من الأهداف والمهام الرئيسة للدولة العراقية الفتية التي أنشئت عام 1921 بقيادة المرحوم (الملك فيصل الأول) تشييد منظومة تعليمية راسخة ؛ بدأ من المرحلة الإبتدائية ومرورا بالمتوسطة والإعدادية ؛ وإنتهاء بالمرحلة الجامعية العليا ؛ وفي الحقلين التقليدي والمهني. وقد جندت الحكومات المتعاقبة يومها افضل رجالاتها الوطنيين خلقا وأدبا وعلما وإدارة لتنفيذ تلك المهمة الخطيرة التي تعد أحد اعمدة البنية الأساس لنهضة العراق الحديث. ولم تغفل عن القطاعات الإنتاجية والخدمية الأخرى كقطاع الصناعة والمواصلات والإتصالات والزراعة والصحة وألإعمار وألإسكان وغيرها بالرغم من شحة موارد الدولة آنذاك. كما لم تغفل عن إنشاء جيش وطني قومي عصري ينهض بمهمة الدفاع عن حياض البلاد.
لقد كانت بدايات العمل جادة وراسخة بحيث جاء معظم المشاريع على نحو أثار إعجاب العراقيين والعالم. ولعلي أذكر هنا الدور المتميز الذي قام به (مجلس الإعمار) في تخطيط وتنفيذ مشاريع الطرق والجسور والموانئ والسدود ومحطات الكهرباء والزراعة وبناء المدارس والدور السكنية الشعبية وسواها. فهي ما تزال قائمة حتى اليوم لتشهد ولتشيد بوطنية الخبراء العراقيين وبحكمتهم وبإخلاصهم إذا ما أتيحت لهم الفرص لتمكين إراداتهم الحرة من العمل والبناء ؛ ولأظهار قدراتهم العلمية والفنية والإدارية في خدمة بلادهم. فقد تألف ملاك (مجلس الإعمار) يومئذ من افضل خريجي الجامعات الأمريكية والبريطانية والفرنسية وغيرها من المهندسين والمشتغلين في حقول العلوم المختلفة ومن رجال التخطيط والإقتصاد والمال ؛ ليس في العراق حسب بل وفي المنطقة كلها. فكانوا فخرا للعراق وعلامة مضيئة تشير ألى مستقبل زاهر كان ينتظر العراق الناهض. ومع خضوع سياسة الحكومات المتعاقبة للنفوذ البريطاني منذ إحتلال البلد عام 1917 وحتى تأريخ إرغامه على تركه تحت وطأة ضربات مناضلي (ثورة العشرين) الوطنية المباركة وضغوط سلسلة الإنتفاضات والوثبات التي قام بها الشعب العراقي البطل ، غير أن مسيرة العراق التنموية والنهضوية لم تتأثر كثيرا بتلك السياسة. بل وجدنا الخبراء والأطباء وألأساتذة ألأجانب أنفسهم قد ساهموا في تلك النهضة لتحسين صورهم أمام العالم ؛ وخصوصا في مجال التعليم العالي والعام والصحة والخدمات ألأخرى ؛ وفي طليعتها إنشاء محطتي توليد الكهرباء في (العبخانة) و(الصرافية) ، ومد خطوط الكهرباء الى الأزقة والدور السكنية. كما تم إيصال مياه الشرب إلى (السبيل خانات) المجانية وإلى الدور السكنية بواسطة (دائرة إسالة الماء) الواقعة في الباب المعظم ؛ قريبا من (حديقة المرض).
ولا بد ان يتذكر الكثير منا المستوى العلمي والمهني الرفيع الذي كانت عليه كليات (الطب) و(الصيدلة) و(الهندسة) و(الحقوق) و(الكلية العسكرية وألأركان) و(كلية بغداد) و(جامعة الحكمة) في العهد الملكي. ولا بد لنا أيضا من ألإشادة بالمستوى المتميز الذي حققته معاهد ومؤسسات ومختبرات ومصانع مثل (مديرية المباحث الصناعية) و(مديرية المختبر الكيمياوي) و(مديرية الزراعة العامة) و(معهد اللقاحات وألأمصال) و(معهد باستور) و(إدارة البرق والبريد) و(دار ألإذاعة) و(التلفزيون) و(السكك الحديد) و(مصانع الإسمنت) و(الطابوق) و(النسيج) و(الزيوت) وغيرها ؛ والتي كانت من المفاخر التي إعتز بها العراقيون يومذاك وما يزالون يذكرونها بكل خير وفخر حتى اليوم.
