"ضَرَبني وبَكى، وسَبَقني واشتكى"، مَثَل مَصري مُعَبّر مَعجون بالروح المَصرية ببساطتها وظُرفِها الذي عادة ما يَنعكِس على أمثِلتِها، والتي أراها الأكثر بَساطة ودَلالة مُقارنة ببَقية اللهجات العربية ومنها العراقية، التي لا تخلو مِن أمثلة جميلة مُعَبّرة، لكنها لا تشفي الغليل وتُصيب الهَدف كالمَصرية. ويُقال إنَّ روح المَثل مُقتبَسة مِن عِبَر التأريخ، كتِلك الحادثة التي تُروى عَن الخليفة عمر بن الخطاب، الذي جاءه رجل فُقئت عينُه يَشتكي مَن قام بذلك، وفي الوقت الذي أشفَق الحاضِرون على الرَجُل، وانتظروا أن يَحكُم عمر لصالحه، التفت إليهم قائلاً: "أنظروا أولاً لمَن فَقأ عينه، فلربما فُقِئَت عيناه معاً".
كثيرون في مُجتمعاتنا يَمتلكون مَوهبة أداء هذا المَثَل، ويتبَنّون فِكرته، ويُمارِسونه في تعامُلاتهم وعِلاقاتهم بالآخرين، إما قَصداً وخُبثاً أو سَذاجةً وتعَوّداً، لأنهم تَرَبّوا على ثقافة أنهم لا يُخطِؤن وكل ما يفعلونه صَحيح. لذا يَجهَلون ثقافة الإعتراف بالخطأ والإعتذار عَنه، وعِندما يُخطِئون ويَعتدون على الغَير، ويَرُد بالمِثل دفاعاً عَن نفسه، يَسعون لإيجاد المُبرّر لخطأهم وإعتدائهم، ويرفعون صَوتهم بالتهديد مَرّة، وبالشكوى مَرّة، مُطالِبين بمُحاسَبَته. بعض هؤلاء وهُم كُثر، يتبوّأ مراكز دينية وسياسية ومجتمعية وتربوية مهمة، فقد يكون وزيراً أو مَرجِعاً أو أستاذاً أو شيخ عشيرة، يَستغِل نفوذه ليُسيء لغَيره، ثم يَسبقه لمَن يَحكُم بينهم ليَتغدى به! أمثال هؤلاء يُشَجّع بَعضهم بَعضاً على الخطأ، لا سيّما إذا كان المُشتَكى عليه خَصمَهُما معاً، تَماشيا مع مَثل آخر تَتّبعه مُجتمعاتنا هو "أنا وأخي على ابن عَمّي، وأنا وابن عَمّي على الغريب" وهو ما تفعله اليوم قِوى محوَر الشَر. فبوتين يَتَغاضى عَن إرهاب الحوثي وقرصَنته للسُفن، لكنه يُحامي له حينما يَتِم قصفه لتأديبه ورَدعِه، والعكس. فالحوثي وقواعده وذبابه الألكتروني داعِم أساسي لغزو بوتين لأوكرانيا بل ويُبَرّره، وهكذا.
في العُقود الأخيرة، لم تعُد مَوهِبة أداء هذا المَثَل وتَبَنّيه كأسلوب تفكير وتعامُل مُقتصِراً على الأفراد والجَماعات، بل امتَد ليَشمَل أنظمة حُكُم حَوّلته إلى نظرية سياسة تتعامَل بها مع الآخرين. والأمثلة على ذلك كثيرة، أبرَزَها ما نلمَسه في طريقة تعامل إيران مع مُحيطها المُجتمعي والعالم. فقَبل سَنوات رَفَعت شَكوى لدى الأمم المُتحدة ضِد العراق مُطالِبة إيّاه بنَزع سِلاح الأحزاب المُعارِضة لها! بالرغم من أنه لا وجود لهكذا أحزاب، فلا يوجَد مُعارِض لنِظام المُلالي يَثِق بالعَمل في العراق وَسط ذيولها، ولا حُكومة عِراقية يُمكِنها أن تَسمَح بذلك، لأن القِوى التي تحكمه تابِعة لها. حتى الحَرب العراقية الإيرانية، بالرغم من أنَّ صدام هو مَن أعلنها رَسمياً في 22 أيلول (سبتمبر) 1980، إلا أن البادئ الفعلي بها كان إيران قبل هذا التاريخ عِبر قصفها لمَخافر العراق الحدودية، وحاول العراق حَل المَوضوع عَن طريق الأمَم المتحدة، بدَليل عَشَرات المُذكّرات الاحتجاجية التي قدّمَتها وزارة الخارجية العراقية، إلا أن إيران لم تتوقف، لأنها كانت تسعى لهَدَف اتضح فيما بَعد، وهو تصدير الثورة. لكنها، وتَماشياً مَع المَثل مَوضوع المَقال، كانت تُخطِّط ألا تبدو البادِئة بالحَرب رَسمياً، وذلك بأن تَستفِز العراق ليُعلن الحَرب مِن طَرَفه، ويَبدو الباديء والمُعتدي رَسمياً، ما يُتيح لها رَفع شِعار المَظلومية ولعِب دَور الضَحِيّة.
