ثقافة الاعتذار رشدٌ دبلوماسي وذكاء سياسي
quot; إننا نعتذر أخلاقيّا عما سببه الاستعمار الايطالي للشعب الليبي من آلامٍ وأضرار، ونتطلّعُ لطيّ صفحة الماضي وفَتحِ صفحة ٍ جديدة hellip; فبالمحبّةِ والصداقةِ لا بالاستعمار والكراهية ، يتحقق الرخاء ويعمّ السلام بين شَعبينا quot; سيلفيو برلسكوني رئيس الحكومة الايطالية
شجاعٌ هو موقف برلسكوني!
ففي مشهدٍ يوصف بالتاريخي، وموقف يوسم بالمِفصَلي في العلاقات الدولية، وفي سابقةٍ تُعد الأولى من نوعها، قدّم رئيس الحكومة الايطالية بشكلٍ رسمي اعتذار بلاده للشعب الليبي ، عن فترة الإستعمار التي شهدت عُنفًا واحتلالا دام ثلاثةَ عقودٍ، مكرسًّا معاهدة صداقةٍ بين روما وطرابلس تضمن عدم استخدام أي من البلدين أراضيهما في عملٍ عدواني ضدّ البلد الأخر ، كما لن يُسمح بموجبها للغير استخدام اراضيهما للاعتداء على الأخرى.
موقف ايطالي جميلٌ وجريء زمانًا ومكانًا، يختصر رموز المرحلة كلها، فهو تزامن مع الاول من سبتمبرquot; ثورة الفاتحquot;، وفي مقرالذي كان يشغله الحاكم العسكري الايطالي في مدينة بنيغازي، وبحضور نجلquot;عمر المختارquot;؛ واني لست من هواة جلد quot;المستعمرquot; وquot;تأليه الأبطالquot;، فما اسُتعمِرنا الا بسببنا من جهة، كما أن الانظمة التي تعاقبت علينا في دولنا العربية لم تكن أرفق حالا بنَا من quot;المستعمر المحتلquot;، كما أني لم أقرأ الموقف انتصارًا quot;لعروبةٍquot; على quot; حملات صليبيةquot; على نحو ما قرءها بعض quot;القومجيينquot; وquot;الاسلاميينquot; الذين يطالبون معظم الدول بالاعتذار منهم واعادة حقوقهم، دون ان يعترفوا هم بأخطائهم التي ارتكبوها بحق الآخرين؛ بل ان الموقف الايطالي يضع حدًّا لآلام خلفتها أنظمة شمولية خلقتها مرحلة أودت بالشعوب في أتون حرب عالمية لم تبق ولم تذر، فهل سيذكر التاريخ شجاعة برلسكوني كما سطر عنف موسوليني؟
الاعتذار وصناعة التاريخ:
بصبيعة الحال ، لا يجوز لنا قراءة التاريخ وفهمه بمعزل عن الأخلاق كما لا يمكن ان نحكم عليه من وجهة نظر أخلاقية بحتة ، فتاريخ الحضارات والامم والشعوب مشحون بكمية لا يستهان بها من الحروب والنزاعات وأعمال توسم بالعنف والقمع والإضطهاد ، وتاريخنا quot;العربيquot; مأزوم لانه يتمحور حول quot;حسناتنا وسيئات الاخرينquot; ، فهو يقدمنا كأبطال منقذين للامم من خلال اعتداءاتنا على الحضارات الاخرى التي أسميناها زورًا quot;فتوحاتquot; ، فيما كرس صورتنا كمُعتدى عليهم عبر مآسي حقبة quot;الاستعمارquot; ،أما تاريخ أنظمتنا quot;القائمة quot; فمليئٌ بحالات النفي والتشريد والاعدامات والابادات الجماعية! فهل العنف سيد التاريخ الوحيد وزعيم الجغرافية؟
ان قراءة واعية للأحداث تظهر لنا أن المواقف الانسانية اللاعنفية تشكل جزءًا من التاريخ الانساني، غير ان سيطرة الايديولوجيات المُحكمة والفكر الأصولي على بنى ثقافتنا جعلتنا ضحايا شروطٍ انتاج العنف تحت مسميات فاضلة ومنها quot;الانتصارquot;!