وقد تناوب على (وزارة المعارف) شخصيات مرموقة من المفكرين وألأدباء والشعراء والسياسيين نذكر منهم : (عزت الكركوكلي) و (محمد مهدي بحر العلوم) و(السيد هبة الدين الشهرستاني) و(عبد المحسن شلاش) و(حكمت سليمان) و(عبد الحسين الچلبي) و(جعفر العسكري) و(الشيخ محمد رضا الشبيبي) و(السيد عبد المهدي المنتفجي) و(خليل كنة) و(عبد المجيد القصاب) و(محمد فاضل الجمالي) و(عبد الحميد كاظم). وعلى تنوع أصولهم ألإثنية وأختلاف طوائفهم ومذاهبهم الدينية غير أن أفئدتهم كانت عامرة بحبهم وبإخلاصهم لتراب العراق ولوحدته التأريخية ولثقافتة العريقة ولتراثه الأصيل.
وكانت قد أنشئت مدرسة (الغربية المتوسطة) العتيدة في بغداد عام 1929 في منطقة (الكرنتينة) من منطقة (باب المعظم). وكان يحدها من الغرب (حديقة المعرض) الغناء التي كانت من أجمل حدائق الزهور في بغداد بعد (بارك السعدون) ، ومن الشرق (كلية الهندسة) ومن الشمال ( ثكنة الخيالة العسكرية) ؛ وفيها بوابتها الرئيسة ؛ ومن الجنوب ( كلية الملكة عالية). وكان يفصلها عن كلية الهندسة الشارع المؤدي الى (الوزيرية) ؛ وعن (ثكنة الخيالة ) الشارع الذي يربط بين هذا الشارع والآخر الذي يؤدي الى شارع (ألإمام ألأعظم). وقد ضمت بنايتها الجميلة الكثير من الصفوف وغرف الإدارة والمختبرات والمرسم والمكتبة والساحات والمرافق ألأخرى .
وقد تميزت (الغربية) بنظام تعليمي خاص لتدريس المواد يوم إلتحقنا بها عام 1942. فهو يقوم على مبدأ الصف المتخصص. فهناك صف للغة العربية وآخر للتأريخ وهكذا... حيث يتنقل الطلبة بين الصفوف المختلفة للقاء ألمدرسين ولأخذ حصتهم من الدروس. او لحضور الحصص العملية في مختبرات الكيمياء والأحياء والفيزياء. او ألإنتشار في الساحات لممارسة دروس الرياضة. وهي تعد من المدارس النموذجية من حيث فلسفتها التربوية والتعليمية والإدارية. فالمناهج وطرق التدريس قامت على مبدأ التفاعل الحيوي المباشر بين المدرس والتلميذ من أجل إشراكه في عملية التعلم ؛ وليكون طرفا فاعلا فيها. وكانت وسائل الإيضاح حاضرة في معظم الدروس. وكان هذا الأسلوب محفزا رئيسا لإغراء التلاميذ ؛ وبخاصة المجتهدين ؛ في اعداد التقارير وإلقائها امام زملائهم. فكان المرء يرى هؤلاء التلاميذ وهم يهرعون الى (المكتبة العامة) القريبة من المدرسة لمطالعة الكتب والنظر في المراجع وإعداد التقارير والواجبات المدرسية. أما المدرسون فكان معظمهم من خريجي (دار المعلمين العالية) الشهيرة ؛ وخصوصا أولئك الذين حصلوا على تدريبهم العملي فيها. وكانت (وزارة المعارف) تختار الطلبة الخريجين المتميزين من بين هؤلاء للعمل فيها وعلى ملاكها الثابت. كما دأبت على جذب المدرسين المتميزين من كافة الأقطار العربية ؛ وبخاصة مصر وسوريا وفلسطين ولبنان. وكان الجو الإجتماعي والتربوي العام يحتضن المدرسين من كافة الإثنيات والطوائف والمذاهب. فتجد المسلم الى جانب المسيحي واليهودي والصابئي. كما تجد العربي الى جانب الكردي والتركماني والسرياني. وجميعهم إخوة يعيشون كأسرة واحدة متعاونة ومتحابة. وكانت (ألمدرسة) تستقبل الطلاب من كافة أنحاء بغداد ؛ وبالأخص من المحلات القريبة.