مؤخّراً قصَفت إيران منطقة سكنية في مدينة أربيل، ما أسفَر عَن سُقوط ضَحايا مَدنيين بَينَهم أطفال، وحين عوتِبَت، وبَدَلاً من الإعتذار، أجابَت بأن الهَدَف كان مَقَراً للموساد! رَغم أن مُستشار الأمن القومي قاسم الأعرجي، وهو مِن قيادات فيلق بدر الذي تأسّس في إيران ويُحسَب عليها، زار موقِع القصف ونَفى أكاذيبها! بل إن مُرتزقتها بالعراق صَرّحوا بوضاعتهم المعهودة، بأن على العراقيين شُكر إيران لأنها قدّمَت لهم خِدمة وخَلّصَتهم مِن مَقَر تجَسّس! المُتتبّع لسِياسة إيران وأتباعها سَيَرى أنهم سائِرون على هذا النَهج مُنذ عُقود، يتَحَرّشون بالغََير ويَستفزونه بخُبث ونَذالة، وحين يَرُد يَوِنّون ويَشتكون مَظلوميتهم الزائِفة. حَليفتها روسيا تسير على خُطاها، فبالرَغم من غَزَوها أوكرانيا لأسباب توَسّعية، إلا أنها تَدّعي أن أوكرانيا تُنَفِّذ أجندة غَربية، وعِندما تقصُف كييف ثم ترُد أوكرانيا، تشتكي وتَوِن وتلعب دَور الضَحِيّة.
مِن التأريخ الحَديث البعيد نتذكر قِصّة تأسيس دولة العراق الحديثة، التي أفتى بَعض مَراجع الشيعة ببُطلانها وعَدم شَرعية مؤسّساتها، ومَنَعوا أتباعهم مِن الدِراسة والتطَوّع والعَمل فيها. وحينما تأسّسَت ووقفت على قدَميها بهِمّة وسَواعِد شُركائِهم في الوطن، اتّهَموهم بتَهميشِهم واضطِهادِهم، تماشياً مع وَهَم وكِذبة المظلومية المُترَسِّخة بوَعيهم الجَمعي! لذا حين جاءتهم الفرصة بعد 2003، بَدأوا يَعتدون عليهم ويظلمونَهم، وَلَم يَروا ذلك ظُلماً وعُدواناً بل حَقاً مَشروعاً، ولكن حين يَرُد السُنة والأكراد دِفاعاً عَن النفس، أو يلوِّحون بخُطوة تدُق ناقوس خَطَر بإستحالة العيش مَعهم، كما حَدث باستفناء إقليم كردستان عام 2017، يوَلوِلون ويَلطُمون، ويُصبح السُنة إرهابيين بَعثيين صَدّاميين، بالرَغم من أنَّ أغلب كوادِر البَعث كانت مِن مُكوّنهم المُجتمعي، وليسَ مِن السُنّة! ويُصبح الأكراد انفصاليين، بالرَغم من أنهُم هُم مَن فَصَل العراق عَن عُمقه العَرَبي، في حين يَرتبط الأكراد مَعه بأوثَق العلاقات، وحَوّلوا مُحافظاته الجنوبية إلى حَديقة خلفية لإيران يَحكمها مُرتزقتها مِن سَقط مَتاعهم، في حين أن مُدُن إقليم كردستان هي اليوم الوحيدة التي تَجمَع كل العراقيين وتُحافِظ على وِحدتِهم. أيضاً مِن التأريخ الحَديث، حين ارتكب السَفّاح هتلر جَريمته بإحراق مَلايين اليَهود في الأفران، حَمّلهُم المَسؤولية، وصَوّر نفسه كضَحية لهم!