ربما تكون خيارات الديموقراطية والتسامح والسلام خيارات عاجزة عن صُنع التاريخ! والجواب: نعم!اذا ارتبط هذا الاخير بمنظومة العنف والحروب الدامية!
اما عندما يتميز الوعي الانساني ويرتقي الى مصافي الكونية ، تتسع مركزية الانوية الضيقة الى محورية عالمية فتتجاوز عندها الاخوة البشرية كل الاعراق والاديان والالوان، ويكون عندها التسامح واللاعنف والاعتذار صانعًا للتاريخ بانيًا لمستقبل الشعوب ، وسيذكر التاريخ quot;غانديquot; كما ذكر quot;نيرون quot;!
ثقافة الاعتذار وفن التسامح:
إن ثقافة الاعتذار وفن التسامح ، مرحلة متقدمة من الوعي الانساني والروحي، وسياسيًَا فإنها تشكل مرحلة رشدٍ ديبلوماسي في العلاقات الدولية، وهي ثقافة وجودية ترتكز وتتحقق على أصعدة مختلفة:
أولا على الصعيد الأخلاقي: فانها تشكل تجاوزًا للمواقف السلبية الصادرة عند الاطراف وتحقيقًا لفرص التعاطف والمشاركة
ثانيا على الصعيد العقلي فإنها تغلّب المنطق لفهم الآخر وتحسس آلامه ومعاناته وفهم موقفه الفكري وحالته في لحظته الحضارية ، الامر الذي يعكس استراتيجية أمل بعيدة الأمد، تتجاوز المنافع الآنية الضيقة.
اما على الصعيد السياسي، quot;فالاعتذار quot; يُخرج الاطراف من دائرة quot;الشجب والادانة والشجب المضاد quot; الى دائرة التعاون والبناء، وتحقيق الاستثمار على كافة المستويات بما فيها الاقتصادية والاجتماعية، وهو خروجٌ من دائرة العنف الى بلسمة الجراح التاريخية من خلال السعي الى تحقيق العدالة واحترام الاخر وبناء الثقة المتبادل.
فالاعتذار ليس تنازلا وطلبًا للمغفرة، كما ان التسامح ليس مجرد شفقة ، بل هو حالة تمثل خروجًا من دائرة النفع المباشر، الى دائرة العقل النبيل من خلال تحقيق الانسنة في علاقات الدول والشعوب.
ماذا بعد؟
وماذا بعد اعتذار الطليان لليبيا؟ فهل ستعتذر ليبيا لنفسها؟ وهل سيعتذر النظام عن أخطائه؟
ما الذي يمنعنا من الاعتذار والاعتراف باخطائنا التي ارتكبناها بحق الآخرين، من دون أن ننتظر أي ضغطٍ خارجي او داخليّ؟
متى سنعتذر للإسبان؟؟ و لماذا نعتبر غزونا فتحًا، ونعتبر غزو الاخرين لنا احتلالا؟؟
متى ستعتذر سوريّا للبنان مثلا على ما سببته له ولابنائه من آلام وأحزان؟؟
متى سيعتذر العراق رسميًّا من الكويت؟؟
متى سيعتذر الحكام العرب من شعوبهم ويكفرون عن جرائمهم ومجازرهم التي ارتكبت وترتكب بحق ابناء جلدتهم؟؟
متى سيعتذر الاباء من عنف تربيتهم لابنائهم؟؟ لماذا ينتظر العرب دائمًا من يحثهم quot;على فعل الخيراتquot;؟؟
أسئلة ليست خيالات واحلام ليلٍ عابر!
هي كلها في حُكم الممكنات إذا خرجنا من شلل عنفنا الفكري وعفننا الثقافي، وقممنا quot;التافهةquot; الى طموحات quot;سلام العوامquot; و quot;ايمان العجائزquot; التي لا تميز بين انسان وانسان ،ربما نستطيع ان نجد حلولا نوعية وابداعية في علاقتنا مع الاخر، دون خُطبٍ رنَّانة وفصاحة لسان فارغ في ظل جاهلية الروح والفكر العقيم ، وشعوبٍ تُقدم كل يوم فداءً لفساد الزعيم!