أما نظام الإدارة المدرسية فكان يقوم على قواعد الجد والإلتزام بالمعايير التربوية المعهودة. الى جانب روح التسامح والعدل. وكانت ألإدارة والمدرسون يعاملون التلاميذ كإخوانهم الأصغر او مثل أبنائهم تماما. وكانت ظاهرة (المثل او القدوة الحسنة) هي السائدة بين معظم التلاميذ. فمن المظاهر المألوفة ان تجد هؤلاء التلاميذ وهم يحيطون بأساتذتهم بعد إنتهاء الحصص الدراسية : يناقشونهم او يتبادلون معهم الأفكار حول الدروس ؛ او ما يخص الشأن العام. ومما ساعد على ترسخ تلك النظم التعليمية والتربوية الجادة أن الجو الإجتماعي العام كان ملائما ومواتيا. فلم تكن هناك وسائل للهو والترفيه او لإضاعة الوقت. كما لم يكن أمام التلميذ سوى متابعة الدروس ومطالعة كتب الأدب والتأريخ ودواوين الشعر. بينما إتجه البعض الآخر لقراءة كتب العلوم ومتابعة الإكتشافات والإختراعات. في حين إنخرط آخرون في مزاولة الفنون التشكيلية والموسيقى والتمثيل والرياضة. فلم يكن غريبا ان يجد المرء نسبة لا يستهان بها من التلاميذ وهم يقرضون الشعر او يكتبون القصة او يمارسون الخطابة في المناسبات. ولعلي أذكر بهذه المناسبة بعضا من هؤلاء التلاميذ المعروفين الذين كانوا يمارسون تلك الفعاليات المدرسية.
فقد كان هناك الزملاء وألأصدقاء ( خليل القصب) شقيق الفنان الفطري الكبير (شهاب أحمد القصب) والذي هاجر الى أميركا ؛ و(ياسين طه حافظ) الذي اصبح فيما بعد شاعرا معروفا وغيرهما. وكان من ابرز فعاليات ثلتنا هذه الإنخراط في المطاردات الشعرية او إيقاع بعضهم البعض في (مطبات) إعراب (آيات قرآنية) صعبة او أبيات عويصة من الشعر. وكان هناك أيضا ( كريم محمد) الذي اصبح خطاطا معروفا. ويقع مكتبه في ساحة الرصافي. وهناك (نزار سليم) الفنان التشكيلي المعروف والذي تدرب في مرسم ألأستاذ (حافظ الدروبي) في (المدرسة) مع زميله (جمال رسول الزبيدي) ( شقيق الظريف فخري الزبيدي). ولم ننس أيضا الكاتب وألأديب (حارث طه الراوي). وهناك كذلك (حسن الناظمي) و(عبد الرحمن بهجت) الملقب بعباس واللذان ساهما في النشاط التمثيلي المدرسي . وأتذكر أيضا (طارق محي الدين عبد الرحمن) الفارع القامة والذي وصل الى رتبة عالية في الشرطة. وكان من بين مجموعتنا الشخصية المحبوبة (يوسف سعيد) الملقب (بالحجي) والحقوقي (راغب فخري) الذي شغل مركز الإدعاء العسكري العام. ومن المصادفات الجميلة أننا إنتقلنا سويا الى ألإعداية المركزية حيث عملت على إنشاء (جمعية الصناعات الكيميائية) ؛ فإنتخبت رئيسا لها وأنتخب (حجي يوسف) سكرتيرا) و(راغب فخري) أمينا للصندوق. وبرز بين طلبة المدرسة (صفاء محمد علي) الذي وصل الى رتبة لواء في الجيش العراقي الباسل. وكان لولب (المدرسة) في نشاطه الإجتماعي وفي ظرفه ومقالبه البريئة.
