"قررت المحكمة إحالة أوراق المتهم إلى فضيلة المفتي لأخذ الرأي الشرعي في إعدامه..." يمر هذا الصنف من الأخبار على الأعين والمسامع فتضطرب له كل نفس بما فيها، فنفس تنقبض أن نفسًا توشك أن تُزهق، ونفس تفرح لإقامة العدل ونفاذ القصاص، ونفس أخرى تكثر الجدال والتسآل:

ماذا لو كنا قبل إحالة الأوراق إلى فضيلة المفتي لأخذ الرأي الشرعي فى إعدامه، قد أحلنا أوراقه (صغيرًا) إلى فضيلة وزير التربية والتعليم لأخذ الرأي التربوي في إلحاقه بإحدى المدارس لتربيته وتعليمه؟!

إذًا لربما هذبته التربية وأصلحه التعليم فارعوى داعي السوء، وارتدع وسواس الشيطان، فحفظنا عليه نفسه، وحفظنا على الآخرين أنفسهم، وأعراضهم، وأموالهم، فإنَّ كثيراً من هؤلاء الجناة لو نظرت في تعليمهم لوجدتهم لم ينالوا حظاً من التعليم، بل لعلهم لم يلتحقوا بمدرسة في صغرهم، أو لم يداوموا عليها، فأي خير ترجو عند فاقد التربية والتعليم؟!

وماذا لو كنا قبل إحالة أوراق الجاني إلى فضيلة المفتي لأخذ الرأي الشرعي في إعدامه، قد أحلنا أوراقه وهو صبي حَدَثٌ إلى فضيلة وزير التضامن والشؤون الاجتماعية لاستطلاع الرأي الاجتماعي في إلحاقه إحدى دور الرعاية لينال فيها حظه المفروض له من الرحمة والرعاية يعتاض بها عن فقده والديه موتًا تحت عوادي الزمن، أو موتًا تحت عوادي التقصير، فكلاهما فَقْد ويُتم ينال الصغير ضُرُّه، وكم من هؤلاء الجناة الذين أفسدوا في الأرض إنما كانوا من المشردين لا أب قيِّم، ولا أم رؤوم، ولا طعام إلا الكسرة يتكففونها الناس، ولا دار تؤوي إلا أرصفة الطرقات، فهل زرعنا من البِرّ عند هؤلاء الصغار ما نرجوا اليوم ثمرته؟! أم هل تفقدناهم كبارا بتعليم، وعمل، وسكن، ومعاش فنحن نرجوا منهم استقامة وحُسن سيرة؟!

لقد ضَلَّ عنهم مفتشو التضامن وباحثو التكافل فأضاعوهم صغارا، وتغافلوا عنهم كبارا، فهل تُعدِم مُعدَمًا؟!

وماذا لو كنا قبل إحالة أوراق الجاني إلى فضيلة المفتي لأخذ الرأي الشرعي في إعدامه، قد أحلنا أوراقه إلى فضيلة وزير الوعظ والإرشاد (الأوقاف)، لأخذ الموافقة الشرعية على إقامة ندوات ومؤتمرات بالأحياء التى تكثر فيها الجريمة، فكم من كلمة ردّت الغويّ، وكم من موعظة هَدَت الضالّ الشقيّ!

إقرأ أيضاً: كيمياء الزمن

وماذا قبل أن نحيل أوراق الجاني إلى فضيلة المفتي لأخذ الرأي الشرعي في إعدامه، قد أحلنا أوراقه إلى فضيلة وزراء الثقافة والإعلام لأخذ الرأي الإعلامي والتثقيفي فيما يُلقى على أعين النشء وأسماعهم، أهو يؤلف بين الناس أم يغري بينهم العداوة والبغضاء؟ أهو يقوِّم ما اعوج من الخلق ويصلح ما فسد من القلوب؟ أم هو يضلهم ويزين لهم سيئ الأعمال حتى يروه حسنًا؟ فكم من فتى شاب، وفتاة شابة قداقترفوا من الإثم ما اقترفوا اتباعًا لمشهد رأوه، أو اقتداء بمقطع سمعوه!

إن تلك الوزارات والدواوين التى نوهت بها فى مقالتي هذه من: تربية، وتضامن، ووعظ، وثقافة وإعلام، هى وزارات خدمية فى محلها الثاني، لكنها في المحل الأول وزارات أمن قومي، ينبغى أن يتقدم عملها فى الميدان عمل الأمن والداخلية، وينبغى أن تسبق طلائع موظفيها طلائع العسكر والجند؛ لأنهم هم أول من يتلقون هؤلاء الهَمَل المعدمين من قبل أن يكونوا مجرمين، بل من قبل أن يهموا بجريمة، فيأخذونهم أخذ الرأفة والرحمة، والبر والإحسان حتى يهدوهم سواء السبيل، فإن أحسنت تلك الوزارات عملها وأصلحت، ولم تقصر، ولم يُقتر عليها، ولم يُزدرى عملها وعاملوها، فسيصلح الله بعملها هذا خلقًا كثيرا من هؤلاء الهَمَل، فينتفعوا وينفعوا، ويَصلحوا ويُصلحوا، وإذًا فلا نأسف بعدها على شقى تفلت فأخذته يد العدالة، وإذًا فيستريح المفتي، والقاضي، والحبل، والجلاد.

إقرأ أيضاً: يمام رمسيس

وأما إن قصرت تلك الوزارات، أو أُريدت على التقصير، أو أُخِّرت عن مواطنها وثغورها المؤتمنة عليها من المجتمع، فشقاء عظيم ينال هذا المجتمع، وأثقال عظام يحملها رجال الأمن والعدل والقضاء، ولن يستطيعوها وحدهم إلا أن يعينهم عليها هذا القيِّم في الملجأ، وهذا المعلم في المدرسة، وهذا الواعظ فوق المنبر، وهذا الإعلامي على الشاشة.