إقرأ أيضاً: هل يمكن للذكاء الاصطناعي توقع الموت... حقاً؟
مِن التأريخ الحَديث القَريب رأينا كيف اعتدى الحوثي على السعودية مِئات المَرات، وحينما كانت تَرد، كان يُوَلوِل ويُجَعّر بالمَظلومية، هو ومَن يتعاطفون مَعَه مِن قطعان الإسلام السياسي في المُجتمعات العربية والإسلامية. ومُؤخراً بدأ بقَرصَنة السُفن التجارية وقَطِع طُُرق المِلاحة الدولية بدَفع مِن أسياده لفتح جَبهة دعِم لحَماس، وهو لا يَرَى ذلك إعتداءً على الغَير، لكن حين يَرُد الغَير عليه، كما فعَلت أميركا مؤخراً يَسبُق بالشَكوى! طبعاً ما فعلته حَماس في7 تشرين الأول (أكتوبر) نَموذج صارخ على هذا المَثَل، فهي حين هاجَمَت حَفلاً جنوب إسرائيل، ثم توَغّلت في المُدُن وقتَلت وخَطَفت، لا ترى ذلك عُدواناً بل حَقاً تَجِد وقطعانها له المُبَرّرات، لكن حين يَرّدون عليها تختبيء في الأنفاق التي حَفَرَتها بسَرِقة أموال أهالي غزة، أو تتحَصّن بهِم كدروع بشَرية، لتشتَكي وتكسَب التعاطُُف عِندما يَتم استهدافَهُم! أما حَشد المُرتزقة الشَعبي في العراق، فيَرى بأن مِن حَقّه قصف قوات التحالف يومياً بمُسيّرات الحَرَس الثوري الإيراني، لكن حين يَرُد الأميركان ويقتلون إرهابياً من قياداته، مثل المَدعو أبو تقوى، يوَنونون ويُجَعّرون بالمَظلومية ويُسارعون بالشَكوى. بل وحتى إدِّعاءهم بأنهم تيجان رؤوس العراقيين وحُماة أعراضَهم يَدخل ضِمن هذا السِياق، فزَعيمَهم نوري المالكي هو مَن أطلق مِسوخ داعش مِن السجون، وأمَرَ الجيش بالانسِحاب مِن الموصل لتسليمها لهُم، ليَنوح بَعدها بكِذبة تهديد داعش للشيعة ومَراقدهم التي لم تمَسّها! في حين أبادَت السنة وسَوّت مُدنهم ومَراقِدهم بالأرض! ولِيوجِد مُبَرّراً لإطلاق فتوى الجِهاد الكِفائي، التي شَرعَنَت مليشياتهم الإرهابية، وجَمَعتها كالقِمامة في مَزبَلة الحَشد. فهي تَتَلذّذ بإستباحة حُرُمات العراقيين والطَعن بأعراضِهِم، إلا أنها توجِد بدائل مِن المُقابِل كداعِش لتقوم بهذا الأمر عَلناً، لتَعوي بَعدها وتتدَخّل وتَدّعي بأنها هي التي واجَهَتها وحَمَت الأعراض!
إقرأ أيضاً: أرى رؤوساً (في إيران) قد أينعت!
هنالك عَشَرات الأمثلة على شِيوع هذه الثقافة المُشَوّهة في بَعض المُجتمعات، أبرزها مُجتمعاتنا، وتشَبّعِها بها ومُمارسَتها لها بتَعامُلها مَع الآخرين، وأحياناً بدَعم مِن أنظمة شُمولية توَسّعية كنظام ملالي إيران، تغذيها في عًقول أفرادها وتُوَظِّفها كسياسة لخِدمة مَشاريعها التوَسّعية الشِريرة، لو أرَدنا أن نَذكرها كلها سَنحتاج لمُجَلدات! وللأسَف القضاء عليها لا يَتحَقّق بالرَد المُباشر فقط، وإن كان ضَرورياً لإيقاف أمثال هؤلاء عند حَدِّهم، لعَلّ بعضهُم يَصحو مِن وَهمه الفِكري ويتعافى مِن عَوَقه الذهني. فتوجيه الولايات المتحدة وبريطانيا قبل أيام ضربة لمَواقع الحوثيين العسكرية كان واجِباً، وجاء مُتأخراً، لأنهم لو لم يَفعلوا ذلك، لتَمادى الحوثيون بقَرصَنتِهم وإرهابِهم. فهُم لم يَجِدوا مَن يؤدّبهم، وكان لِزاماً أن يَفعل أحَّدهُم ذلك، لرَدعِهم وتجريدهِم مِن تِرسانتهم العسكرية الإيرانية. لكن الحَل الجَذري هو تثقيف هذا المُجتمعات على الإعتِراف بالخطأ، والاعتذار عَنه، والتعَلم مِنه. وطبعاً قبل كل ذلك بعِلاجها مِن لوثة الطائفية والتطرف الديني التي لحَسَت عقولها، وأماتَت ضَمائِرها، وجَعَلتها مِطية لأجندة سَماسِرة الإسلام السياسي، مِن أمثال المُعَمّم السَفّاح خامنئي والمُلَثّم الإرهابي أبو عبيدة.
التعليقات