ولن أنسى الفنان ( حقي ـ حسقيل ـ يوسف) عازف الكمان الذي نشأ في محلة الخشالات. كما لم ننس ايضا الشاعر الشعبي المرموق (عبد القادر محمد) والملقب بالأسود لسمرة بشرته والذي زج به شعره في بعض (المطبات) غير المحسوبة !. وأذكر جيدا انه في أحدى المناسبات المدرسية أخرج قصيدته التي دونها على شريط ورقي طويل وأخذ يقرأ منه شعرا يصف فيه المدرسين مشيرا الى بعض خصالهم وعاداتهم الحميدة ؛ ولكن بإسلوب هزلي فكه. وقد أشاع جوا من المرح والبهجة بين المدرسين والتلاميذ. لكن (الشيطان) إعتاد على تسميم مثل تلك الأجواء المرحة. فحين وصل (عبد القادر) الى أستاذ الرياضيات المتميز علما وخلقا وأدبا (گدعون شهرباني) ؛ وكان من إخوتنا اليهود ؛ قال فيه:
(شهرباني ديرْ بالكْ
جُرْ عدِلْ ويّا الگبالكْ
ويْ بقىَ أشكُنْ إبدالكْ ..!؟.
وهنا تكهرب الجو.... فانسحبت الإدارة وإنفض الإحتفال. وسيق (عبد القادر) الى (ألإدارة) حيث تم فصله لمدة إسبوعين ...لولا طيبة (ألأستاذ) ودماثة خلقه ؛ حيث تنازل عن حقه... فقلصت العقوبة الى ثلاثة أيام. وهكذا كانت الحياة المدرسية تسير بين حزم ... وعدل ورحمة. ولم يسلم (كاتب هذه السطور) من قبضة ذلك الحزم وأشواك تلك الرحمة. فقد دفعني فضولي وحبي للرسم ان قمت يومها برسم مدرس اللغة الإنكليزية الأستاذ الطيب ( سمعان) وذلك أثناء الدرس... فإذا به يراقبني خلسة ؛ ليمسك بي متلبسا بالجرم المشهود. وبعد إنتهاء الدرس إصطحبني معه وعلى وجهه إبتسامة أثارت حيرتي وخوفي !. فإذا بي امام المدير ألأستاذ (عبد الحميد). فوقفت أمامه مطرق الرأس... حياء وأسفا. ولم انج من العقاب إلا بتنازل ألأستاذ الطيب القلب وبشفاعة بعض المدرسين وفي مقدمتهم ألأستاذ (الدروبي).
ولم يقتصر من أنجبتهم (الغربية المتوسطة) على هؤلاء التلاميذ وحسب ؛ بل كان هناك العشرات ممن اصبحوا أطباء ومهندسين وقضاة ومحامين وفنانين وكتابا وضباطا وموظفين كبار. فقد كانت (الغربية المتوسطة) مصنعا للرجال.... بحق.
