهوم quot;الفردانيةquot; و quot;الحقوق المدنيةquot; من عقلية الانسان العربي، فالفرد لا يُنْظَر له بوصفه كينونة خاصة لها حقوق مميزة، والحق الانساني بوصفه شيئ أصيل يتعلق بوجودية الفرد يكاد يكون غائبًا. اذن فعملية وعي مبدأ quot;الفردانية quot; يكون جوهر فهمنا للعلاقات الانسانية والاجتماعية والسياسية.
ان الفردانية مفهوم انساني جامع، ويتحقق من خلال quot;الفردquot; الماثل في الكيان الانساني؛ انها تطال الانسان بوصفه quot;كونًا ماديًّاquot; كما تمتد الى الجانب الروحي منه، وعلى هذا المستوى فالناس اجمعين يتساوون أما حقيقة quot;انسانية الفردquot;، التي تتمأسس بنيتها على مبدء أن جميع الافراد على اختلاف انتماءاتهم واعراقهم واثنياتهم يتمتعون quot;بالحق الانساني quot; و quot;حرية الروحquot;، وهم من وجه آخر يتكاملون في كيان غير متناقض. وهنا تكمن عظمة quot;الفردانيةquot; وحقيقتها في آن!
quot;لأنها تعني احترام التمايز والتنوع بين كل كائن وآخر في ضوء تكامل الاجتماعي والوحدة الوجودية؛ وان كنا نعد ان الفرد كيان محترم وكينونة مصانة، فإن إحترام حقوقه تفترض احترام quot; حريّة اختياراته الفرديةquot; وهي غاية كامنة في الكيان الانساني لا تُدرك الا من خلال quot;ديموقراطية فكريةquot; وتسامح حقيقي.
ان تحقيق quot;الفردانية لا يعني بحال من الاحوال تكريس quot;انوية البشر وعنصريتهم quot; بل هو مفهوم يتسع من quot;الانوية السلبية السلطوية الطاردة للآخر quot; الى مركزية مفهوم quot;الانوية الانسانية المتسامحةquot; إذا صح التعبير، وهي بهذا المعنى تتمحور حول: تحقيق خبرة الفرد الذاتية، اضافة الى تحقيق كينونته الاجتماعية في مجتمع انساني ؛ اما فردانية الروح فهي تتبلور من خلال quot;كونية الكائن في اطار وحدة الوجود quot;.
بطبيعة الحال لا مكان لعنصرية السلطة في هكذا منظومة لان السلطة ترتبط quot;بالعنفquot; بشكل مباشر ووجودها يتنافى مع احترام الانسان، الفردانية تتحقق في quot;دولةquot; بوصفها مؤسسة اجتماعية ترعى حقوق الافراد وتصبح السياسة وسيلة فعالة لتحقيق الادارة المدنية على الوجه الحسن، ويكون الساسة عندها هم quot;الحكماءquot; وquot;الرئيسquot; هو خادم التكامل والعقد الاجتماعي الساعي الى ان يتجاوز بانسانيته العنف والاكراه، منفتح القلب عادل.
لا اتحدث عن مدينة فاضلة! ولكن هذه هي حقيقة الكائن المسمى انسان!
ولن يستمر العنف وشهوة السلطة تأخذنا ونحن عنها غافلون!!
كاتبة لبنانية