أما الملاك التدريسي فكان من افضل وأقدر من أنجبهم العراق وألأقطار العربية. وقد أبدأ بمدرسي اللغة العربية الذين يشكلون قلب المدرسة النابض. وكان أن أكرمت المدرسة بثلاثة مدرسين مصريين من خريجي كلية (دار العلوم) في (جامعة الأزهر) في مصر. وهم ألأساتذة (بدوي أحمد طبانة) الذي صار فيما بعد استاذا في الجامعة نفسها ؛ و(محمود ابو الفتوح) و(محمود إبراهيم) الذين تميزوا برفعة ألأخلاق وسمو النفس وغزارة العلم. فقد حببوا الينا اللغة العربية: من قواعد وأنشاء وتعبير وخطابة وأدب وشعر. حتى اصبحت (العربية) في مقدمة هوایتنا الكثيرة ؛ بل وهوس البعض منا. كما درسنا (العربية) ألأستاذ المتمكن (ناصر الحاني) الذي إنتقل فيما بعد الى السلك الدبلوماسي. وألأستاذ القدير (خليل الخشالي) الذي كان قريبا من التلاميذ وخصوصا المجتهدين. ثم يأتي مدرسوا اللغة الأنكليزية الذين كانوا أشبه بباقة ورود لكل منها عطرها المتميز. وهم ألأساتذة (عزيزشلال عزيز) و(يرفانت ارستاكيس) و(بديل حمو) و(سمعان ...). وكانت لكل منهم شخصيته المتميزة. فمن طيبة قلب الى جدية والتزام في اداء الواجب والى غزارة في العلم ورقة في التعامل مع التلاميذ. ومن ثم يأتي مدرسوا الرياضيات الذين كانوا نماذج منتقاة بعناية كبيرة من حيث غزارة العلم والإلتزام بالأصول التربوية المعتمدة. وهؤلاء هم الأستاذ ( عبد الرسول كمال الدين) البالغ النشاط والظاهر الجد في إلقاء المحاضرات. وقد اصبح فيما بعد استاذا معروفا للكيمياء في كلية العلوم ومن اقرب اصدقاء (الكاتب). وهناك ألأستاذ ( ناصر طقطق) الذي تميز بالظرف وحب النكتة الى جانب الجدية في التدريس. وكذلك الأستاذ ( سعيد صفو) الذي يعد (حاسوبا) للمعلومات الرياضية فضلا عن جديته الفريدة وهيبته المحببة. وكان هناك أيضا ألأستاذ (گدعون شهرباني) الذي سبقت الإشارة اليه. فكان استاذا طيبا ودائم ألإبتسام ومتمكنا من علمه وإختصاصه ؛ وله اسلوب سلس في إيصال المادة الى التلميذ. ثم يأتي مدرسا الكيمياء وهما الأستاذ الهادئ الطيب ( صبري أيوب) ؛ وكذلك الأستاذ المقتدر (عبد الرحمن محمد خالد القيسي) والذي اصبح استاذا جامعيا فيما بعد. أما مدرسا ألأحياء فكان الأستاذ (عزيز وحيد) الشخصية المحبوبة وألأستاذ (ناجي عبد الأمير) الكيس والهادئ الطبع. وقد درسنا الجغرافية ألأستاذ (فيصل نجم الدين ألأطرقچي) الذي عرف بدماثة الخلق وبالجد والإلتزام. ثم ألأستاذ (صالح أحمد العلي) الشخصية الجادة المحبوبة والذي شغل فيما بعد رئاسة (المجمع العلمي العراقي).
وقد أعجب التلاميذ أيما إعجاب بطيبة ألأستاذ (عبد الحميد عبد الكريم) وبوقاره وكياسته. فقد كان مدرسا للدين. وكان لدماثة خلقه سمحا ومنفتحا ؛ حتى أنه لم يطالب يوما ما غير المسلمين بمغادرة الصف. فكانوا أحرارا في الإختيار. وتتلخص طريقته في التدريس بأن يطلب من التلميذ الجالس في مقدمة الصف أن يقرأ آيتين او ثلاث آيات من المصحف. ثم يبدأ بتفسيرها بإقتدار. وبعد أن ينتهي منها ينتقل الى التلميذ الذي يليه ... وهكذا. ولم يخل هذا الدرس من المفارقات والمفاجآت الطريفة. وكان التلاميد يلجأون الى خلق شتى الذرائع للتخلص من تلاوة السور الصعبة. ولعل من اكثرها شيوعا قولهم للمدرس ؛ وبلغة الهمس: (أستاذ...آني معذور)..!؟.
أما كوكب المدرسة فكان مدرس التأريخ ألأوربي ألأستاذ (عبد الكريم العطار). فإن وجدت جمهرة من التلاميذ مجتمعين حول مدرس معين فأعلم أنه.... هو !. فكان ذا هيبة ووقار. وقد أصبح فيما بعد مديرا للمدرسة. اما من درسنا التأريخ العربي والإسلامي فهو ألأستاذ الجاد الحازم (فاضل حسين) الذي صار فيما بعد استاذ جامعيا معروفا. ولعلي أختم ذكر الأساتذة بمدرس الرسم ألأستاذ والفنان الشهير (حافظ الدروبي) الغني عن التعريف. فبقدر ما كان ظريفا وصاحب نكتة كان جادا وحازما. اما مدرس الرياضة فهو شخصية شعبية معروفة بشعبيتها وبتواضعها. فمن لا يعرف ألأستاذ الحاج (ناجي الراوي) ؛ الممثل المعروف وعضو فرقة (الزبانية) !؟. فكان درس الرياضة بالنسبة لنا فسحة ومتعة ننتظرها بفارغ الصبر. وقلما نجا طالب من تعليقاته إذا ما تعثر او أخطأ. فقد كان (كاتب السطور) واحدا من ضحاياه البريئة يوم أجبرني على ملاقاة طالب خشن الطباع ومتين العضلات ؛ وذلك في لعبة الملاكمة. ولم أجد نفسي إلا وأنا مضرج بالدماء ؛ بعد أن تلقيت لكمة على أنفي !.
لقد تركت تلك ألأيام الجميلة السلسة الهادئة في نفوسنا ذكريات عذبة مفعمة بالرجاء ويالأمل ؛ بالرغم من كل تحفظات جماهير الشعب ومعارضاتهم المتواصلة لسياسة الحكومات المتعاقبة. فقد كانت الدولة العراقية ؛ بقيمها الروحية المتوارثة وتأريخها الضارب في القدم وتراثها الأصيل ودستورها الحديث ؛ كالقاطرة الهادرة ؛ متينة الصنع وثابتة على القضبان وهي تنطلق نحو هدفها المرسوم ؛ بالرغم من حداثة إنشائها. بينما توصف الحكومات المتعاقبة بركاب تلك القاطرة في تقلب أمزجتهم او إختلاف وجهات نظرهم او خصوماتهم السياسية.
وقد أنشئت الدولة ومنذ البداية وفق النمط المدني الدستوري الديمقراطي الحديث. فهي ملكية دستورية. والملك فيها مصون غير مسؤول. فكان إستقلال السلطات الثلاث : التشريعية والقضائية والتنفيذية واضحا نسبيا ؟. ولعل من أكثر ما كان يفاخر به العراقيون أيامئذ تلك الثلة المرموقة من رجال القضاء الكبار الذين عززوا سلطة القانون في المجتمع. فكانوا أندادا للقضاة المصريين بحق.
وكانت مؤسسات الدولة يحكمها الدستور والقوانين والشريعة. ويسير شؤونها اليومية النظام العام والموروث الإجتماعي السليم منذ آلآف السنين. لكن ذلك لم يمنعنا من القول بأنه مرت على البلد أحداث خلقت توترا سياسيا بين الحكومات والشعب. والإنصاف يحملنا على القول بأن تلك الحكومات كانت تدار من قبل أناس مخلصين لتربة الوطن ولوحدة أرضه وشعبه. أناس أطهار الذيل وعلى خلق رصين. ويعرف العالم بأنه كان لدى العراق قبل ما يزيد على الستة عقود من السنين أعلى نسبة من الإطباء الإختصاصيين والمهندسين والحقوقيين وألأكاديميين والخبراء من حملة الشهادات العليا التي حصلوا عليها من أرقى جامعات العالم مقارنة بدول المنطقة. كما كان هناك مفكرون من طراز رفيع وسياسيون وكتاب وشعراء يشار اليهم بالبنان. فكانوا قناديل تنير الطريق امام الشعب للمشاركة في بناء الدولة. ولا شك ان كل ذلك الرصيد الكبير من التقدم ما كان ليحصل لولا وجود منظومة تعليمية رصينة وإدارات مهنية متمكنة ومخلصة ؛ وجمهور يتطلع نحو مستقبل زاهر. فلو شاء القدر ليوجه التأريخ تحو سبيل آخر غير الذي سلكه عراقنا الحبيب بعد الإطاحة بذلك الحكم ليجد نفسه ؛ بعد قرابة الستة عقود ؛ في قاع العالم ؛ لرأيته اليوم في مصاف الدول المتقدمة. فقد إمتلك جميع مقومات الدولة العصرية ؛ من ثروات طبيعية ورجال من طراز رفيع وموقع إستراتيجي خطير وشعب متوثب ومكافح من أجل الحفاظ على إستقلال البلد وسيادته ووحدته.
* أكاديمي عراقي مغترب
التعليقات